الحمدُ للهِ ربِّ العالَمين , والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا الكريم وبعدُ :
• قال اللهُ - عز وجل - : { ألا للهِ الدِّينُ الْخالِصُ } [ الزُّمَر : 3 ] .
- قال ابنُ كثير : أي لا يقبلُ من العملِ إلا ما أخلصَ فيه العاملُ للهِ ، وحدَه لا شريكَ له .
- وقال - سبحانه - : { ومَا أُمِرُوا
إلا لِيَعْبدُوا اللهَ مُخلِصينَ له الدِّينَ حُنَفاءَ ويُقيموا الصَّلاةَ
ويُؤتوا الزكاةَ وذلك دينُ القيِّمَةِ } [ البينة : 5 ] .
- قال البَغَويُّ : قال النضرُ بنُ
شُمَيْلٍ : سألتُ الخليلَ بنَ أحْمدَ عن قولِه : "وذلك دينُ القيمة " فقال
: " القيِّمةُ " جَمعُ القيِّمِ ، والقيِّمُ والقائِمُ واحدٌ ومَجازُ
الآيةِ : وذلك دينُ القائمين للهِ بالتوحيدِ .
- وقال الشوكانِيُّ : قال الزجَّاجُ : أي ذلك دينُ الْمِلةِ الْمُستقيمةِ .
- ويقولُ سبحانه : { قُلْ إنّ صَلاتِي
ونُسُكِي وَمَحْيايَ ومَمَاتِي للهِ ربِّ العالَمِينَ * لا شريكَ لهُ
وبذلكَ أُمِرْتُ وأنا أوّلُ الْمُسلمين } [ الأنعام : 162 , 163 ] .
• فإخلاصُ النيِّةِ سِرُّ العبوديةِ
وأساسُها , ولبُّها وقِوامُها , بِها تَميّزَ الصحابِيُّ عن المنافقِ ,
والعالِمُ الربّانِيُّ عن مُبتغي الشهرةِ شَهْوةً وأمانِي , والشهيدُ عن
قتيلِ السوءِ جُرْأةً وعُدْوانِ . فالعناية بِها إحْكامٌ لقواعدِ الأعمالِ
, وإصلاحٌ لإصداراتِ الأقوال . واللهُ لا يقبلُ العملَ إلا بشرطين ,
مُقدَّمُهما الإخلاصُ , وأنْ يوافقَ العملُ السُّنةَ .
• قال الفُضَيْلُ بنُ عِياضٍ في قوله –
تعالى - : { لِيَبْلوكمْ أيُّكم أحسنُ عملاً } قال : أخلصُه وأصوبُه .
وقال : العملُ لا يُقبلُ حتى يكونَ خالصًا صوابًا . الْخالصُ : إذا كان
لله . والصوابُ : إذا كان على السنةِ .
• والإخلاصُ هو المعركةُ الكبرى للنفس
الصادقةِ مع الهوى , التي اشتدَّ نِزالُها , وحَمِيَ وطيسُها منذ وُجِدَ
التكليفُ . وكيف لا يكون لها هذا الشأن والله يقولُ في الحديثِ القدُسِيِّ
الذي يرويه مُسلمٌ وغيرُه من حديثِ أَبِي هُرَيرَةَ , قال : قال رسولُ
اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : (( قال اللهُ تَبارَك وتعالَى : أَنا
أَغنى الشُّرَكاءِ عن الشِّرْكِ ؛ من عمِلَ عملاً أَشركَ فيه معي غيْرى
تركتهُ وشِرْكَهُ )) .
وفي رواية عند ابن خُرَيْمةَ : (( فأنا منهُ بريءٌ , وَلْيَلتمِسْ ثوابَه مِنهُ )) .
• يقولُ ابنُ الْجَوْزيُّ في " تلبيس
إبليس " : ( ومتى لَم يُردْ بالعملِ وجهَ اللهِ - عز وجلَّ - لَم يُقبلْ .
قال مالكُ بنُ دينار : " قولوا لِمَنْ لَمْ يكنْ صادقاً : لا تتعبْ " .
وأعلمْ أنّ المؤمنَ لا يريدُ بعملِه
إلا اللهَ - سبحانه وتعالى - وإنّما يدخلُ عليه خَفِيُّ الرياءِ
فيُلَبَّسُ الأمرَ , فنجاته منه صعبةٌ . وفي الحديثِ مرفوعاً عن يسار :
قال لِي يوسفُ بنُ أسباط : تعلموا صِحّةَ العمل من سَقمِهِ ؛ فإنِي تعلمته
في اثنتين وعشرين سنة . اهـ
• يقولُ سُلطانُ الشمّريُّ في كتابِه : ( الإخلاصُ لِمَن أرادَ الخلاصَ ) :
( نَحتاجُ إلى الحديثِ عن الإخلاص ؛
لأننا - وللهِ الْمُشتكى - قد أصابتنا جراحاتُ الذنوبِ , فمنا أسيرٌ ومنا
كسيرٌ , ومنا مقطوعٌ ومنا مسحورٌ ومنا مسمومٌ .كلٌّ لَحِقَ به ما لَحِقهُ
من آثار الذنوبِ والمعاصي والآفاتِ ؛ لِهذا نَجدُ أنّ السلفَ أنفعَ منّا
كلاماً . قيلَ لِحَمْدونِ بنِ أحْمدَ : ما بالُ كلامِ السلفِ أنفعُ من
كلامِنا ؟ قال : لأنّهم تكلموا لِعِزِّ الإسلام ونَجاةِ النفوسِ ورِضى
الرَّحْمن , ونَحنُ نتكلمُ لِعِزِّ النفوسِ وطربِ الدنيا ورضى الخلقِ .
فيا إخوانُ نَحتاجُ إلى أنْ نُراجعَ
نيّاتِنا , فنُصلحَ ما مزَّقته يدُ الغفلةِ , والشهوةِ , ونعمِّرَ منها ما
خربته يدُ البطالةِ ، ونُوقِدَ فيها ما أطفأته أهويةُ النفوسِ ,
ونُلمْلِمَ منها ما شعَّثته يدُ التفريطِ والإضاعةِ , ونستردَّ مِن
نوايانا ما نَهَبته أكفُّ اللصوص والسُّرّاقِ , ونقلعَ ما وجدناه شوكاً
وحنظلاً ، ونداويَ منها الجراحاتِ التي أصابتها من جناياتِ الريّاءِ
والشركِ , ونغسلَ منها الأوساخَ التي أصابتها بسببِ الخطايا والسيئاتِ ,
ونطهرَّها بالماءِ الباردِ من ينابيع الصدقِ , الخالصِ من جَميعِ
المكدِّراتِ , قبل أنْ يكونَ طهورها بالحميم والجحيم ؛ فإنه لا يُجاورُ
الرحْمنَ قلبٌ دنِسٌ ؛ فإن الجنةَ دارٌ طيبةٌ أعِدِّت للطيبين , وليس
للدَّنَسِ فيها مكانٌ , إنه لا يُجاورُ الرحْمنَ قلبٌ دنِس بأوساخ
الشهواتِ والريّاءِ أبدا ً.
ولابدَّ من طهورٍ ؛ إمّا هنا , وإمّا هناك , واللبيب يُؤثِرُ أسهلَ الطهورين وأنفعَهُما ) .
- وقال : ويظنُّ كثيرٌ من الناس أنّ الإخلاصَ من الأمور السهلةِ التي يستطيعُ كلُّ أحدٍ تَحقيقَها دون أدنَى مُجاهدةٍ .
والواقعُ خلافُ ذلك ، فالإخلاصُ يَحتاجُ إلى مُجاهدةٍ قبلَ العمل , وأثناءَ العمل , وبعدَ العمل .
قبل العمل : بأنْ يقصدَ بعملِه وجهَ اللهِ - عزّ وجلّ - ويُصَفيهِ عن مُلاحظةِ المخلوقين .
وأثناءَ العمل : تكونُ الْمُجاهدةُ في
الحفاظِ على هذه النيّةِ الصادقةِ ؛ فإنّ الإنسانَ قد يكونُ مُخلصاً في
ابتداءِ العمل ، فإذا دخلَ في العملِ واستقرَّ فيه ذلك , جاءه الشيطانُ
فوسوسَ له ، وزيّن له إطلاعَ الخلق على عملِه ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وبعد العمل : تكونُ الْمُجاهدةُ برؤيةِ التقصير في العملِ , وعدم استحسانِه والعُجبِ به , واستحقاقِه الثوابَ عليه .
وقال سفيانُ الثوريُّ : ما عالَجتُ شيئاً أشدَّ عليَّ من نيَّتِي ؛ إنّها تتقلبُ عليَّ .
وقال نُعَيْمُ بنُ حَمّادٍ : ضربُ السيّاطِ أهونُ علينا من النيِّةِ الصالحةِ .
وقال الفضيلُ : تركُ العمل لأجل الناس رياءٌ ، والعملُ من أجلِ الناس شركٌ , والإخلاصُ أنْ يعافِيَكَ اللهُ منهما ) اهـ .
• قال ابنُ القيِّمِ في " المدارج " : قال صاحبُ " المنازل " : الإخلاصُ تصفيةُ العملِ من كلِّ شَوْبٍ .
أي : لا يُمازجُ عملَه ما يشوبُه مِن
شوائبِ إراداتِ النفسِ ؛ إمّا طلبُ التزين في قلوبِ الخلقِ ؛ وإمّا طلبُ
مدحِهم والْهربُ من ذمِّهم ؛ أو طلبُ تعظيمِهم ؛ أو طلبُ أموالِهم أو
خِدمتِهم ومَحبّتِهم وقضائِهم حوائِجَهُ , أو غيرُ ذلك من العِلل والشوائب
.
- وقال في " بدائع الفوائد " : الكلامُ
في مسألةِ النيةِ شديدُ الارتباطِ بأعمال القلوبِ , ومعرفةِ مراتبِها
وارتباطِها بأعمال الجوارحِ , وبنائِها عليها , وتأثيرِها فيها صِحّةً
وفساداً . وإنّما هي الأصلُ المرادُ المقصودُ , وأعمالُ الجوارح تبعٌ ,
ومكملة ومتممة , وأنّ النيةَ بِمنْزلةِ الروحِ , والعملَ بِمنزلةِ الجسدِ
للأعضاءِ الذي إذا فارق الروحَ فمَوَاتٌ , وكذلك العمل إذا لَم تصحبْهُ
النيةُ فحركةُ عابثٍ .
فمعرفةُ أحكامِ القلوبِ أهمُّ من معرفةِ أحكام الجوارح ؛ إذ هي أصلها وأحكامُ الجوارح متفرعةٌ عليها .
- وقال : ويُفرَّقُ بين النيةِ
المتعلقةِ بالمعبودِ - التي هي من لوازم الإسلام وموجَباتِه , بل هي روحُه
وحقيقته التي لا يقبلُ اللهُ من عامل عملاً بدونِها البتّةَ - وبين النيةِ
المتعلقةِ بنفس العملِ , التي وقعَ فيها النّزاعُ في بعضِ المواضعِ , ثمّ
يُعرفُ ارتباطها بالعمل , وكيف قصَدَ به تَمييزَ العبادةِ عن العادةِ ؛ إذ
كانا في الصورةِ واحداً , وإنّما يَتمَيّزانِ بالنيةِ , فإذا عدمت النية
كان العملُ عاديّا لا عباديّاً , والعاداتُ لا يُتقرّبُ بِها إلى بارىءِ
البريّاتِ وفاطر المخلوقاتِ , فإذا عَريَ العملُ عن النيّةِ كان كالأكل
والشربِ والنومِ الحيوانِيِّ البهيميِّ , الذي لا يكون عبادة بوجهٍ ,
فضلاً أنْ يُؤمَرَ به ويُرَتبُ عليه الثوابُ والعقابُ , والمدحُ والذمُّ .
وما كان هذا سبيله لَم يكن من المشروع للتقربِ به إلى الربِّ تبارك وتعالى
.
- وقال : فالنيّةُ هي سِرُّ العبوديةِ
وروحُها , ومَحلها من العمل مَحَلَُّ الروح من الجسدِ , ومُحالٌ أنْ
يُعْتَبَرَ في العبوديةِ عملٌ لا نِيّةَ معه , بل هو بِمنزلةِ الجسدِ
الخرابِ . وهذا معنى الأثرِ الْمَرويِّ موقوفا على أمير المؤمنين عمرَ -
رضي الله عنه - : لا عملَ لِمَن لا نيّةَ له , ولا أجرَ لِمن لا حِسبةَ له
. اهـ .
• وقال يحيي بنُ أبي كثير : تعلموا النيَّةَ ؛ فإنها أبلغُ من العمل [ حلية الاولياء ] .
• وقال سهلُ بنًُ عبدِ اللهِ : ليس على النفس شيءٌ أشقَّ من الإخلاصِ ؛ لأنه ليس لها فيه نصيبٌ . [ جامع العلوم والحكم ] .
• وقال يوسفُ بنُ الحسين : أعزّ شيءٍ
في الدنيا الإخلاصُ , وكم أجْتهِدُ في إسقاطِ الرياءِ عن قلبي وكأنه
ينبُتُ فيه على لونٍ آخرَ . [ مختصر تاريخ دمشق لابن منظور ] .
• وقال الربيعُ بنُ خثيم : كلُّ ما لا يُرادُ به وجهَ اللهِ يَضمَحِلُّ . [ الطبقات الكبرى لابن سعد ] .
• وقال أبو سليمان الداراني : إذا أخلص العبدُ ، انقطعت عنه كثرةُ الوساوس والرياءُ . [ الرسالة القشيرية ] .
• وعن مَعْمَرٍ قال : كان يُقالُ : إنّ
الرجلَ ليَطلبُ العلمَ لِغيْرِ اللهِ , فيأبَى عليه العلمُ حتى يكونَ للهِ
. [ مصنف عبد الرزاق ] .
• وقال سفيان : ما عالجت شيئاً أشدَّ عليَّ من نيَّتي ؛ إنها تنقلبُ عليَّ . [ الحلية ] .
• وقال يوسفُ بنُ أسباط : تَخليصُ النيةِ من فسادِها أشدُّ على العاملين من طول الاجتهاد . [ الدينوري في الْمُجالسة ] .
• وقال ابن القيم : العملُ بغير إخلاص ولا اقتداءٍ كالمُسافر يملأ جِرابَه رملاً , يثقله ولا ينفعه . [ بدائع الفوائد ] .
• قال شيخُ الإسلام : النيِّةُ لَها رُكنانِ : أحدُهُما : أنْ يَنويَ العبادةَ و العملَ .
والثانِي : أنْ ينويَ الْمَعبودَ
الْمعمولَ له , فهو المقصودُ بذلك العملِ , والمرادُ به الذي عُمِلَ
العملُ من أجله , كما بيّنه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقولِه : ((
إنّما الاعمالُ بالنيّاتِ , و إنّما لكلِّ امرءٍ ما نوى , فمن كانت هجرته
إلى اللهِ ورسولِه فهجرته إلى الله و رسوله , ومن كانت هجرته إلى دنيا
يُصيبُها أو امرأةٍ يتزوجُّها , فهجرتُه إلى ما هاجرَ اليه )) . فمَيّزَ
صلى اللهُ عليه وسلم بين من كان عمله للهِ ومن كان عمله لِمالٍ أو نكاحٍ .
والذي يَجبُ ان يكونَ العملُ له هو اللهُ سبحانه وحدَه لا شريك له ؛ فإن
هذه النيةَ فرضٌ في جَميع العباداتِ , بل هذه النيةُ أصلُ جَميع الأعمال ,
ومنزلتها منها منزلةُ القلبِ من البدنِ , ولا بدّ في جَميع العباداتِ أن
تكونَ خالصةً للهِ - سبحانه - كما قال تعالى : { إنّا أنزلنا إليك الكتابَ
بالحقِّ فاعْبُدِ اللهَ مُخلِصاً له الدِّينَ * ألا للهِ الدينُ الخالصُ }
... هذه حقيقةُ الإسلامِ , وما في
القرانِ من قولِه : { اعبدوا اللهَ ولا تُشركوا به شيئاً } وقولِه : { وما
خلقتُ الجنَّ والإنسَ الا ليعبدونِ } وقولِه : { إيّاكَ نعبدُ و إيّاكَ
نستعينُ } إلى غير ذلك من الآياتِ , كلها تدلُّ على هذا الأصل , بل جِماعُ
مقصودِ الكتابِ والرسالةِ هو هذا , وهو معنى قولِ : ( لا الهَ الا اللهُ )
وهو دينُ اللهِ الذي بعث به جََميعَ الْمُرسلين .
وضِدُّ هذه النيةِ الرياءُ والسُّمْعةُ
, وهو إرادةُ أن يرى الناسُ عملَه , وأن يسمعوا ذِكرَه , وهؤلاء الذين
ذمَّهمُ اللهُ - تعالى - في قوله : { فوَيْلٌ لِلمُصَلينَ * الذين هُمْ عن
صلاتِهم ساهون * الذين هم يُراؤون } وقال : { وإذا قاموا إلى الصلاةِ
قاموا كُسَالَى يُراؤونَ الناسَ } ومَنْ صلى بِهذه النيّةِ فعمله باطلٌ ,
يَجعله اللهُ هباءً منثوراً .
والكلامُ في هذه النيّةِ وتفاصيلِها لا
يَختصُّ بعبادَةٍ دون عبادةٍ ؛ إذ الفعلُ بدونِ هذهِ النيةِ ليس عبادةً
أصلا . [ شرحُ العُمْدةِ : 4 / 577 ] .
• وقد ضربَ الصحابةُ – رضوان الله
عليهم – أروعَ الأمثلةِ في حِرْصِهم على صِدقِ النية , وخوفِهم الشديدِ من
الرياءِ , فقد روى الترمذيُّ في سُننهِ عن عُقبةَ بنِ مسلم أنّ شُفَيًّا
الأَصْبَحِيََ حَدَّثهُ :
أنهُ دخلَ الْمدينةَ فإذا هو برجلٍ قدِ
اجْتمعَ عليهِ الناسُ , فقال من هذا فقالوا : أبو هُريْرةَ . قال :
فدنوْتُ منهُ حتى قعدتُ بين يدَيهِ وهو يُحدِّثُ الناسَ , فلمّا سكت وخلا
قلت له : أَنشُدُك بِحقِّ وبِحقِّ لَمَا حدَّثتنِي حديثًا سَمِعتَهُ من
رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - عَقَلتهُ وعَلِمْتهُ . فقال أبو هريرةَ
أفعَلُ , لأُحَدِّثنَّكَ حديثًا حدَّثنيهِ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه
وسلم - عَقَلْتُهُ وعلِمتُهُ . ثمَّ نَشَغَ أَبُو هريرةَ نَشْغَةً [ أي :
شِهِقَ وغُشِيَ عليه / النهاية ] , فمَكثَ قليلاً ثُمَّ أفاقَ فقال :
لأحَدِّثنَّكَ حديثًا حدَّثنيهُ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - في
هذا البيتِ ما معنا أحدٌ غيْرى وغيْرُهُ . ثُمَّ نَشَغَ أبو هريرةَ
نَشْغَةً أخرى ثمَّ أفاقَ فمَسحَ وجهَهُ فقال : لأُحدِّثنَّك حديثًا
حَدّثنيهِ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وأنا وهو في هذا البيتِ ما
معنا أحدٌ غيْري وغيْرُه . ثمّ نَشَغَ أبو هريرةَ نَشْغَةً أخرى ثم أفاق
ومسح وجهَه فقال : أفعلُ , لأُحَدّثنكَ حديثًا حدَّثنيهُ رسول اللَّهِ -
صلى الله عليه وسلم - وأنا معَهُ في هذا البيتِ ما معَهُ أحدٌ غيْري
وغيْرُهُ . ثم نَشَغَ أبو هريرةَ نَشْغَةً شديدةً ثُمَّ مالَ خارًّا على
وجهِهِ فأسندتهُ عليَّ طويلاً ثُمَّ أفاق فقالَ : حدَّثني رسولُ اللَّهِ -
صلى الله عليه وسلم - :
(( أنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى إذا كان
يومُ الْقيامةِ ينْزلُ إِلى العبادِ لِيَقضيَ بينهمْ وكلُّ أمّةٍ جاثيةٌ ,
فأوَّلُ مَنْ يدعو به رجلٌ جَمَعَ الْقرآنَ , ورجلٌ قُتِلَ في سبيلِ
اللَّهِ , ورجلٌ كثيرُ الْمالِ , فيقولُ اللَّهُ للقارئِ : ألَمْ
أعَلّمْكَ ما أنزلْتُ على رسولي ؟ قال : بلى يا ربِّ . قال : فماذا
عمِلْتَ فيمَا عُلِّمْتَ ؟ قَالَ : كنتُ أقومُ به آناءَ الليل ِوآناءَ
النَّهارِ .
فيقولُ اللَّهُ لهُ :كذبْتَ , وتقولُ
له الملائكةُ :كذبتَ ويقولُ اللَّهُ لهُ : بلْ أردْتَ أنْ يُقالَ : إنّ
فُلاَناً قارئٌ , فقدْ قِيلَ ذاكَ . ويُؤتى بصاحِبِ الْمالِ فيقولُ
اللَّهُ لهُ : ألَمْ أوَسِّعْ عليك حتى لَمْ أدعكَ تَحتاجُ إلَى أحدٍ ؟
قالَ : بلى يا رَبِّ . قالَ : فماذا عَمِلتَ فيما آتيتُكَ ؟ قالَ : كنتُ
أصِلُ الرَّحِمَ وأتصدَّقُ .
فيقولُ اللَّهُ لهُ :كذبْتَ , وتقولُ
لهُ الْملائكةُ : كذبْتَ , ويقولُ اللَّه تعالَى : بلْ أردتَ أنْ يُقالَ
فلانٌ جوادٌ , فقدْ قِيلَ ذاكَ .
ويؤتَى بالذي قُتِلَ في سبيلِ اللَّهِ
, فيقولُ اللَّهُ لَهُ : في ماذا قُتِلتَ ؟ فَيَقُولُ : أُمِرْتُ
بالْجِهادِ في سبيلِكَ فقاتلتُ حتى قتِلْتُ .
فيقولُ اللَّهُ تَعَالَى لهُ : كذبْتَ
, وتقولُ لهُ الْملائكةُ : كذبْتَ , ويقولُ اللَّهُ : بلْ أردْتَ أنْ
يُقالَ فُلانٌ جرىءٌ , فَقَدْ قِيلَ ذاكَ )) .
ثُمَّ ضربَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله
عليه وسلم - على رُكبتِى فقال : (( يا أبا هُريرةَ , أُولئِكَ الثَّلاثةُ
أوَّلُ خلقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهمُ النَّارُ يومَ القيامةِ )) .
- وقالَ الوليدُ أبو عُثمانَ :
فأخبرنِي عُقبةُ بنُ مُسلمٍ أنَّ شُفَيًّا هو الذي دخلَ على مُعاوِية
فأخبرهُ بِهذا . قال أبو عثمانَ : وحدّثنِي العلاءُ بنُ أبي حكيمٍ أنَّه
كانَ سَيَّافًا لِمُعاويةَ , فدخلَ عليهِ رجلٌ فأخبرهُ بِهذا عنْ أَبي
هُريرةَ فقالَ مُعاويةُ : قَدْ فُعِلَ بِهؤلاءِ هذا , فكيف بِمنْ بقيَ من
الناس . ثُمَّ بكى مُعاويةُ بُكاءً شديدًا حتَّى ظننَّا أنهُ هالِكٌ ,
وقلنا : قد جاءنا هذا الرَّجلُ بِشرٍّ , ثُمَّ أفاقَ مُعاويةُ ومسحَ عن
وجهِه وقالَ : صدقَ اللَّهُ ورسولهُ : {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ
فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى الآخِرَةِ
إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ } [ هود : 15 ] .
[ رواه الترْمِذيُّ , وصحَّحّه الألبانِيُّ . والحديثُ في " مسلم " دونَ قصّةِ أبِي هُريرة ومعاوية ] .
- إذا كان هذا حالُ الصَّحابِيَّيْنِ
الْجَليليْن معَ هذا الحديثِ , فماذا يقولُ مَن لَمْ يبلغْ نعلا أبِي
هُريرة ومُعاويةَ , ولا شُسْعَهُما ؟ اللهم إنّا نسألك السلامة .
• يقولُ الشيخُ ابنُ باز – رحمهُ اللهُ – في شرحِه لحديثِ : (( إنما الأعمال بالنيات )) :
هذا حديثٌ عظيمٌ ، قال بعضُ أهلِِ العلمِ : إنه نِصفُ الدِّين ؛ لأنّ الشرعَ نِصفان: نصفٌ يتعلقُ بالقلوبِ , ونصفٌ يتعلق بالظاهر .
وهذا يتعلقُ بالقلوبِ ، والشرائِعُ
الأخرى تتعلق بالظاهر ؛ الصلاة والزكاة والصيام وغيرُ ذلك ممّا يتعلق
بالظاهر ، مع ما في القلوب . فهذا يتعلق بالقلوب وأنه هو الأساس ، ما في
القلبِ هو الأساسُ ، لو صلى وهو لم ينوي الصلاة , أو صام ما نوى الصيامَ ,
أو زكى ما نوى الزكاة , أو حجّ ولا نوى الحجّ , فعلَ أعماله من غير نية
وغير ذلك ، لا تصيرُ عبادة ، لابد من النية .
" إنما الأعمال بالنيات " هذا حصرٌ ، وله شواهدُ ، وهو حديثٌ فردٌ لكن له
شواهدُ:
مثلُ حديثِ (( لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية )) فذكرَ النية .
ومثلُ قولِه - صلى الله عليه وسلم – :
(( إن اللهَ لا ينظرُ إلى صُوَرِكم ولا إلى أموالِكم , ولكن ينظرُ إلى
قلوبِكم وإلى أعمالِكم )) .
وهناك أدلة كثيرة تدلّ إلى عِظمِ شأن القلبِ , وما يتعلق بالقلبِ ، لكن هذا الحديثُ خُصَّ بهذا . .
(( إنما الأعمال بالنيات )) يعني صِحّة
وفساداً , وقبولاً وردّاً ، وعِظمُ الثوابِ وقلةِ الثوابِ حَسَبِ ما في
القلوبِ من الإخلاصِ للهِ , والصِدْقِ والرغبةِ لما عندَ اللهِ وما يترتبُ
على ذلك .
(( وإنما لكل امرئ ما نوى )) ليس له
إلا ما نوى ، فمن نوى بعبادتِه وجه َ اللهِ فله ما نوى , وإن نوى رياءَ
الناس فله ما نوى ، وهذا يُوجبُ الإخلاصَ في الأعمال وأنّ المؤمنَ يُلاحظُ
قلبَه في كلِّ أعمالِه ؛ إذا صلى إذا صام إذا اتبعَ الجنازةَ , إذا عاد
مريضاً , إذا باع واشترى , إلى غير ذلك ، يكون له نية صالحة فى تصرفاتِه
وأعماله يريد وجهَ الله والدارَ الآخرةَ , يريدُ ما أحَلَّ اللهُ , وتركَ
ما حَرّمَ اللهُ , يريدُ الأجرَ في كذا وكذا , وهكذا ، فيتبع الجنازة
يريدُ الأجرَ , لا رياءً ولا سُمعة ، يصلي يريدُ وجهَ الله ، يصومُ يريدُ
وجهَ الله ، يؤدي الزكاة يريدُ وجهَ اللهِ ، إلى غير ذلك .
قال بعضُهم : إنه شطرُ الدِّين كما
تقدم , والشطرُ الآخرُ حديثُ عائشة : (( مَنْ أحْدثَ في أمرنا هذا ما ليس
منه فهو ردٌّ )) , (( من عَمِل عَملاً ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ )) هذا
يتعلق بالأمرِ الظاهر , والحكمِ الظاهر , وأنه لا بدَّ من موافقةِ الشرع ,
فالدينُ ينقسمُ قسمين : - قسمٌ يتعلق بالنيةِ ، وفيه حديثُ عمرَ .
- وقسمٌ يتعلقُ بالظاهرِِ , وفيه حديثُ
عائشة , وما جاء فى معناه مِمّا يتعلق بالتحذير من البدع , وأنْ لابدَّ من
أن تكونَ الأعمالُ على وَفْقِِ الشرع .
شرطُ العمل أمران : :
- أن يكونَ للهِ .
- وأن يكونَ مُوافقاً للشرع . .
فالذي للهِ داخلٌ في قولِه : (( شهادة
أنْ لا إله إلا الله )) ، والذي مُوافقٌ للشرع داخلٌ في (( شهادة أن
محمداً رسول الله )) فلا بدّ أن يكونَ العملُ موافقاً لِـ ( لا إله إلا
الله ) وموافقاً لِشهادة ( أن محمداً رسول الله) يكونُ فيه الإخلاصُ ,
ويكونُ فيه الموافقة للشرع ، هذه داخلة في جميع أنواع العبادةِ ، جميع
التعبّدات ، إنْ كانت لغير صارتْ شِرْكاً ، وإن كانت على غير الشريعةِ
صارت بدعة ، فلا بدّ في العمل الذي يتقربُ به الإنسان ويتعبدُ به ، لا بدّ
أن يكونَ لله ولا بدّ أنَ يكون موافقاً للشريعةِ , كما قال تعالى { فمَنْ
كان يرجو لقاءَ ربِّه فليَعْمَلْ عملاً صالحاً} هذه موافقةُ الشرع { ولا
يُشركْ بعبادةِ ربِّه أحداً } هذا الإخلاصُ ، لابدّ أنْ يوافقَ الشرعَ ,
ولا بدّ أنْ يكونَ للهِ وحدَه .
ولا تكونُ الأعمالُ صالحةً ولا زاكيةً ولا مقبولة إلا بالشرطين ، أن تكونَ للهِ وأنْ تكونَ موافقة للشريعة . اهـ
* و قال ابن عثيمين في شرحِه لهذا الحديث :
الأعمالُ جمعُ عمل ، ويشملُ أعمالَ القلوبِ وأعمالَ النطقِ ، وأعمالَ الجوارحِ ، فتشملُ هذه
الجملةُ الأعمالَ بأنواعِها .
فالأعمالُ القلبيةُ : ما في القلبِ من الأعمالِ : كالتوكل على الله ، والإنابةِ إليه ، والخشيةِ منه وما
أشبهَ ذلك .
والأعمالُ النطقيّة : ماينطِقُ به اللسانُ ، وما أكثرَ أقوالِ اللسانِ ، ولا أعلمُ شيئاً من الجوارحِ أكثرَ
عملاً مِنَ اللسان ، اللهمّ إلا أنْ تكونَ العينُ أو الأذنُ .
والأعمالُ الجوارحيّةُ : أعمالُ اليدين والرِّجلين وما أشبهَ ذلك .
( الأعمالُ بِالنيّاتِ ) النيّات : جمعُ نِيّةٍ وهي : القصدُ .
وشرعا ً: العزمُ على فِعْلِ العبادةِ تقرّباً إلى الله – تعالى - ومَحَلها القلبُ ، فهي عملٌ قلبيٌّ
ولاتعَلقَ للجوارحِ بها .
( وإنّما لِكلِّ امرئٍ ) أي : لكلِّ إنسانٍ مَا نوى , أي : ما نواه .
وهنا مسألةٌ : هل هاتان الجملتان بمعنىً واحدٍ ، أو مختلفتان ؟
الجوابُ : يجبُ أنْ نعلمَ أنّ الأصلَ في الكلام التأسيسِ دون التوكيدِ .
ومعنى التأسيس : أنّ الثانيةَ لها معنىً مستقلٌّ .
ومعنى التوكيد ُ: أنّ الثانية بمعنى الأولى .
وللعلماءِ - رحمهم الله - في هذه المسألةِ رأيان :
يقولُ أولهما : إنّ الجملتان بمعنىً واحدٍ ، فقد قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم – ( إنّما الأعمالُ
بالنيّاتِ ) وأكد ذلك بقولِه : ( وإنّما لكلِّ امرئٍ ما نَوَى ) .
والرأيُ الثاني يقولُ : إنّ الثانيةَ غيرُ الأولى ، فالكلامُ من بابِ التأسيسِ , لامن بابِ التوكيدِ .
والقاعدةُ : أنّه إذا دار الأمرُ بين كونِ الكلامِ تأسيساً أو توكيداً , فإننا نجعلُه تأسيساً ، وأنْ نجعلَ
الثاني غيرَ الأوّلِ ؛ لأنك لو جعلت الثاني هو الأوّلَ صار في ذلك تكرارٌٌ يحتاجُ إلى أنْ نعرفَ
السببَ .
والصوابُ : أنْ الثانيةَ غيرُ الأولى ، فالأولى باعتبارِ المَنوي , وهو العملُ . والثانية باعتبارِ
المَنْوي له , وهو المعمولُ له ، هل أنتَ عَمِلتَ لله , أو عملت للدّنيا . ويدُلُّ لهذا مافرّعَه عليه
النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في قولِه : ( فمَنْ كانت هِجْرته إِلَى اللهِ ورسولِه فهجْرتهُ إلَى اللهِ
ورسولِه ) وعلى هذه فيبقى الكلامُ لاتكرارَ فيه .
والمقصودُ من هذه النيةِ تمييزُ العاداتِ من العباداتِ ، وتمييزُ العباداتِ بعضِها مِن بعض .
وتمييزُ العاداتِ من العباداتِ مثاله :
أوّلا : الرجلُ يأكلُ الطعامَ شهْوةً فقط ، والرجلُ الآخرُ يأكلُ الطعامَ امتثالاً لأمرِ اللهِ - عزّ وجلَّ –
في قولِه : { وكلوا واشْرَبُوا } ( الأعراف : الآية 31 ) فصارَ أكلُ الثاني عبادةً ، وأكلُ الأوّلِ
عادةً .
ثانياً : الرجلُ يغتسلُ بالماءِ تبردا ً، والثاني يغتسلُ بالماءِ من الجَنابةِ ، فالأولُ عادةٌ ، والثاني
عبادةٌ ؛ ولهذا لوكان على الإنسان جَنابة , ثم انغمسَ في البحر للتبردِ ثم صلى فلا يُجْزئه ذلك ؛
لأنه لابدّ من النية ، وهو لم ينوِ التعبّدَ , وإنما نوى التبرّدَ .
ولهذا قال بعضُ أهلِ العلمِ : عباداتُ أهلِ الغفلةِ عاداتٌ ، وعاداتُ أهلِ اليَقظةِ عباداتٌ .
عباداتُ أهل الغفلةِ عاداتٌ , مثاله : مَنْ يقومُ ويتوضأ ويصلي ويذهبُ على العادةِ .
وعاداتُ أهل اليقظةِ عباداتٌ مثاله : مَن يأكلُ امتثالاً لأمر اللهِ ، يريدُ إبقاءَ نفسِه ، ويريدُ التكففَ
عن الناس ، فيكونُ ذلك عبادةً . ورجلٌ آخرُ لبس ثوباً جديداً , يريدُ أنْ يترفعَ بثيابه ، فهذا
لايؤجرُ ، وآخرُ لبسَ ثوباً جديداً يريدُ أنْ يُعَرِّفَ الناسَ قدْرَ نعمةِ اللهِ عليه , وأنّه غنيٌّ ، فهذا
يُؤجرُ . ورجلٌ آخرُ لبس يومَ الجُمُعةِ أحسن ثيابه ؛ لأنه يومُ جُمُعةٍ ، والثاني لبس أحسن ثيابه
تأسِّياً بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فهو عبادة .
تمييزُ العبادات بعضِها من بعضٍ مثاله :
رجلٌ يُصلي رَكعتين يَنوي بذلك التطوعَ ، وآخرُ يُصلي ركعتين ينوي بذلك الفريضةَ ، فالعملان
تمَيّزا بالنيةِ ، هذا نفلٌ وهذا واجبٌ ، وعلى هذا فقِسْ .
إذاً المقصودُ بالنيّة : تمييزُ العباداتِ بعضِها من بعضٍ ؛ كالنفل مع الفريضةِ ، أوتمييز العباداتِ
عن العاداتِ .
واعلمْ أنّ النيّة محلها القلبُ ، ولايُنطقُ بها إطلاقا ؛ لأنك تتعبّدُ لِمَن يعلمُ خائنةَ الأعيُن وما تخفي
الصدورُ ، واللهُ - تعالى - عليمٌ بما في قلوبِ عبادِه ، ولست تريدُ أنْ تقومَ بين يديِِ مَن لايعلمُ
؛ حتى تقولَ : أتكلمُ بما أنوي ليعلمَ به ، إنما تريدُ أنْ تقفَ بين يَدَيِ من يعلمُ ما توسوسُ به نفسُك
ويعلمُ مُستقبلك وماضيك وحاضرَك . ولهذا لم يَرِدْ عن رسول اللهِ ولاعن أصحابه - رضوانُ اللهِ
عليهم - أنهم كانوا يتلفّظون بالنيّةِ ؛ ولهذا فالنّطقُ بها بدعة يُنهى عنه ؛ سرّاً أو جهراً ، خلافاً لمَن
قال مِن أهل العلم : إنه يُنطق بها جهراً ، وبعضُهم قالَ : يُنطقُ بها سِرّاً ، وعللوا ذلك من أجل أن
يطابقَ القلب اللسان .
يا سبحان الله ! أين رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن هذا ؟ لوكان هذا من شرع الرسولِ
- صلى الله عليه وسلم - لفعله هو وبيّنه للناس .
-
وهنا مسألة : إذا قال قائلٌ : قولُ المُلبّي : لبّيْكَ اللهمّ عمرةً ، ولبّيْكَ حجّا ، ولبّيك اللهمّ عمرة
وحجّا ، أليس هذا نطقا بالنّية ؟
فالجوابُ : لا ، هذا مِن إظهار شعيرةِ النُّسكِ ؛ ولهذا قال بعضُ العلماءِ : إنّ التلبية في النسكِ
كتكبيرةِ الإحرام في الصلاة ، فإذا لم تلبِّ لم ينعقِدِ الإحرامُ ، كما أنه لو لم تكبرْ تكبيرة الإحرام
للصلاةِ ما انعقدتْ صلاتك .
ولهذا ليس من السنّة أن نقولَ ما قاله بعضُهم : اللهمّ إني أريدُ نسُكَ العمرةِ ، أو : أريدُ الحجَّ
فيسّره لي ؛ لأن هذا ذِكرٌ يحتاجُ إلى دليل , ولادليلَ . إذاً اُنكِرُ على من نطق بها ، ولكن بهدوءٍ
بأن أقولَ له : يا أخي هذه ما قالها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابُه ، فدعْها .
فإذا قال : قالها فلانٌ في كتابهِ الفلانيِّ ؟
فقلْ له : القولُ ما قالَ اللهُ - تعالى -ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .
( وإنّما لكلِّ امْرئٍ ما نَوَى ) هذه هي نيّة المعمولِ له . والناسُ يتفاوتون فيها تفاوتاً عظيماً، حيث
تجدُ رجلين يصلّيان بينهما أبعدُ ممّا بين المشرق والمغربِ , أو ممّا بين السماءِ والأرضِ في
الثوابِ ؛ لأن أحدَهما مُخلصٌ ؛ والثاني غيرُ مُخلصٍ .
وتجدُ شخصين يطلبان العلمَ في التّوحيدِ ، أو الفقهِ ، أو التفسير ، أو الحديثِ ، أحدُهما بعيدٌ من
الجنّة , والثاني قريبٌ منها ، وهما يقرآن في كتابٍ واحدٍ وعلى مدرّسٍ واحدٍ . فهذا رجلٌ طلب
دراسةَ الفقهِ من أجلِ أن يكونَ قاضياً , والقاضي له راتبٌ رفيعٌ , ومرتبة ٌرفيعة ، والثاني درس
الفقهَ من أجل أن يكونَ عالماً مُعلماً لأمةَِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - فبينهما فرقٌ عظيمٌ .
قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ( مَنْ طَلَبَ عِلمَاً وهو مِمّا يُبْتغى بِه وجهُ اللهِ لا يُريدُ إِلا أنْ
يَنالَ عَرَضاً مِنَ الدّنْيا لمْ يَرِحْ رائِحةَ الجنّةِ ) أخلِصِ النية للهِ عزّ وجلّ .
ثم ضرب النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مثلاً بالمهاجر فقال :
( فمَنْ كانت هِجرتهُ ) الهجرة في اللغة : مأخوذةٌ من الهَجْرِ , وهو التركُ .
وأمّا في الشرع فهي : الانتقالُ من بلدِ الكفر إلى بلدِ الإسلام .
وهنا مسألة : هل الهجرة واجبة أو سنة ؟
والجوابُ : أنّ الهجرةَ واجبة على كلِّ مؤمنٍ لايستطيعُ إظهارَ دينِه في بلدِ الكفرِ ، فلا يتمُّ إسلامُه
إذا كان لايستطيعُ إظهارَه إلا بالهجرةِ ، وما لايتمُّ الواجبُ إلا به فهو واجبٌ . كهجرةِ المسلمين
من مكةَ إلى الحبشةِ ، أو من مكة إلى المدينةِ .
( فمَنْ كانت هِجْرتهُ إلى اللهِ ورسولِهِ فهجرتهُ إلَى اللهِ ورسولِهِ ) كرجل انتقلَ من مكة قبلَ الفتح
إلى المدينةِ يُريدُ اللهَ ورسولَه ، أي : يُريدُ ثوابَ اللهِ ، ويريدُ الوصولَ إلى اللهِ , كقولِه تعالى :
{ وإنْ كنتنَّ تردْنَ اللهَ ورسولَهُ } (الأحزاب : الآية29 ) إذاً يريدُ اللهَ : أي يريدُ وجهَ اللهِ ونُصرَةَ
دينِ اللهِ ، وهذه إرادة حسنة .
ويريدُ رسولَ الله : ليفوزَ بصُحْبتِه ويعملَ بسنتِه ويُدافعُ عنها ويدعو إليها , والذبَّ عنه ، ونشرَ
دينِه . فهذا هجرته إلى الله ورسولِه ، واللهُ - تعالى - يقولُ في الحديث القدسيِّ : ( مَنْ تقرَّبَ إليَّ
شِبْراً تقرَّبْتُ إلَيه ذراعًا ) إذا أرادَ اللهَ ، فإنّ اللهَ - تعالى - يكافئهُ على ذلك بأعظمَ ممّا عمل .
وهنا مسألة : بعدَ موتِ الرسول - صلى الله عليه وسلم هل يمكن أن نهاجر إليه عليه الصلاة
والسلامُ ؟
والجوابُ : أمّا إلى شخصِه فلا ؛ ولذلك لايُهاجَرُ إلى المدينةِ من أجل شخصِ الرسول - صلى الله
عليه وسلم - ؛ لأنه تحت الثرى .
وأما الهجرة إلى سنّتِه وشرعِه - صلى الله عليه وسلم - فهذا مِمّا جاء الحث عليه وذلك مثلُ :
الذهابِ إلى بلدٍ لنصرةِ شريعةِ الرسول , والذَوْدِ عنها . فالهجرة إلى اللهِ في كلِّ وقتٍ وحينٍ ،
والهجرة إلى رسول اللهِ لشخصِه وشريعتِه حالَ حياتِه ، وبعدَ مَماتِه إلى شريعتِه فقط .اهـ
• وعلى العبد أن يستعين الله تعالى على
عبادته , ويتوكل عليه في أدائها , فهذا من أنفع الأمور التي تعين على
الإخلاص , يقول ابن القيم في كتابه " الفوائد " :
- التوكّلُ على اللهِ نوعان : أحدُهُما , توكلٌ عليه في جلبِ حوائجِ العبدِ
وحظوظِهِ الدنيويةِ , أو دفع مكروهاتِه ومصائبِه الدنيويةِ .
والثانِي : التوكلُ عليه في حُصولِ ما
يُحِبّه هو ويرضاهُ , من الإيِمانِ واليقينِ والجهادِ والدعوةِ إليه .
وبين النوعين من الفضل ما لا يُحصيهِ إلا اللهُ , فمتى توكّلَ عليه العبدُ
في النوعِ الثانِي حقّ توكلهِ كفاهُ النوعَ الأوّلَ تَمامَ الكفايةِ .
ومتي توكل عليه في النوع الأولِ دون الثانِي , كفاه أيضاً , لكن لا يكونُ له عاقبةُ الْمُتوكلِ عليه فيما يُحبِّهُ ويرضاهُ .
فأعظمُ التوكّلِ عليه التوكلُ في
الْهِدايةِ وتَجريدِ التوحيدِ ومُتابعةِ الرسولِ وجهادِ أهلِ الباطلِ ,
فهذا توكلُ الرسُلِ وخاصَّةِ أتباعِهم .
• ومن الأمور التي تُعينُ على الإخلاصِ
أنْ يَعلمَ العبدُ أنّ الناسَ لا ينعفعون ولا يضرّون , فلا يرجو منهم
ثوابا , ولا يَخشى عِقابا , وأن يَستحضِرَ دائماً قولَه – صلى الله عليه
وسلم - :
(( واعلمْ أنّ الأمةَ لو اجتمعتْ على
أنْ ينفعوكَ بشيءٍ , لَمْ ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبَهُ اللهُ لك , ولو
اجتمعوا على أنْ يضرّوك بشيءٍ لَم يضرّوك إلا بشيءٍ قد كتبَهُ اللهُ عليك
)) .
• ومن الأمور التي تعينُ على الإخلاص
إخفاءُ العمل عن الخلق , وأن تَجعلَ بينكَ وبين اللهِ خبيئةً . وهذا ما
كان السلفُ حريصين عليه أشدَّ من حِرص اللحِزِ الشحيحِ على إخفاءِ مالِه
وحفظِه , وضربوا في ذلك أروعَ الأمثلة :
- قال ابنُ الجوزيِّ : ولِخوفِ الرياءِ
سَترَ الصالِحون أعمالَهم ؛ حَذراً عليها , وبَهْرَجوها بضِدِّها , فكان
ابنُ سيرينَ يضحكُ بالنهار ويبكي بالليلِ .
- وروى سليمانُ بنُ حربٍ عن حَمّادِ
بنِ زيدٍ ، قال : كان أيوبُ في مَجْلسٍ فجاءته عَبْرَةٌ فجعلَ يَمْتَخِطُ
ويقولُ : ما أشدَّ الزكامَ .
[ السير ] .
- وعن زوجة حسان بن أبي سنان قالت :
كان يجيءُ فيدخلُ في فِراشي ، ثم يُخادعُني كما تخادعُ المرأةُ صبيَّها ،
فإذا علم أني نِمْتُ سَلَّ نفسَه فخرج ، ثم يقوم فيُصلي . [ البيهقي في
شعب الإيمان ] .
- وعن محمدِ بنِ إسحاقَ : كان ناسٌ من
أهلِ المدينــةِ يعيشون ، لا يدرون من أين كان معاشُهم ، فلمّا مات عليُّ
بنُ الحسينِ فقدوا ما كانوا يُؤتَوْن به في الليل .[ حلية الأولياء ] .
- وعن حمزةَ الثمالي : كان عليُّ بنُ
الحسين يحملُ جِرابَ الخبز على ظهره بالليل ، فيتصدق به ويقولُ : إنّ
صدقةَ السرِّ تطفىءُ غضبَ الربِّ عزّ وجلَّ [ حلية الأولياء ] .
- وقال ابنُ الجوزي : كان إبراهيمُ النخَعيُّ إذا قرأ في المصحفِ فدخلَ داخلٌ غطاه .
- وقال محمد بن واسع : إنْ كان الرجلُ لَيَبْكي عشرين سنةٍ وامرأتُـــه لا تعلمُ به [ حلية الاولياء ] .
- وقال الأعمشُ : ما رأيتَ إبراهيمَ مُتطوعاً في مسجدِ قومِه .[ ابن أبي شيبة ] .
- قال النووي في " بستان العارفين " :
وعن الإمام أبِي عبدِ اللهِ مُحمدِ بن إدريسَ الشافعيِّ , بالإسنادِ
الصحيحِ , أنه قال : ودَِدْتُ أنّ الخلقَ تعلموا هذا – أي : العلمَ الذي
عنده - على أنْ لا يُنْسَبُ إليَّ حرفٌ منه .
وقال الشافعيُّ أيضاً : ما ناظرتُ أحداً قطُّ على الغلبةِ , ووَدَِدتُ إذا ناظرتُ أحداً أنْ يظهرَ الحقُّ على يديهِ .
وقال أيضا : ما كلمت أحداً قطُّ إلا أحببتُ أنْ يُوفق ويُسدّدَ ويُعاونَ ويكونَ عليه رعاية من اللهِ - تعالى – وحفظٌ .
وقال الإمامُ أبو يوسفَ , صاحبُ أبِي
حنيفةَ رحِمهُما اللهُ تعالى : أريدوا بعلمِكم اللهَ تعالى ؛ فإنّي لم
أجلسْ في مجلس قطُّ أنوي فيه أنْ أتواضعَ , إلا لم أقمْ حتى أعلوهم , ولم
أجلسْ مَجلساً قطّ أنوي فيه أن أعلوهم , إلا لم أقمْ حتى أُفْتَضحْ . اهـ
• بقيت مسألةٌ :
- إذا بدأ العبدُ عمله بنيِّةٍ خالصةٍ للهِ , وأثناءَ العمل طرأ عليه الرياءُ ؟ يُجيب ابنُ عثيمين , رحمه اللهُ :
قال : اتصالُ الرياءِ بالعبادةِ على ثلاثةِ أوجهٍ :
الوجهُ الأوّلُ : أنْ يكونَ الباعثُ
على العبادةِ مُراءاةُ الناس مِن الأصل ؛ كمَنْ قام يُصلي مُراءاةَ الناس
، مِن أجل أنْ يَمدحَهُ الناسُ على صلاتِه ،
فهذا مُبطِلٌ للعبادةِ .
الوجهُ الثانِي : أنْ يكونَ مُشاركاً
للعبادةِ في أثنائِها ؛ بِمعنى : أنْ يكونَ الحاملُ له في أوّلِ أمرِه
الإخلاصُ للهِ ، ثم طرأ الرياءُ في أثناءِ العبادةِ ، فهذه العبادة لا
تَخلو من حالين :
الحالُ الأولى : أنْ لا يرتبطَ أولُّ العبادةِ بآخرها ، فأوَّلُها صحيحٌ بكلِّ حال ، وآخرُها باطلٌ .
مثالُ ذلك : رجلٌ عندَه مائة ريال
يُريد أن يتصدق بِها ، فتصدق بِخمسين منها صدقةً خالصةً ، ثم طرأ عليه
الرياء في الخمسين الباقية فالأُولى صدقة صحيحة مقبولة ، والخمسون الباقية
صدقةٌ باطلةٌ لاختلاطِ الرياءِ فيها بالإخلاص .
الحالُ الثانيةُ : أنْ يرتبطَ أوّلُ العبادةِ بآخرها : فلا يَخلو الإنسانُ حينئذٍ مِن أمرين :
الأمرُ الأول : أن يُدافعَ الرياءَ ولا
يسكنَ إليه ، بل يُعرضُ عنه ويكرهُه ؛ فإنه لا يُؤثرُ شيئاً ؛ لقولِه صلى
الله عليه وسلم : (( إنّ اللهَ تَجاوزَ عن أمّتِي ما حدَّثت به أنفسَها ,
ما لَم تعملْ أو تتكلمْ )) .
الأمرُ الثاني : أنْ يطمئنَّ إلى هذا الرياءِ ولا يُدافعُهُ , فحينئذٍ تبطلُ جَميعُ العبادةِ ؛ لأنّ أوّلَها مُرتبطٌ بآخرها .
مثال ذلك : أن يبتدئَ الصلاة مُخلصاً
بِها للهِ تعالى ، ثم يطرأ عليها الرياءُ في الركعة الثانيةِ ، فتبطل
الصلاةُ كلها ؛ لارتباطِ أوّلِها بآخرها .
الوجه الثالث : أنْ يطرأ الرياءُ بعدُ
انتهاءِ العبادةِ , فإنه لا يؤثرُ عليها ولا يُبطلها ؛ لأنّها تّمَّت
صحيحةً , فلا تفسُدُ بِحدوثِ الرياءِ بعدَ ذلك .
وليس مِن الرياءِ أنْ يفرحَ الإنسانُ بعلمِ الناسِ بعبادتِه ؛ لأنّ هذا إنّما طرأ بعدَ الفراغ من العبادةِ .
وليس مِن الرياء أن يُسرَّ الإنسانُ
بفعل الطاعةِ ؛ لأنّ ذلك دليلُ إيِمانِه ، قال النبيُّ - صلى الله عليه
وسلم - : (( مَن سَرَّته حسنتُه وساءَتهُ سيئتُه
فذلك المؤمن )) .
[ مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين ] ( 2 / 29 ، 30 ) .
• وأما مَن عمِلَ للهِ , ثم أثنى عليه
الناسُ , فهذه بُشرى له , فعن أَبِي ذرٍّ قال : قِيلَ لِرسولِ اللَّهِ -
صلى الله عليه وسلم - : أرأيتَ الرَّجلَ يعملُ العملَ مِنَ الْخيرِ
ويَحْمدُهُ الناسُ عليهِ ؟
قال : (( تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ )) .
[ رواه مسلمٌ وغيرُه ] .
منقول