محاسبة النفس
الحمد لله صدق وعده و
أعز جنده و هزم الأحزاب وحده , و الصلاة و السلام على من لا نبي بعده , و
على آله و صحبه و على كل من اتبع هديه....أما بعد :
حدثنا اليوم عن موضوع
هام و خطير , عن عمل من أعمال القلوب , و هو مهم للغاية حيث لا يحصل
الصلاح إلا به , و لا تصلح النفس إلا به , من قام به اليوم أمن غدا ألا ,
و هو محاسبة النفس .
وأبدأ بتعريف المحاسبة
هي أن تنظر في نفسك و تتأمل فيها لتعرف عيوبها فتصلحها , فالنجاة لا تكون
إلا بها , قال الماوردي في تعريف المحاسبة " أن يتصفح
الإنسان في ليله ما صدر منه في نهاره , فإن كان محمودا أتبعه بما شاكله و
ضاهاه , أي نظر في كشف يومه و قال لنفسه ماذا عملت اليوم منذ أن إستيقظت
من النوم , فتتذكر مثلا كم ساعة كانت فإن رأيت أنك عملت خيرا فازدد منه و
إن كان مذموما استدركه إن أمكن , و إن لم يمكن فيتبعها بالحسنات لتكفيرها
و ينتهي عن مثلها في المستقبل " يقول سبحانه و تعالى(
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا
قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ ) يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي عن هذه الآية "
وهذه الآية أصل عظيم في محاسبة العبد نفسه , و أنه ينبغي له أن يتفقدها
فإن رأى زللا تداركه بالإقلاع عنه و التوبة النصوح و الإعراض عن الأسباب
الموصلة إليه " إذا ينبغي على العبد أن ينظر في حاله و نفسه و
يحاسبها و يتوب من التقصير , فالمحاسبة تقود للتوبة , و أن العبد أيضا لا
يبلغ منزلة المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك لشريكه محاسبة,
فمحاسبة النفس طريقة المؤمنين وسمة الموحدين وعنوان الخاشعين ، فالمؤمن
متق لربه محاسب لنفسه مستغفر لذنبه ، يعلم أن النفس خطرها عظيم، وداؤها
وخيم ، ومكرها كبير وشرها مستطير، فهي أمارة بالسوء ميالة إلى الهوى ،
داعية إلى الجهل ، قائدة إلى الهلاك ، توّاقة إلى اللهو إلا من رحم الله ،
فلا تُترك لهواها لأنها داعية إلى الطغيان ، من أطاعها قادته إلى القبائح
، ودعته إلى الرذائل ، وخاضت به المكاره ، تطلعاتها غريبة ، وغوائلها
عجيبة ، ونزعاتها مخيفة، وشرورها كثيرة، فمن ترك سلطان النفس حتى طغى فإن
له يوم القيامة مأوىً من جحيم ( فَأَمَّا مَن طَغَى{37} وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا{38} فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى{39} ) ، وعلى النقيض ( وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى{40} فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى{41} ) قال الحسن البصري رحمه الله: "
المؤمن قوّام على نفسه يحاسبها لله وإنما خفّ الحساب على قوم حاسبوا
أنفسهم في الدنيا، وإنما شقّ الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر
من غير محاسبة " و قال ميمون بن مهران : " النفس كالشريك الخوّان إن لم تحاسبه ذهب بمالك " و قال أيضا : " التقي أشد محاسبة لنفسه من سلطان غاشم ومن شريك شحيح " وقال مالك بن دينار رحمه الله :
" رحم الله عبداً قال لنفسه ألستِ صاحبة كذا ؟ ألست صاحبة كذا؟ألست صاحبة
كذا؟ ثم ذمّها ثم خطمها ثم ألزمها كتاب الله تعالى فكان لها قائداً , وهذا
من حساب النفس " وقال إبراهيم التميمي : "
مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها وأعانق أبكارها ثم
مثلت نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها وأعالج سلاسلها
وأغلالها فقلت لنفسي : يا نفس أي شيء تريدين ؟ قالت: أريد أن أرد إلى
الدنيا فأعمل صالحاً، قال : فأنتِ في الأمنية فاعملي إذاً لتكوني في الجنة
في ذلك النعيم " قال أنس بن مالك رضي الله عنه "
سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً وقد خرج وخرجت معه حتى دخل حائطاً
فسمعته يقول و بيني وبينه جدار... يا أمير المؤمنين!بخٍ!بخٍ!والله لتتقين
الله أو ليعذبنّك! " , فهو يذكر نفسه بأن هذا اللقب أمير المؤمنين لا يغني عنه من الله شيئاً .
و هذا دأب الصالحين أن يحاسبوا أنفسهم فإن الإنسان إن لم يحاسب نفسه أهلكته , فالناس مع النفس على صنفين
1- قسم ظفرت به نفسه فملكته وأهلكته وصار طوعاً لنفسه الشريرة الأمّارة بالسوء تحت أوامرها ويعمل على هواها .
2- قسم ظفروا بأنفسهم فقهروها فصارت طوعاً لهم منقادة لأمرهم .
قال بعض أهل الإيمان والحكمة : ( انتهى سفر الطالبين إلى الظفر بأنفسهم فمن ظفر بنفسه؛ أفلح وأنجح، ومن ظفرت به نفسه خسِر وهلك )
ومن لم يحاسب نفسه فاته
من الخير بقدر ما فاته من المحاسبة , ولذلك على المسلم أن يصون نفسه عن
المحرمات ويبتعد عن الشبهات ولا سيما أهل العلم فمن لم يصن نفسه بهذا لم
ينفعه علمه لأن العلم للعمل كالسلاح للمجاهد فإذا لم يستعمله ماذا
يفيده؟!، وكالأطعمة المدخرة للجائع إذا لم يأكل منها فبماذا تنفعه؟!
يحاول نيل المجد والسيف مغمدٌ ............... ويأمل إدراك العُلا وهو نائم
إذاً بدون محاسبة لا
يمكن الوصول والذي لا يصون نفسه عن ما يخرم المروءة وعن ما يُكره بعد ما
يصونها عن الحرام فهذا إنسان هالك , و أختم بقول وعمر بن الخطاب رضي الله
عنه : " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا فإنه أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم " .
وصلّي الهم على نبينا محمد و الحمد لله رب العالمين .
تم طرح الموضوع لأول مرة على شبكة الإنترنت
بتاريخ
الموافق 7/12/2007م