{ تيسير الرحمن باختصار شرح حديث في فضل الصيام }
ثبت في الصحيحين .عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي- صلى الله عليه و سلم- قال :" كل
عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال عز و جل : إلا
الصيام فإنه لي و أنا الذي أجزي به إنه ترك شهوته و طعامه و شرابه من أجلي
للصائم فرحتان : فرحة عند فطره و فرحة عند لقاء ربه و لخلوف فم الصائم
أطيب عند الله من ريح المسك "
تضاعف الأعمال الصالحة بعشر
أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإنه لا ينحصر تضعيفه في هذا العدد بل
يضاعفه الله عز و جل أضعافا كثيرة بغير حصر عدد فإن الصيام من الصبر و قد
قال الله تعالى : { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب }
و الصبر ثلاثة أنواع :
1- صبر على طاعة الله.
2- و صبر عن محارم الله.
3- و صبر على أقدار الله المؤلمة .
و تجتمع الثلاثة في الصوم فإن
فيه صبرا على طاعة الله و صبرا عما حرم الله على الصائم من الشهوات و صبرا
على ما يحصل للصائم فيه من ألم الجوع و العطش و ضعف النفس و البدن و هذا
الألم الناشىء من أعمال الطاعات يثاب عليه صاحبه كما قال الله تعالى في
المجاهدين : { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا
مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا
إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين }
و اعلم
أن مضاعفة الأجر للأعمال تكون بأسباب منها شرف المكان المعمول فيه ذلك
العمل كالحرم و لذلك تضاعف الصلاة في مسجدي مكة و المدينة كما ثبت ذلك في
الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : d]صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام ] و في رواية : d]فإنه أفضل ]
و منها : شرف الزمان كشهر رمضان و عشر ذي الحجة
و في الصحيح d]عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : عمرة في رمضان تعدل بحجة ]
و ذكر أبو بكر بن أبي مريم عن
أشياخه أنهم كانوا يقولون : إذا حضر شهر رمضان فانبسطوا فيه بالنفقة فإن
النفقة فيه مضاعفة كالنفقة في سبيل الله و تسبيحة فيه أفضل من ألف تسبيحة
في غيره قال النخعي : صوم يوم من رمضان
أفضل من ألف يوم و تسبيحة فيه أفضل من ألف تسبيحة و ركعة فيه أفضل من ألف
ركعة فلما كان الصيام في نفسه مضاعفا أجره بالنسبة إلى سائر الأعمال كان
صيام شهر رمضان مضاعفا على سائر الصيام لشرف زمانه
و كونه هو الصوم الذي فرضه الله
على عباده و جعل صيامه أحد أركان الإسلام التي بني الإسلام عليها و قد
يضاعف الثواب بأسباب أخر منها شرف العامل عند الله و قربه منه و كثرة
تقواه كما يضاعف أجر هذه الأمة على أجور من قبلهم من الأمم و أعطوا كفلين
من الأجر
و على هذا فيكون المعنى
: أن الصيام لله عز و جل فلا سبيل لأحد إلى أخذ أجره من الصيام بل أجره
مدخر لصاحبه عند الله عز و جل و حينئذ فقد يقال : إن سائر الأعمال قد يكفر
بها ذنوب صاحبها فلا يبقى لها أجر فإنه روي : [ أنه يوازن يوم القيامة بين
الحسنات و السيئات و يقص بعضها من بعض فإن بقي من الحسنات حسنة دخل بها
صاحبها إلى الجنة ] قاله سعيد بن جبير و غيره.
فيحتمل أن يقال في الصوم إنه لا يسقط ثوابه بمقاصة و لا غيرها بل يوفر أجره لصاحبه حتى يدخل الجنة فيوفى أجره فيها
و أما قوله : ] فإنه لي ] فإن الله خص الصيام بإضافته إلى نفسه دون سائر الأعمال و قد كثر القول في معنى ذلك ,
و من أحسن ما ذكر فيه وجهان : أحدهما
: أن الصيام هو مجرد ترك حظوظ النفس و شهواتها الأصلية التي جبلت على
الميل إليها لله عز و جل و لا يوجد ذلك في عبادة أخرى غير الصيام لأن
الإحرام إنما يترك فيه الجماع و دواعيه من الطيب دون سائر الشهوات من
الأكل و الشرب و كذلك الإعتكاف مع أنه تابع للصيام و أما الصلاة فإنه و إن
ترك المصلي فيها جميع الشهوات إلا أن مدتها لا تطول فلا يجد المصلي فقد
الطعام و الشراب في صلاته بل قد نهي أن يصلي و نفسه تشوق إلى طعام بحضرته
حتى يتناول منه ما يسكن نفسه , فإنه يستوعب النهار كله فيجد الصائم فقد
هذه الشهوات و تشوق نفسه إليها خصوصا في نهار الصيف لشدة حره و طوله ,
و قد كان رسول الله صلى الله
عليه و سلم يصوم رمضان في السفر في شدة الحر دون أصحابه كما قاله أبو
الدرداء : كنا مع النبي صلى الله عليه و سلم في رمضان في سفر و أحدنا يضع
يده على رأسه من شدة الحر و ما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه و
سلم و عبد الله بن رواحة , و في الموطأ : إنه صلى الله عليه و سلم كان
بالعرج يصب الماء على رأسه و هو صائم من العطش أو الحر فإذا اشتد توقان
النفس إلى ما تشتهيه مع قدرتها عليه ثم تركته لله عز و جل في موضع لا يطلع
عليه إلا الله كان ذلك دليلا على صحة الإيمان فإن الصائم يعلم أن له ربا
يطلع عليه في خلوته و قد حرم عليه أن يتناول شهواته المجبول على الميل
إليها في الخلوة فأطاع ربه و امتثل أمره و اجتنب نهيه خوفا من عقابه و
رغبة في ثوابه فشكر الله تعالى له ذلك و اختص لنفسه عمله هذا من بين سائر
أعماله و لهذا قال بعد ذلك :
e]إنه إنما ترك شهواته و طعامه و شرابه من أجلي
] قال بعض السلف : طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعد غيب لم يره , و لهذا
كثير من المؤمنين لو ضرب على أن يفطر في شهر رمضان لغير عذر لم يفعل لعلمه
لكراهة الله لفطره في هذا الشهر و هذا من علامات الإيمان أن يكره المؤمن
ما يلائمه من شهواته إذا علم أن الله يكره فتصير لذته فيما يرضى مولاه و
إن كان مخالفا لهواه
و لهذا جعل النبي صلى الله عليه
و سلم من علامات وجود حلاوة الإيمان أن يكره أن يرجع إلى الكفر بعد أن
أنقذه الله كما يكره أن يلقى في النار و قال يوسف عليه السلام : { رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه
} سئل ذو النون المصري متى أحب ربي ؟ قال : إذا كان ما يكرهه أمر عندك من
الصبر و قال غيره : ليس من أعلام المحبة أن تحب ما يكرهه حبيبك و كثير من
الناس يمشي على العوائد دون ما يوجبه الإيمان و يقتضيه فلهذا كثير منه لو
ضرب ما أفطر في رمضان لغير عذر و من جهالهم من لا يفطر لعذر و لو تضرر
بالصوم مع أن الله يحب منه أن يقبل رخصته جريا على العادة و قد اعتاد مع
ذلك ما حرم الله من الزنا و شرب الخمر و أخذ الأموال و الأعراض أو الدماء
بغير حق فهذا يجري على عوائده في ذلك كله لا على مقتضى الإيمان و من عمل
بمقتضى الإيمان صارت لذته في مصابرة نفسه عما تميل نفسه إليه إذا كان فيه
سخط الله و ربما يرتقي إلى أن يكره جميع ما يكره الله منه و ينفر منه و إن
كان ملائما للنفوس كما قيل :
( إن كان رضاكم في سهري ... فسلام الله على وسني )
و قال آخر :
( عذابه فيك عذاب ... و بعده فيك قرب )
( و أنت عندي كروحي ... بل أنت منها أحب )
( حسبي من الحب أني ... لما تحب أحب )
الوجه الثاني :
إن الصيام سر بين العبد و ربه لا يطلع عليه غيره لأنه مركب من نية باطنة
لا يطلع عليها إلا الله و ترك لتناول الشهوات التي يستخفي بتناولها في
العادة و لذلك قيل : لا تكتبه الحفظة و قيل : إنه ليس فيه رياء كذا قاله
الإمام أحمد و غيره و فيه حديث مرفوع مرسل و هذا الوجه اختيار أبي عبيد و
غيره و قد يرجع إلى الأول فإن من ترك ما تدعوه نفسه إليه لله عز و جل حيث
لا يطلع عليه غير من أمره و نهاه دل على صحة إيمانه و الله تعالى يحب من
عباده أن يعاملوه سرا بينهم و بينه و أهل محبته يحبون أن يعاملوه سرا
بينهم و بينه بحيث لا يطلع على معاملتهم إياه سواه حتى كان بعضهم يود لو
تمكن من عبادة لا تشعر بها الملائكة الحفظة و قال بعضهم : لما اطلع على
بعض سرائره إنما كانت تطيب الحياة لما كانت المعاملة بيني و بينه سرا ثم
دعا لنفسه بالموت فمات المحبون يغارون من اطلاع الأغيار على الأسرار التي
بينهم و بين من يحبهم و يحبونه
( نسيم صبا تجد متى جئت حاملا ... تحيتهم فاطوا الحديث عن الركب )
( و لا تدع السر المصون فإنني ... أغار على ذكر الأحبة من صحبي )
و قوله : e]ترك شهوته و طعامه و شرابه من أجلي ]
: فيه إشارة إلى المعنى الذي ذكرناه و أن الصائم يقرب إلى الله بترك ما
تشتهيه نفسه من الطعام و الشراب و النكاح و هذه أعظم شهوات النفس و في
التقرب بترك هذه الشهوات بالصيام فوائد :
منها : كسر النفس فإن الشبع و الري و مباشرة النساء تحمل النفس على الأشر و البطر و الغفلة
و منها: تخلي القلب للفكر و الذكر فإن تناول هذه الشهوات قد تقسي القلب و تعميه و تحول بين العبد و بين الذكر و الفكر و تستدعي الغفلة
و منها
: أن الغني يعرف قدر نعمة الله عليه بإقداره له على ما منعه كثيرا من
الفقراء من فضول الطعام و الشراب و النكاح فإنه بامتناعه من ذلك في وقت
مخصوص و حصول المشقة له بذلك يتذكر به من منع من ذلك على الإطلاق فيوجب له
ذلك شكر نعمة الله عليه بالغنى و يدعوه إلى رحمة أخيه المحتاج و مواساته
بما يمكن من ذلك
و منها
: أن الصيام يضيق مجاري الدم التي هي مجاري الشيطان من ابن آدم فإن
الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فتسكن بالصيام وساوس الشيطان و تنكسر
سورة الشهوة و الغضب و لهذا جعل النبي صلى الله عليه و سلم [ الصوم وجاء ]
لقطعه عن شهوة النكاح
و اعلم
أنه لا يتم التقرب إلى الله تعالى بترك هذه الشهوات المباحة في غير حالة
الصيام إلا بعد التقرب إليه بترك ما حرم الله في كل حال من الكذب و الظلم
و العدوان على الناس في دمائهم و أموالهم و أعراضهم و لهذا قال النبي صلى
الله عليه و سلم : [ من لم يدع قول الزور و العمل به فليس لله حاجة في أن
يدع طعامه و شرابه ] خرجه البخاري و في حديث آخر : [ ليس الصيام من الطعام
و الشراب إنما الصيام من اللغو و الرفث ]
و قال جابر : إذا صمت فليصم
سمعك و بصرك و لسانك عن الكذب و المحارم و دع أذى الجار و ليكن عليك وقار
و سكينة يوم صومك و لا تجعل يوم صومك و يوم فطرك سواء
( إذا لم يكن في السمع مني تصاون ... و في بصري غض و في منطقي صمت )
( فحظي إذا من صومي الجوع و الظمأ ... فإن قلت إني صمت يومي صمت )
و قال النبي صلى الله عليه و سلم : e]رب صائم حظه من صيامه الجوع و العطش و رب قائم حظه من قيامه السهر ] و سر هذا
: أن التقرب إلى الله تعالى بترك المباحات لا يكمل إلا بعد التقرب إليه
بترك المحرمات فمن ارتكب المحرمات ثم تقرب إلى الله تعالى بترك المباحات
كان بمثابة من يترك الفرائض و يتقرب بالنوافل و إن كان صومه مجزئا عند
الجمهور بحيث لا يؤمر بإعادته لأن العمل إنما يبطل بارتكاب ما نهي عنه فيه
لخصوصه دون ارتكاب ما نهي عنه لغير معنى يختص به هذا هو قول جمهور العلماء
.
و لهذا المعنى و الله أعلم ورد
في القرآن بعد ذكر تحريم الطعام و الشراب على الصائم بالنهار ذكر تحريم
أكل أموال الناس بالباطل فإن تحريم هذا عام في كل زمان و مكان بخلاف
الطعام و الشراب فكان إشارة إلى أن من امتثل أمر الله في اجتناب الطعام و
الشراب في نهار صومه فليمتثل أمره في اجتناب أكل الأموال بالباطل فإنه
محرم بكل حال لا يباح في وقت من الأوقات والله أعلم .
و قوله صلى الله عليه و سلم : d]و للصائم فرحتان : فرحة عند فطره و فرحة عند لقاء ربه ]
أما فرحة الصائم عند فطره فإن
النفوس مجبولة على الميل إلى ما يلائمها من مطعم و مشرب و منكح فإذا منعت
من ذلك في وقت من الأوقات ثم أبيح لها في وقت آخر فرحت بإباحة ما منعت منه
خصوصا عند اشتداد الحاجة إليه . فكما أن الله تعالى حرم على الصائم في
نهار الصيام تناول هذه الشهوات فقد أذن له فيها في ليل الصيام بل أحب منه
المبادرة إلى تناولها في أول الليل و آخره فأحب عباده إليه أعجلهم فطرا و
الله و ملائكته يصلون على المتسحرين ,
فإذا بادر الصائم إلى الفطر تقربا إلى مولاه و أكل و شرب و حمد الله فإنه يرجى له المغفرة أو بلوغ الرضوان بذلك و في الحديث : e]إن الله ليرضى عن عبده أن يأكل الأكلة فيحمده عليها و يشرب الشربة فيحمده عليها ]
و ربما استجيب دعاؤه عند ذلك كما جاء في الحديث المرفوع الذي خرجه ابن
ماجه : [ إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد و إن نوى بأكله و شربه تقوية
بدنه على القيام و الصيام كان مثابا على ذلك كما أنه إذا نوى بنومه في
الليل و النهار التقوى على العمل كان نومه عبادة ] قالت حفصة بنت سيرين :
قال أبو العالية : الصائم في عبادة ما لم يغتب أحدا و إن كان نائما على
فراشه فكانت حفصة تقول : يا حبذا عبادة و أنا نائمة على فراشي خرجه عبد
الرزاق فالصائم في ليله و نهاره في عبادة و يستجاب دعاؤه في صيامه و عند
فطره فهو في نهاره صائم صابر و في ليله طاعم شاكر و في الحديث الذي خرجه
الترمذي و غيره : e]الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر ]
و من فهم هذا الذي أشرنا إليه لم يتوقف في معنى فرح الصائم عند فطره فإن
فطره على الوجه المشار إليه من فضل الله و رحمته فيدخل في قول الله تعالى
: { قل بفضل الله و برحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون }
و لكن شرط ذلك أن يكون فطره على حلال فإن كان فطره على حرام كان ممن صام
عما أحل الله و أفطر على ما حرم الله و لم يستجب له دعاء كما قال النبي
صلى الله عليه و سلم في الذي يطيل السفر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب
و مطعمه حرام و مشربه حرام و ملبسه و غذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك
فرحة الصائم عند لقاء ربه
و أما فرحه عند لقاء ربه : فيما يجده عند الله من ثواب الصيام مدخرا فيجده أحوج ما كان إليه كما قال تعالى : { و ما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا و أعظم أجرا } و قال تعالى : { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا } و قال : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره
} و قد تقدم قول ابن عيينة : أن ثواب الصيام لا يأخذه الغرماء في المظالم
بل يدخره الله عنده للصائم حتى يدخله به الجنة و في المسند [ عن عقبة بن
عامر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ليس من عمل يوم إلا يختم عليه ]
و عن عيسى عليه السلام قال : إن هذا الليل و النهار خزانتان فانظروا ما
تضعون فيهما فالأيام خزائن للناس ممتلئة بما خزنوه فيها من خير و شر و في
يوم القيامة تفتح هذه الخزائن لأهلها فالمتقون يجدون في خزائنهم العز و
الكرامة و المذنبون يجدون في خزائنهم الحسرة و الندامة
و الصائمون على طبقتين :
إحداهما
: من ترك طعامه و شرابه و شهوته لله تعالى يرجو عنده عوض ذلك في الجنة
فهذا قد تاجر مع الله و عامله و الله تعالى { لا نضيع أجر من أحسن عملا }
و لا يخيب معه من عامله بل يربح عليه أعظم الربح و قال رسول الله صلى الله
عليه و سلم : [ إنك لن تدع شيئا اتقاء الله إلا أتاك الله خيرا منه ] خرجه
الإمام أحمد فهذا الصائم يعطى في الجنة ما شاء الله من طعام و شراب و نساء
قال الله تعالى : { كلوا و اشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية }
قال مجاهد و غيره : نزلت في الصائمين قال يعقوب بن يوسف الحنفي : بلغنا أن
الله تعالى يقول لأوليائه يوم القيامة : يا أوليائي طالما نظرت إليكم في
الدنيا و قد قلصت شفاهكم عن الأشربة و غارت أعينكم و جفت بطونكم كونوا
اليوم في نعيمكم و تعاطوا الكأس فيما بينكم : { كلوا و اشربوا هنيئا بما
أسلفتم في الأيام الخالية } و قال الحسن : تقول الحوراء لولي الله و هو
متكىء معها على نهر العسل تعاطيه الكأس : إن نظر إليك في يوم صائف بعيد ما
بين الطرفين و أنت في ظمأها حرة من جهد العطش فباهى بك الملائكة و قال :
انظروا إلى عبدي ترك زوجته و شهوته و لذته و طعامه و شرابه من أجلي رغبة
فيما عندي اشهدوا إني قد غفرت له فغفر لك يومئذ و زوجنيك و في الصحيحين عن
النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل
منه الصائمون لا يدخل منه غيرهم ] و في رواية : [ فإذا دخلوا أغلق ] و في
رواية : [ من دخل منه شرب و من شرب لم يظمأ أبدا ]
و عن بعض السلف قال : بلغنا أنه
يوضع للصوام مائدة يأكلون عليها و الناس في الحساب فيقولون : يا رب نحن
نحاسب و هم يأكلون فيقال : إنهم طالما صاموا و أفطرتم وقاموا و نمتم رأى
بعضهم بشر بن الحارث في المنام و بين يديه مائدة و هو يأكل و يقال له : كل
يا من لم يأكل و اشرب يا من لم يشرب كان بعض الصالحين قد صام حتى انحنى و
انقطع صوته فمات فرآه بعض أصحابه في المنام فسأله عن حاله فضحك و أنشد
( قد كسي حلة البهاء و طافت ... بالأباريق حوله الخدام )
( ثم حلى و قيل يا قاريء ارقه ... فلعمري لقد براك الصيام )
اجتاز بعض الصالحين بمناد ينادي
على السحور في رمضان : يا ما خبأنا للصوام فتنبه بهذه الكلمة و أكثر من
الصيام رأى بعض العارفين في منامه كأنه أدخل الجنة فسمع قائلا يقول له :
هل تذكر أنك صمت لله يوما قط فقال : نعم قال فأخذتني صوانيء النار من
الجنة من ترك لله في الدنيا طعاما و شرابا و شهوة مدة يسيرة عوضه الله
عنده طعاما و شرابا لا ينفذ و أزواجا لا يمتن أبدا , كان بعض الصالحين
كثير التهجد و الصيام فصلى ليلة في المسجد و دعا فغلبته عيناه فرأى في
منامه جماعة علم أنهم ليسوا من الآدميين بأيديهم أطباق عليها أرغفة بياض
الثلج فوق كل رغيف در كأمثال الرمان فقالوا : كل فقال إني أريد الصوم
قالوا له يأمرك صاحب هذا البيت أن تأكل قال : فأكلت و جعلت آخذ ذلك الدر
لاحتمله فقالوا له : دعه نغرسه لك شجرا ينبت لك خيرا من هذا قال : أين ؟
قالوا : في دار لا تخرب و ثمر لا يتغير و ملك لا ينقطع و ثياب لا تبلى
فيها رضوى و عينا وقرة أعين أزواج رضيات مرضيات راضيات لا يغرن و لا يغرن
فعليك بالإنكماش فيما أنت فإنما هي غفوة حتى ترتحل فتنزل الدار فما مكث
بعد هذه الرؤيا إلا جمعتين حتى توفي فرآه ليلة وفاته في المنام بعض أصحابه
الذين حدثهم برؤياه و هو يقول : لا تعجب من شجر غرس لي في يوم حدثتك و قد
حمل فقال له : ما حمل ؟ قال : لا تسأل لا يقدر أحد على صفته لم ير مثل
الكريم إذا حل به مطيع يا قوم ألا خاطب في هذا الشهر إلى الرحمن ألا راغب
فيما أعده الله للطائعين في الجنان ألا طالب لما أخبر به من النعيم المقيم
مع أنه ليس الخبر كالعيان
( من يرد ملك الجنان ... فليدع عنه التواني )
( و ليقم في ظلمة الليـ ... ل إلى نور القرآن )
( و ليصل صوما بصوم ... إن هذا العيش فاني )
( إنما العيش جوار اللـ ... ه في دار الأمان )
الطبقة الثانية من الصائمين
: من يصوم في الدنيا عما سوى الله فيحفظ الرأس و ما حوى و يحفظ البطن و ما
وعى و يذكر الموت و البلى و يريد الآخرة فيترك زينة الدنيا فهذا عيد فطره
يوم لقاء ربه و فرحه برؤيته :
( أهل الخصوص من الصوام صومهم ... صون اللسان عن البهتان و الكذب )
( و العارفون و أهل الإنس صومهم ... صون القلوب عن الأغيار و الحجب )
العارفون لا يسليهم عن رؤية مولاهم قصر و لا يرويهم دون مشاهدته نهر هممهم أجل من ذلك :
( كبرت همة عبد ... طمعت في أن تراك )
( من يصم عن مفطرات ... فصيامي عمن سواك )
من صام عن شهواته في الدنيا أدركها غدا في الجنة و من صام عما سوى الله فعيده يوم لقائه من كان يرجوا لقاء الله فإن أجل الله لآت
( و قد صمت عن لذات دهري كلها ... و يوم لقاكم ذاك فطر صيامي )
رؤي بشر في المنام فسئل عن حاله
؟ فقال : علم قلة رغبتي في الطعام فأباحني النظر إليه و قيل لبعضهم : أين
نطلبك في الآخرة ؟ قال : في زمرة الناظرين إلى الله قيل له : كيف علمت ذلك
؟ قال : بغض طرفي له عن كل محرم و باجتنابي فيه كل منكر و مأثم و قد سألته
أن يجعل جنتي النظر إليه
( يا حبيب القلوب مالي سواكا ... ارحم اليوم مذنبا قد أتاكا )
( ليس لي في الجنان مولاي رأي ... غير أني أريدها لأراكا )
يا معشر التائبين
صوموا اليوم عن شهوات الهوى لتدركوا عيد الفطر يوم اللقاء لا يطولن عليكم
الأمل باستبطاء الأجل فإن معظم نهار الصيام قد ذهب و عيد اللقاء قد اقترب
( إن يوما جامعا شملي بهم ... ذاك عيدي ليس لي عيد سواه )
و قوله : d]و لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك
] : خلوف الفم : رائحة ما يتصاعد منه من الأبخرة لخلو المعدة من الطعام
بالصيام و هي رائحة مستكرهة في مشام الناس في الدنيا لكنها طيبة عند الله
حيث كانت ناشئة عن طاعته و ابتغاء مرضاته كما أن دم الشهيد يجيء يوم
القيامة يثغب دما لونه لون الدم و ريحه ريح المسك .
و في طيب ريح خلوف الصائم عند
الله عز و جل معنيان : أحدهما : أن الصيام لما كان سرا بين العبد و بين
ربه في الدنيا أظهره الله في الآخرة علانية للخلق ليشتهر بذلك أهل الصيام
و يعرفون بصيامهم بين الناس جزاء لإخفائهم صيامهم في الدنيا .
قال مكحول : يروح أهل الجنة
برائحة فيقولون : ربنا ما وجدنا ريحا منذ دخلنا الجنة أطيب من هذه الريح
فيقال : هذه رائحة أفواه الصوام و قد تفوح رائحة الصيام في الدنيا و
تستنشق قبل الآخرة و هو نوعان : أحدهما : ما يدرك بالحواس الظاهرة كان عبد
الله بن غالب من العباد المجتهدين في الصلاة و الصيام فلما دفن كان يفوح
من تراب قبره رائحة المسك فرؤي في المنام فسئل عن تلك الرائحة التي توجد
من قبره فقال : تلك رائحة التلاوة و الظمأ
و النوع الثاني : ما تستنشقه
الأرواح و القلوب فيوجب ذلك للصائمين المخلصين المودة و المحبة في قلوب
المؤمنين و [ حديث الحارث الأشعري عن النبي صلى الله عليه و سلم : أن
زكريا عليه السلام قال لبني إسرائيل : آمركم بالصيام فإن مثل ذلك كمثل رجل
في عصابة معه صرة فيها مسك فكلهم تعجبه ريحه و أن ريح الصيام أطيب عند
الله من ريح المسك ] خرجه الترمذي و غيره لما كان أمر المخلصين بصيامهم
لمولاهم سرا بينه و بينهم أظهر الله سرهم لعباده فصار علانية فصار هذا
التجلي و الإظهار جزاء لذلك الصون و الإسرار.
( تذلل أرباب الهوى في الهوى عز ... و فقرهم نحو الحبيب هو الكنز )
( و سترهم فيه السرائر شهرة ... و غير تلاف النفس فيه هو العجز )
و المعنى الثاني
: أن من عبد الله و أطاعه و طلب رضاه في الدنيا بعمل فنشأ من عمله آثار
مكروهة للنفوس في الدنيا فإن تلك الآثار غير مكروهة عند الله بل هي محبوبة
له و طيبة عنده لكونها نشأت عن طاعته و اتباع مرضاته فإخباره بذلك
للعاملين في الدنيا فيه تطبيب لقلوبهم لئلا يكره منهم ما وجد في الدنيا
قال بعض السلف : وعد الله موسى ثلاثين ليلة أن يكلمه على رأسها فصام
ثلاثين يوما ثم وجد من فيه خلوفا فكره أن يناجي ربه على تلك الحال فأخذ
سواكا فاستاك به فلما أتى لموعد الله إياه قال له : يا موسى أما علمت إن
خلوف فم الصائم أطيب عندنا من ريح المسك ارجع فصم عشرة أخرى و لهذا المعنى
كان دم الشهيد ريحه يوم القيامة كريح المسك و غبار المجاهدين في سبيل الله
ذريرة أهل الجنة ورد في حديث مرسل : [ كل شيء ناقص في عرف الناس في الدنيا
حتى إذا انتسب إلى طاعته و رضاه فهو الكامل في الحقيقة خلوف أفواه
الصائمين له أطيب من ريح المسك ] عري المحرمين لزيارة بيته أجمل من لباس
الحلل نوح المذنبين على أنفسهم من خشيته أفضل من التسبيح انكسار المخبتين
لعظمته هو الجبر ذل الخائفين من سطوته هو العز تهتك المحبين في محبته أحسن
من الستر بذل النفوس للقتل في سبيله هو الحياة جوع الصائمين لأجله هو
الشبع عطشهم في طلب مرضاته هو الري نصب المجتهدين في خدمته هو الراحة .
إنتهى .
والحمد لله رب العالمين .
{ اختصرته من كتاب : " لطائف المعارف " للحافظ ابن رجب – رحمه الله تعالى - }
أبوسعد الأثري
عفا الله عنه
Abosa3ad@hotmail.com