درجة !! .. ( قصة قصيرة )
استيقظ محمود – الشهير بميدو – قبيل العصر كعادته .. وظل في سريره محاولًا وضع برنامج حافل لهذه الليلة المقبلة ..
ففلسفة ميدو في الحياة : أنه لا ينبغي أن
تضيع منها لحظة في غير متعة ، فكر وفكر ثم فكر .. ويا عجبًا !! ، فرأسُهُ
الذهبية التي تقطرُ أفكارًا تُمتِّعُ كل أصحابه استعصت أن تجود عليه بفقرة
واحدة في البرنامج اليومي المليء بالفقرات التي غالبًا ما تُقضى في أوكارٍ
خمسة نجوم .. لم لا ؟! وميدو من أرقى طبقات المجتمع !! ..
سيارته تُبدّل كل عامٍ على الأكثر ..
بيته الخاص عبارة عن جناحٍ كبير في فيلاتهم الكبير ة جدًا ..
مصروفه اليومي لا يقل عن ألفي جنيه بحال من الأحوال ..
أوربي المصيف ..
قائمة هاتفه نسبة الحسناوات فيها للشباب عشرة إلى واحد ..
سنِّه ثلاث وعشرين وهو لا زال في الثانوية العامة يحسن و يحسن ثم يحسن ..
مُدَخِنٌ بالطبع .. وسيجارته دائمًا محشوَّة بالمكسرات !! ..
لتوه خارج من مصحةٍ لمحاولة خامسة فاشلة لعلاجه من الإدمان ..
وهذا غيض من فيض ..
استغرب ميدو نفسه .. ثم طرأ على ذهنه فكرة
مجنونة – هكذا قيَّمها - ، فخالد صديقه قد منّ الله عليه بالهداية منذ
ثلاثة أشهر ، وكثيرًا ما حاول معه محاولات باءت جميعها بالفشل ليحضر معه
ولو درسًا واحدًا ..
رفع بصره إلى سقف حجرته .. وارتسمت على وجهه
ابتسامة عريضة .. وهو يتخيل نفسه .. وهز رأسه طربًا .. وقال في نفسه لا شك
أنها ستكون تجربة رائعة وستكون مصدر تَفكُّهنا لأسابيع قادمة ..
سأجرّب اليوم .. وأجدد !!
تناول إفطارًا سريعًا ثم استقل سيارته ونزل يبحث عن محلٍ يشتري منه ملابس تلك السهرة المنتظرة ..
فشل في الوصول إلى ما يريد من محلاته التي
اعتاد أن يرتادها .. فاتصل بخالد وأخبره أنه يريد مكانًا يشتري منه قميصًا
عربيًا .. فوصف له خالد مكتبةً إسلامية .. فشكره ميدو وقال سأتصل بك
لاحقًا ..
يمّم وجهه شطر حامل المسك تلك المكتبة
العتيقة .. نزل من سيارته ونسي أن يغلق الموسيقى الغربية التي تصم الآذان
، ولكنه انتبه للأمر من دهشة روّاد المكتبة .. فعاد وأغلقها ..
تجول في المكتبة .. مستغربًا كل شئ فيها ..
حتى تلك العطور التي لم يشم مثلها من قبل .. واقترب منه أحد الأخوة
وبأسلوب مهذب ساعده في شراء مايريد ..
اشترى قميصًا وسروالًا وجوربًا بيضًا غايةً
في الأناقة .. وأهداه صاحب المكتبة وهو يحاسب على مشترياته ( سواكًا ..
ومطويةً فيها قصص العائدين إلى الله .. وشريطًا للقرآن ) ..
لم ينس ميدو أنّ أحذيته لا تصلح لتلك النزهة الفريدة .. فمال على أحد المحلات الشهيرة واشترى حذاءً يليق مع أزياء السهرة المنتظرة ..
ثم أخذ في العودة إلى منزله .. وهو في
الطريق لمح ذلك الشريط المهدى إليه ، فشغّله .. فانطلق القارئ بصوته الشجي
يتلو ويترنم .. سرى في جسده شعور جميل لتلك الكلمات ولهذا الصوت الحسن ..
الذي لم يسمع مثلهما من قبل .. فهزّ رأسه إعجابًا بنفسه وبأفكاره الجميلة
الجديدة .. وازدادت قناعته بأنها ستكون تجربةً ممتعة .. وسهرة رائعة تُضم
إلى سلسلة سهراته الطويله ..
في المساء عاود الاتصال بخالد الذي رحب به
طويلًا .. وقال له : دعوتني كثيرًا لحضور أحد المحاضرات الدينية ، وأنا
الآن جاهز 4000 .. فرح خالد فرحًا شديدًا لظنه أن أكبر مفسدي أصحابه قد
لاحت في أفقه سحائب الهداية ..
فأخبره أن غدًا في المسجد الذي يرتاده إفطارًا .. وبعد الإفطار كلمة جميلة ، وتواعدا على اللقاء في الخامسة من الغد ..
أنهى مع خالد المكالمة .. ثم ارتدى ملابسه
ونزل لأصدقائه فأمضى سهرةً مليئةً بالأدخنة الزرقاء حتى برق الفجر .. وفي
نهاية الجلسة قال لهم سأفاجئكم غدًا بمفاجأةٍ مدوية .. فكرة مجنونة من
أفكاري المبتكرة ..
استيقظ كعادته في اليوم التالي في الثالثة قبيل العصر .. أخذ حمامًا ثم
ارتدى ذلك القميص العربي .. ووضع السواك في
جيبه العلوي وبالطبع لم يستعمله !! .. ولبس حذائه الجديد مستقلًا سيارته
متوجهًا إلى بيت خالد .. ولم يفتهُ أن يمر في طريقه على أصدقائه في النادي
ليريهم زيّ سهرته المبتكر ويضحكا سويًا على أفكاره الجريئة ..
ذهلوا أول ما رأوه .. ما هذا يا فضيلة الشيخ
ميدو ؟!! .. سمر لن ترقص لنا الليلة إن رأتك في هذه الثياب .. لا بل سترقص
لكم .. لأني لن آتي معكم .. فلدي اليوم سهرة من نوعٍ آخر ..
وقصّ عليهم فكرته .. فضحكا كثيرًا وأخذوا يصفون منظره وهو يدخل المسجد .. وهو يصلي .. وهو يجلس مطأطئ رأسه في المحاضرة ..
في انتظارك يا ميدو .. بعد العودة من هذه الرحلة لتحكي لنا طرائف ذلك العالم .. سلام .. سلام ..
مرّ على خالد قبيل المغرب بنصف ساعة .. أخذه
وتوجهوا إلى المسجد .. دخل ميدو المسجد فاستقبله أحد الأخوة بابتسامة نقية
ثم عطّره .. وآخر فأعطاه ثلاث تمرات يفطر عليها – وبالطبع لم يكن صائمًا -
..
أخذ خالدٌ إمام المسجد على انفراد ووضح له
مستوى ميدو الاجتماعي .. فأحسن الأخ التعامل معه .. فطعامه وأطباقه
وملعقته كلها كانت خاصة ..
أذن للمغرب وتسارع الأخوة في الإفطار على
التمر والماء وهم يتضاحكون ويؤثر بعضهم بعضًا .. وميدو يترقب الموقف بنظر
ثاقب .. جاء لاهيًا , ولكن هيبة المكان أجبرته على الترقب ..
صلى الأخوة السنة وانشغلوا بالدعاء حتى
أقيمت الصلاة .. أخذ الإمام في تسوية الصفوف وعم الصمت المكان وابتلع ميدو
ريقه واصفر وجهه قليلًا .. وجلجل صوت الإمام الحسن في جنبات المسجد.. الله أكبر ..
نظر ميدو لخالد الذي لم يتركه وحده فوقف
بجواره وكان يتبعه في أفعاله .. فميدو لم يدخل المسجد من قبل !! .. ويا
لروعة صوت القارئ !! .. فقراءته كانت تغريدًا .. فأخذ يتلو ويتلو وبدا
التأثر على بعض المصلين .. حتى خالد ظهر تأثره عند ركوعه .. فسقطت منه
قطرات على الأرض فعلم ميدو ببكائه ..
تقريبًا لم يكن ميدو يقول شيئًا من أذكار
الصلاة .. فقد كان يتأمل الناس حوله وحسب .. انتهت الصلاة وصلى الناس سنة
المغرب .. وميدو بدأ يشعر أنه أخطأ خطئًا كبيرًا بإقدامه على تنفيذ تلك
الفكرة ..
لم يَخفَ قَلقهُ على خالد الذي سارع بحسن
تصرفه في إخراجه من حالته تلك .. وعرّفه على إخوة من مستواه الاجتماعي قد
منّ الله عليهم بالالتزام منذ فترة .. فأحسنوا التعامل معه وشعر معهم
بالأنس والانسجام ..
وُضِع الإفطار .. أكل ميدو فالتذّ بالطعام وكأنه لم يطعم من قبل – فللحلال طعم آخر .. – أنهوا طعامهم وسط دعابات لطيفة من الجميع ..
والتف الجميع حول أخٍ وقورٍ حسن البيان ..
وألقى عليهم كلمةً رائقة .. أخذت بلب ميدو ومست منه شغاف القلب !! .. شعور
غريب دبّ في قلبه .. لم ينتبه يومًا إلى فظائعه التي يرتكبها يوميًا كما
انتبه إليها الآن ..
خُتم اليوم بركعتين .. ألهب فيها ذو الصوت الشجي القلوب .. وغدا يتلو ويترنم حتى اهتز قلب ميدو مع أنه لا يفهم ما يسمع ..
وبكى ميدو !!
بكى واستمر في بكائه ، واستمرت طبقات الرّان في الانحسار .. وكلما زالت طبقة .. ازداد بكاءًا حتى رقّ له من بجواره ..
انتهى اليوم على وعدٍ بلقاء آتٍ .. استقل ميدو سيارته متوجهًا إلى بيته بعد أن أوصل خالدًا ..
دخل إلى جناحه الخاص وهو شارد الذهن .. ودلف إلى حجرته وأغلق الباب بالمفتاح كي لا يقطع عليه أحد خلوته ..
تمدد على السرير و الأفكار تدور في رأسه ..
وقعت عينه على تلك المطوية التي أهداها له صاحب المكتبة التي اشترى منها
قميصه .. فقرأ قصص التائبين العائدين ..
فتخمرت الفكرة في رأسه ..
وتفاجأ الجميع في الصباح بأن حمّام سباحة الفيلا الكبير مغطىً بمئات الأشرطة والسي ديهات والمجلات ..
تخلص محمود من كل جاهليته .. وانضم لركب الإيمان !! ..
.
.
.
قصة مليئة بالعبر والعظات .. ولكن ما سردتها لك أخي الملتزم إلا لأنبهك لمعنًا واحدٍ فقط ؟! ..
عاش محمود حياةً مليئةً بالمحرمات .. وطرأت على ذهنه فكرةً فجربها مرة واحدة فغيرت مجرى حياته ..
وكذلك أنت أيها
الملتزم يا من عشت سنين طوال عامرةً بالطاعات .. قد تطرأ على ذهنك فكرة ..
فتحاول تجربتها مرة واحدة لتعود سريعًا إلى طاعتك من جديد .. فتهوى بها في
قعر بئر الجاهلية مرة أخرى ..
فانتبه أخي الكريم .. فالقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء .. فأيُما قلب أراد أن يقيمه أقامه .. وأيُما قلب أراد أن يزيغه أزاغه ..
فانتبهوا لمكائد الشيطان يرحمني ويرحمكم الله ..