فقد
تقرر أن بناء الشريعة في أصولها وأهدافها على اليُسر، وأن رفع الحرج من
مقررات الشرع وقواعده. وإن لهذا اليُسر ضوابط، حرصْتُ على استقرائها مِن
النصوص الشرعية وكلام أهل العِلم المحققين.
فضوابط اليُسر هي:
أولاً: أن يكون التيسير ثابتاً بالكتاب أوالسُّنَّة
إن
اليسر في أحكام الشريعة الإسلامية، كغيره مِن الأمور، لا بد أن يكون
ثابتاً بأحد الوحيين، حتى يتسنى للمسلمين العمل به واعتماده، لا أن يكون
التيسير بحسب الهوى والتشهي، واستحسان العِباد واستقباحهم، فكل تيسير لا
يستند إلى الكتاب والسنة فهو تيسير مُلغى مُطرح، لأن الشرع لا يثبت بمجرد
الاستحسان العقلي دون التقيد بدليل.
كما
ينبغي ألا يكون التيسير ناتجاً عن ضغط الواقه القائم في مجتمعاتنا
المعاصرة، وهو واقع لم يصنعه الإسلام بعقيدته وشريعته وأخلاقه، ولم يصنعه
المسلمون بإرادتهم وعقولهم وأيديهم إنما هو واقع صُنِعَ لهم، وفُرِضَ
عليهم، في زمن غفلة وضعف وتفكك منهم، وزمن قوة وتمكن مِن عدوهم
المستَعمِر، فلم يملكوا أيامها أن يغيروه أو يتخلصوا منه، فليس معنى
التيسير أن نحاول تسويغ هذا الواقع على ما فيه، وجر النصوص من تلابيبها
لتأييده. (انظر: الفِقه الإسلامي للقرضاوي، ص43).
ثانياً: عدم مجاوزة النَّص في الأخذ بالتيسير
فلا
يجوز الاستزادة في التخفيف والتيسير – لا كَمَّاً ولا كيفاً – على ما
وَرَد به النَّص، فلا يجوز لمن يستيطع الصلاة جالساً أن يُصَّليها
مستلقياً، كما لا يصح أن يُقال أن مشقة الحرب بالنسبة للجنود تقتضي وضع
الصلاة عنهم، أو تأخيرها إلى القضاء فيما بعد، إنه كلما كان التمسك بالنص
الشرعي والتزام الحكم المستفاد منه، كان ما يفيده من التيسير ورفع الحرج
أبلغ.
ثالثاً: ألا يُعارِض التيسير نَصَّاً مِن الكتاب أو السُّنَّة
لا ريب أن الله تعالى أمر بتقديم كتابه وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم على ما عداهما، فقد قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [سورة الأحزاب – الآية 1]، وأمر بالرد إليهما عند النزاع فقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}
[سورة النساء – الآية 59]، والكتاب والسُّنَّة – كما هو معلوم – هما
المصدر الأساس لهذا الدين، وبقية الأدلة والنصوص الشرعية تابع لهما، فمتى
حصل تعارض بينهما فإنه ينبغي المصير إلى الأخذ بالنص.
وقد قرر أهل العِلم قواعد فقهية مستلهَمَة مِن هذا الأصل، كقولهم: "لا اجتهاد مع النص" و"لا مساغ للجتهاد في مورد النص" (الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكُلِّية لمحمد صدقي البورنو، ص255) إلى غيرهما من القواعد.
غير
أن بعض دُعَاة التطور والعَصرانية والتيسير لم يُفَرِّقوا بين مباديء
الشريعة التي لا يعتريها التبدل والتغير، والفروع التي يمكن أن توصف بهذه
الأوصاف، فأجروا على الشريعة ما لا يجري على القوانين الوضعية ذاتها،
وحملوا النصوص على غير محملها، وجعلوا التيسير الموهوم والنفع المزعوم
ضابطاً يتقلب مع الحُكم وجوداً وعدماً، وهذا افتئات على النصوص وتضييع لحق
الله في التشريع.
ومِن ذلك: ما يزعمه البعض من التخفيف والإشفاق على المذنب المحكوم عليه بحد معين، مع أن الله تعالى قال: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [سورة النور – الآية 2].
رابعاً: أن يكون التيسير مُقَيَّداً بمقاصد الشريعة
ومعنى هذا الضابط أن اليُسر لا بد أن يكون داخلاً ضمن المقاصد التي جاء الشرع لتحقيقها.
فالشريعة
الإسلامية جاءت لتحقيق مصالح الخلق إثباتاً وإبقاءً، واليسر يجب أن ينطلق
من الشرع، ويتقيد بقيوده، فلا التفات لتيسير يحكم به العقل وحده، بل لا بد
أن يكون راجعاً إلى حفظ مقصود من مقاصد الشرع، فإذا ناقضه فليس بتيسير،
وإن توهم متوهم أنه كذلك.
هذا ما تيسر من الضوابط الشرعية لليسر في الإسلام، إلا أنني أشير إلى أنه
كما أن التيسير الغير منضبط مردود، فكذلك التعسير بلا دليل هو كذلك مردود،
وقد انتقد العلماء وغَلَّطوا مَن فعل ذلك.
منقول باختصار؛
مِن
كتاب: منهج التيسير المعاصر، دراسة تحليلية – رسالة ماجيستير قُدِّمَت
لِقِسم الثقافة الإسلامية بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود
الإسلامية.
إعداد: عبد الله بن إبراهيم الطويل
http://montaqa-almaqalat.blogspot.com/2010/06/blog-post_26.html