بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الإخْوَةُ والأخَوَاتُ الكِرَامُ
السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ورَحْمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُهُ
نَضَعُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ فِيمَا يَلِي بَعْضًا مِنْ ضَوَابِط
الاسْتِفْتَاء -باخْتِصَارٍ- كَمَا ذَكَرَهَا أَهْلُ العِلْمِ الكِبَارِ في
كُتُبِهِم، كَأَبِي عَمْرٍو بْنِ الصَّلاَحِ رَحِمَهُ اللهُ في كِتَابِهِ:
أَدَبُ المُفْتِي والمُسْتَفْتِي، والنَّوَوِيِّ رَحِمَهُ اللهُ في
كِتَابِهِ: آدَابُ الفَتْوَى والمُفْتِي والمُسْتَفْتِي، بالإِضَافَةِ
إِلَى مَجْمُوعَةٍ مِنَ المَقَالاَتِ في نَفْسِ الشَّأن، رَاجِينَ مِنَ
اللهِ أَنْ نَنْتَفِعَ مِنْهَا جَمِيعًا؛ حَتَّى نَخْرُجُ بإِجَابَاتٍ
صَحِيحَةٍ للأَسْئِلَةِ، ولا يَكُون السَّائِل بسُؤَالِهِ في وَادٍ
والفَرِيق بإِجَابَتِهِ في وَادٍ آخَر، فَالسُّؤَالُ فَتْوَى، والفَتْوَى
أَمَانَة، فَأَعِينُونَا عَلَى رَدِّ أَمَانَاتكُمْ إِلَيْكُمْ بأَفْضَل
مَا يَكُون، عَلَى الوَجْهِ الَّذِي يَنْفَعُنَا ويَنْفَعُكُم، ويُرْضِي
الله عَنَّا وعَنْكُم، واللهُ المُسْتَعَانُ.
أوَّلاً: آدَابُ المُفْتِي والفَتْوَى:
1) يَلْزَمُ المُفْتِي أَنْ يُبَيِّنَ الجَوَابَ بَيَانًا يُزِيلُ
الإشْكَالِ، وإِذَا كَانَ في المَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ لَمْ يُطْلِق الجَوَاب
فَإِنَّهُ خَطَأ. ثُمَّ لَهُ أَنْ يَسْتَفْصِلَ السَّائِل إِنْ حَضَرَ،
ولَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى جَوَابِ أَحَدِ الأَقْسَامِ إِذَا عَلِمَ
أَنَّهُ الوَاقِع للسَّائِلِ، ويَقُولُ: هَذَا إِذَا كَانَ الأَمْرُ كَذَا،
ولَهُ أَنْ يُفَصِّلَ الأَقْسَام في جَوَابِهِ، ويَذْكُرَ حُكْمَ كُلِّ
قِسْمٍ. وإِذَا لَمْ يَجِدِ المُفْتِي مَنْ يَسْأَلهُ؛ فَصَّلَ الأَقْسَامِ
واجْتَهَدَ في بَيَانِهَا واسْتِيفَائِهَا.
2) لَيْسَ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ الجَوَابَ عَلَى مَا عَلِمَهُ مِنْ صُورَةِ
الوَاقِعَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ في السُّؤَالِ تَعَرُّضٌ لَهُ، بَلْ يَكْتُب
جَوَاب مَا في السُّؤَالِ، فَإِنْ أَرَادَ جَوَاب مَا لَيْسَ فِيهِ
فَلْيَقُلْ: وإِنْ كَانَ الأَمْرُ كَذَا وكَذَا فَجَوَابُهُ كَذَا.
ويُسْتَحَبُّ أَنْ يَزِيدَ عَلَى مَا في السُّؤَالِ مَا لَهُ تَعَلُّقٌ
بِهِ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ السَّائِل.
3) إِذَا كَانَ المُسْتَفْتِي بَعِيدُ الفَهْمِ فَلْيَرْفِقْ بِهِ،
ويَصْبِر عَلَى تَفَهُّمِ سُؤَاله، وتَفْهِيم جَوَابه، فَإِنَّ ثَوَابَهُ
جَزِيلٌ.
4) ليَتَأَمَّل السُّؤَال تَأَمُّلاً شَافِيًا، وآخِرُهُ آكِدٌ، فَإِنَّ
السُّؤَالَ في آخِرِهِ، وقَدْ يَتَقَيَّدُ الجَمِيعُ بكَلِمَةٍ في آخِرِهِ
ويَغْفَلُ عَنْهَا. قَالَ الصَّيْمَرِيُّ [ قَالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ:
يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ تَوَقُّفه في المَسْأَلَةِ السَّهْلَةِ
كَالصَّعْبَةِ ليَعْتَاده، وكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ يَفْعَلهُ ]،
وإِذَا وَجَدَ كَلِمَةً مُشْتَبِهَةً؛ سَأَلَ المُسْتَفْتِي عَنْهَا،
وكَذَا إِنْ وَجَدَ لَحْنًا فَاحِشًا أَوْ خَطَأ يُحِيلُ المَعْنَى
أَصْلَحَهُ.
5) يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَهُ عَلَى حَاضِرِيهِ مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ
لذَلِكَ، ويُشَاوِرَهُمْ ويُبَاحِثَهُمْ برِفْقٍ وإِنْصَافٍ، وإِنْ كَانُوا
دُونَهُ وتَلاَمِذَته؛ للاقْتِدَاءِ بالسَّلَفِ، ورَجَاءَ ظُهُور مَا قَدْ
يَخْفَى عَلَيْهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِيهَا مَا يَقْبَحُ إِبْدَاؤُهُ،
أَوْ يُؤْثِرُ السَّائِلُ كِتْمَانَهُ، أَوْ في إِشَاعَتِهِ مَفْسَدَة.
6) ليَكْتُب الجَوَاب بعِبَارَةٍ وَاضِحَةٍ صَحِيحَةٍ، تَفْهَمُهَا
العَامَّةُ ولا يَزْدَرِيهَا الخَاصَّةُ. وإِذَا كَتَبَ الجَوَابَ أَعَادَ
نَظَرَهُ فِيهِ؛ خَوْفًا مِنِ اخْتِلاَلٍ وَقَعَ فِيهِ، أَوْ إِخْلاَلٍ
ببَعْضِ المَسْؤُول عَنْهُ.
7) قَالَ الصَّيْمَرِيُّ وغَيْرُهُ [ ويَنْبَغِي أَنْ يَدْعُو إِذَا
أَرَادَ الإِفْتَاء ]، قَالَ النَّوَوِيُّ [ وأَحْسَنُهُ الابْتِدَاء
بقَوْلِ: (الحَمْدُ للهِ) ]، ويَنْبَغِي أَنْ يَقُولَهُ بلِسَانِهِ
ويَكْتُبَهُ، قَالَ الصَّيْمَرِيُّ [ ولا يَدَع خَتْمَ جَوَابِهِ
بقَوْلِهِ: (وباللهِ التَّوْفِيق)، أَوْ: (واللهُ أَعْلَمُ)، أَوْ: (واللهُ
المُوَفِّقُ)، قَالَ: ولا يُقَبَّح قَوْلهُ: (الجَوَابُ عِنْدَنَا)، أَوِ:
(الَّذِي عِنْدَنَا)، أَوِ: (الَّذِي نَقُولُ بِهِ)، أَوْ: (نَذْهَبُ
إِلَيْهِ)، أَوْ: (نَرَاهُ كَذَا)، لأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ ]، قَالَ
النَّوَوِيُّ [ وإِذَا خَتَمَ الجَوَابَ بقَوْلِهِ: (واللهُ أَعْلَمُ)
ونَحْوِهِ مِمَّا سَبَقَ فَلْيَكْتُبْ بَعْدَهُ: كَتَبَهُ فُلاَنُ، أَوْ:
فُلاَنُ بْنُ فُلاَنِ الفُلاَنِيِّ، فَيَنْتَسِبُ إِلَى مَا يُعْرَف بِهِ
مِنْ قَبِيلَةٍ أَوْ بَلْدَةِ أَوْ صِفَةٍ، فَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا
بالاسْمِ أَوْ غَيْرِهِ فَلاَ بَأسَ بالاقْتِصَارِ عَلَيْهِ ]. قَالَ
الصَّيْمَرِيُّ [ ويَنْبَغِي إِذَا تَعَلَّقَتِ الفَتْوَى بالسُّلْطَانِ
أَنْ يَدْعُوَ لَهُ فَيَقُولُ: (وعَلَى وَلِيِّ الأَمْرِ أَوِ السُّلْطَانِ
أَصْلَحَهُ اللهُ، أَوْ سَدَّدَهُ اللهُ، أَوْ قَوَّى اللهُ عَزْمَهُ،
أَوْ أَصْلَحَ اللهُ بِهِ، أَوْ شَدَّ اللهُ أَزْرَهُ)، ولا يَقُلْ
(أَطَالَ اللهُ بَقَاءَهُ)، فَلَيْسَتْ مِنْ أَلْفَاظِ السَّلَف ]، قَالَ
النَّوَوِيُّ [ نَقَلَ أَبُو جَعْفَر النَّحَّاس وغَيْرُهُ اتِّفَاق
العُلَمَاءِ عَلَى كَرَاهَةِ قَوْل (أَطَالَ اللهُ بَقَاءَكَ)، وقَالَ
بَعْضُهُمْ: هي تَحِيَّة الزَّنَادِقَة، وفي صَحِيحِ مُسْلِم في حَدِيثِ
أُمّ حَبِيبَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الأَوْلَى
تَرْكُ نَحْوِ هَذَا مِنَ الدُّعَاءِ بطُوُل ِالبَقَاءِ وأَشْبَاهِهِ ].
قَالَ الصَّيْمَرِيُّ والخَطِيبُ [ إِذَا سُئِلَ عَمَّنْ قَالَ: (أَنَا
أَصْدَقُ مِنْ مُحَمَّد بْنِ عَبْدِ اللهِ)، أَوِ (الصَّلاَةُ لَعِبٌ)،
وشِبْهُ ذَلِكَ، فَلاَ يُبَادِر بقَوْلِهِ: هَذَا حَلاَلُ الدَّمِ أَوْ:
عَلَيْهِ القَتْل، بَلْ يَقُولُ: إِنْ صَحَّ هَذَا بإِقْرَارِهِ، أَوْ
بالبَيِّنَةِ، اسْتَتَابَهُ السُّلْطَان، فَإِنْ تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتهُ،
وإِنْ لَمْ يَتُبْ فُعِلَ بِهِ كَذَا وكَذَا، وبَالَغَ في ذَلِكَ
وأَشْبَعَهُ. قَالَ: وإِنْ سُئِلَ عَمَّنْ تَكَلَّمَ بشَيْءٍ يَحْتَمِل
وُجُوهًا يَكْفُرُ ببَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ قَالَ: يُسْأَلُ هَذَا
القَائِل، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ كَذَا، فَالجَوَابُ كَذَا. وإِنْ سُئِلَ
عَمَّنْ قَتَلَ أَوْ قَلَعَ عَيْنًا أَوْ غَيْرهَا، احْتَاطَ فَذَكَرَ
الشُّرُوط الَّتِي يَجِبُ بجَمِيعِهَا القَصَاص. وإِنْ سُئِلَ عَمَّنْ
فَعَلَ مَا يُوجِبُ التَّعْزِير، ذَكَرَ مَا يُعَزَّر بِهِ فَيَقُولُ:
يَضْرِبُهُ السُّلْطَانُ كَذَا وكَذَا، ولا يُزَادُ عَلَى كَذَا ].
9) إِذَا ظَهَرَ للمُفْتِي أَنَّ الجَوَابَ خِلاَف غَرَض المُسْتَفْتِي،
فَلْيَحْذَر أَنْ يَمِيلَ في فَتْوَاهُ مَعَ المُسْتَفْتِي أَوْ خِصْمَهُ،
ووُجُوه المَيْل كَثِيرَة لا تَخْفَى، مِنْهَا أَنْ يَكْتُبَ في جَوَابِهِ
مَا هُوَ لَهُ ويَتْرُكْ مَا عَلَيْهِ، وإِذَا سَأَلَهُ أَحَدُهُم وقَالَ:
(أَيُّ شَيْءٍ تَنْدَفِعُ دَعْوَى كَذَا وكَذَا؟ أَوْ بَيِّنَة كَذَا؟ لَمْ
يُجِبْهُ، كي لا يَتَوَصَّل بذَلِكَ إِلَى إِبْطَالِ حَقٍّ.
10) قَالَ الصَّيْمَرِيُّ [ إِذَا رَأَى المُفْتِي المَصْلَحَة أَنْ
يُفْتِي لعَامِيٍّ بِمَا فِيهِ تَغْلِيظٌ وهُوَ مِمَّا لا يَعْتَقِد
ظَاهِرهُ، ولَهُ فِيهِ تَأْوِيل، جَازَ ذَلِكَ زَجْرًا لَهُ، كَمَا رُوِيَ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ تَوْبَةِ
قَاتِلٍ فَقَالَ: (لا تَوْبَةَ لَهُ)، وسَأَلَهُ آخَرُ فَقَالَ: (لَهُ
تَوْبَة)، ثُمَّ قَالَ: (أَمَّا الأَوَّلُ فَرَأَيْتُ في عَيْنِهِ
إِرَادَةُ القَتْلِ فَمَنَعْتُهُ، وأَمَّا الثَّانِي فَجَاءَ مُسْتَكِينًا
قَدْ ضَلَّ فَلَمْ أُقَنِّطْهُ ].
11) يَجِبُ عَلَى المُفْتِي عِنْدَ اجْتِمَاعِ الأسْئِلَة بحَضْرَتِهِ أَنْ
يُقَدِّمَ الأَسْبَق فَالأَسْبَق، كَمَا يَفْعَلُهُ القَاضِي في
الخُصُومِ، وهَذَا فِيمَا يَجِبُ فِيهِ الإِفْتَاء، فَإِنْ تَسَاوَوْا أَوْ
جَهِلَ السَّابِق قَدَّمَ بالقُرْعَةِ. والصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ
تَقْدِيمُ المَرْأَة، والمُسَافِر الَّذِي شَدَّ رَحِلَهُ وفي تَأْخِيرِهِ
ضَرَرٌ بتَخَلُّفِهِ عَنْ رِفْقَتِهِ، ونَحْوِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ
سَبَقَهُمَا، إِلاَّ إِذَا كَثُرَ المُسَافِرُونَ والنِّسَاء، بحَيْثُ
يَلْحَقُ غَيْرَهُم بتَقْدِيمِهِمْ ضَرَرٌ كَثِيرٌ، فَيَعُودُ
بالتَّقْدِيمِ بالسَّبْقِ أَوِ القُرْعَةِ.
12) إِذَا تَعَلَّقَ السُّؤَال بالمِيرَاثِِ، وكَانَ في المَذْكُورِينَ في
الاسْتِفْتَاءِ مَنْ لا يَرِثْ، أَفْصَحَ بسُقُوطِهِ فَقَالَ: (وسَقَطَ
فُلاَنُ)، وإِنْ كَانَ سُقُوطُهُ في حَالٍ دُونَ حَالٍ قَالَ: (وسَقَطَ
فُلاَنُ في هَذِهِ الصُّورَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ)؛ لَئلا يُتَوَهَّم
أَنَّهُ لا يَرِث بحَالٍ. قَالَ الصَّيْمَرِيُّ وغَيْرُهُ [ وحَسَنٌ أَنْ
يَقُولَ: تُقَسَّمُ التَّرِكَة بَعْدَ إِخْرَاجِ مَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ
مِنْ دَيْنٍ أَوْ وَصِيَّةٍ إِنْ كَانَا ].
13) إِذَا لَمْ يَفْهَمِ المُفْتِي السُّؤَالَ أَصْلاً، قَالَ
الصَّيْمَرِيُّ [ يَكْتُبُ: (يُزَادُ في الشَّرْحِ ليُجِيبَ عَنْهُ)، أَوْ:
(لَمْ أَفْهَمْ مَا فِيهَا فَأُجِيبُ) ]. وقَالَ الخَطِيبُ [ يَنْبَغِي
لَهُ إِذَا لَمْ يَفْهَم الجَوَاب أَنْ يُرْشِدَ المُسْتَفْتِي إِلَى
مُفْتٍ آخَر إِنْ كَانَ، وإِلاَّ فَلْيُمْسِك حَتَّى يَعْلَمَ الجَوَاب ].
قَالَ الصَّيْمَرِيُّ [ وإِذَا كَانَ في رُقْعَةِ اسْتِفْتَاءٍ مَسَائِل
فَهِمَ بَعْضَهَا دُونَ بَعْضٍ، أَوْ فَهِمَهَا كُلَّهَا ولَمْ يُرِدِ
الجَوَاب في بَعْضِهَا، أَوِ احْتَاجَ في بَعْضِهَا إِلَى تَأَمُّلٍ أَوْ
مُطَالَعَةٍ، أَجَابَ عَمَّا أَرَادَ وسَكَتَ عَنِ البَاقِي، وقَالَ:
(لَنَا في البَاقِي نَظَر أَوْ تَأَمُّل أَوْ زِيَادَة نَظَرٍ) ].
14) لَيْسَ بمُنْكَرٍ أَنْ يَذْكُرَ المُفْتِي في فَتْوَاهُ الحُجَّة إِذَا
كَانَتْ نَصًّا وَاضِحًا مُخْتَصَرًا. وقَدْ يَحْتَاجُ المُفْتِي في
بَعْضِ الوَقَائِع إِلَى أَنْ يَشْدُدَ ويُبَالِغَ فَيَقُولُ: (وهَذَا
إِجْمَاعُ المُسْلِمِينَ)، أَوْ: (لا أَعْلَمُ في هَذَا خِلاَفًا)، أَوْ:
(فَمَنْ خَالَفَ هَذَا فَقَدْ خَالَفَ الوَاجِب وعَدَلَ عَنِ الصَّوَابِ)،
أَوْ: (فَقَدْ أَثِمَ وفَسِقَ)، أَوْ: (وعَلَى وَلِيِّ الأَمْرِ أَنْ
يَأْخُذَ بهَذَا ولا يُهْمِل الأَمْر)، ومَا أَشْبَهَ هَذِهِ الألْفَاظ
عَلَى حَسْبِ مَا تَقْتَضِيهِ المَصْلَحَة وتَوْجِيه الحَال.
15) قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرُو بْنُ الصَّلاَحِ [ لَيْسَ لَهُ إِذَا
اسْتُفْتِيَ في شَيْءٍ مِنَ المَسَائِل الكَلاَمِيَّة أَنْ يُفْتِي
بالتَّفْصِيلِ، بَلْ يَمْنَع مُسْتَفْتِيه وسَائِر العَامَّة مِنَ الخَوْضِ
في ذَلِكَ أَوْ في شَيْءٍ مِنْهُ وإِنْ قَلَّ، ويَأْمُرُهمْ بأَنْ
يَقْتَصِرُوا فِيهَا عَلَى الإِيمَانِ جُمْلَةً مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ ]،
كَالكَلاَم في أَسْمَاءِ الله وصِفَاتِهِ، والكَلاَم في الغَيْبِيَّاتِ
واللاَّمَعْقُولِيَّات، فَيَقُولُ مُعْتَقَدنَا فِيهَا، ولَيْسَ عَلَيْنَا
تَفْصِيله وتَعْيِينه، ولَيْسَ البَحْث عَنْهُ مِنْ شَأنِنَا، بَلْ نَكِلُ
عِلْم تَفْصِيله إِلَى اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى، ونَصْرِفُ عَنِ الخَوْضِ
فِيهِ قُلُوبنَا وأَلْسِنَتنَا، فَهَذَا ونَحْوه هُوَ الصَّوَابُ مِنْ
أَئِمَّةِ الفَتْوَى في ذَلِكَ، وهُوَ سَبِيلُ سَلَفِ الأُمَّة، وأَئِمَّة
المَذَاهِب المُعْتَبَرَة، وأَكَابِر العُلَمَاء والصَّالِحِينَ، وهُوَ
أَصْوَنُ وأَسْلَمُ للعَامَّةِ وأَشْبَاهِهِم. ومَنْ كَانَ مِنْهُمْ
اعْتَقَدَ اعْتِقَادًا بَاطِلاً تَفْصِيلاً، فَفِي هَذَا صَرْفٌ لَهُ عَنْ
ذَلِكَ الاعْتِقَاد البَاطِل بِمَا هُوَ أَهْوَن وأَيْسَر وأَسْلَم،
واسْتُفْتِيَ الغَزَّالِيُّ في كَلاَمِ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى فَكَانَ
مِنْ جَوَابِهِ [ وأَمَّا الخَوْضُ في أَنَّ كَلاَمَهُ تَعَالَى حَرْفٌ
وصَوْتٌ أَوْ لَيْسَ كَذَلِكَ فَهُوَ بِدْعَةٌ، وكُلُّ مَنْ يَدْعُو
العَوَامَّ إِلَى الخَوْضِ في هَذَا فَلَيْسَ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ،
وإِنَّمَا هُوَ مِنَ المُضِلِّينَ، ومِثَالُهُ مَنْ يَدْعُو الصِّبْيَانَ
الَّذِينَ لا يُحْسِنُونَ السِّبَاحَةَ إِلَى خَوْضِ البَحْرِ، ومَنْ
يَدْعُو الزِّمِنَ المُقْعَدَ إِلَى السَّفَرِ في البَرَارِي مِنْ غَيْرِ
مَرْكُوبٍ ]. وقَالَ الصَّيْمَرِيُّ [ إِنَّ مِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ
أَهْلُ الفَتْوَى أَنَّ مَنْ كَانَ مَوْسُومًا بالفَتْوَى في الفِقْهِ،
لَمْ يَنْبَغِ -وفي نُسْخَةٍ: لَمْ يَجُزْ- لَهُ أَنْ يَضَعَ خَطّهُ
بفَتْوَى في مَسْأَلَةٍ مِنْ عِلْمِ الكَلاَمِ ]، وحَكَى الإمَامُ أَبُو
عَمْرُو بْنُ عَبْدِ البَرِّ الامْتِِنَاعَ مِنَ الكَلاَمِ في كُلِّ ذَلِكَ
عَنِ الفُقَهَاءِ والعُلَمَاءِ قَدِيمًا وحَدِيثًا مِنْ أَهْلِ الحَدِيثِ
والفَتْوَى، قَالَ [ وإِنَّمَا خَالَفَ ذَلِكَ أَهْلُ البِدَعِ ]، وقَالَ [
فَإِنْ كَانَتِ المَسْأَلَة مِمَّا يُؤْمَنُ في تَفْصِيلِ جَوَابهَا مِنْ
ضَرَرِ الخَوْضِ المَذْكُور جَازَ الجَوَابُ تَفْصِيلاً، وذَلِكَ بأَنْ
يَكُونَ جَوَابهَا مُخْتَصَرًا مَفْهُومًا، لَيْسَ لَهَا أَطْرَافٌ
يَتَجَاذَبهَا المُتَنَازِعُونَ، والسُّؤَالُ عَنْهُ صَادِرٌ عَنْ
مُسْتَرْشِدٍ خَاصٍّ مُنْقَادٍ، أَوْ مِنْ عَامَّةٍ قَلِيلَةِ التَّنَازُع
والمُمَارَاة ].
16) يَحْرُمُ التَّسَاهُل في الفَتْوَى، ومَنْ عُرِفَ بِهِ حَرُمَ
اسْتِفْتَاؤُهُ، فَمِنَ التَّسَاهُلِ: أَنْ لا يَتَثَبَّت، ويُسْرِع
بالفَتْوَى قَبْلَ اسْتِيفَاء حَقِّهَا مِنَ النَّظَرِ والفِكْرِ، فَإِنْ
تَقَدَّمَت مَعْرِفَته بالمَسْؤُولِ عَنْهُ فَلاَ بَأْسَ بالمُبَادَرَةِ،
وعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا نُقِلَ عَنِ المَاضِينَ مِنْ مُبَادَرَةٍ. ومِنَ
التَّسَاهُلِ أَنْ تَحْمِلَهُ الأَغْرَاضُ الفَاسِدَةُ عَلَى تَتَبُّعِ
الحِيَل المُحَرَّمَة أَوِ المَكْرُوهَة، والتَّمَسُّكِ بالشُّبَهِ طَلَبًا
للتَّرْخِيصِ لِمَنْ يَرُومَ نَفْعه أَوِ التَّغْلِيظِ عَلَى مَنْ يُرِيدَ
ضَرّه.
17) يَنْبَغِي أَنْ لا يُفْتِي في حَالِ تَغَيُّر خُلُقَهُ، وتَشَغُّل
قَلْبَهُ، ويَمْنَعُهُ التَّأَمُّل، كَغَضَبٍ، وجُوعٍ، وعَطَشٍ، وحُزْنٍ،
وفَرَحٍ غَالِبٍ، ونُعَاسٍ، أَوْ مَلَلٍ، أَوْ حَرٍّ مُزْعِجٍ، أَوْ مَرَضٍ
مُؤْلِمٍ، أَوْ مُدَافَعَةِ حَدَثٍ، وكُلّ حَالٍ يَشْتَغِلُ فِيهِ
قَلْبُهُ ويَخْرُجُ عَنْ حَدِّ الاعْتِدَالِ، فَإِنْ أَفْتَى في بَعْضِ
هَذِهِ الأَحْوَال وهُوَ يَرَى أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنِ الصَّوَابِ
جَازَ، وإِنْ كَانَ مُخَاطِرًا بِهَا.
18) لا يَجُوزُ أَنْ يُفْتِي في الأَيْمَانِ والإِقْرَارِ ونَحْوِهِمَا
مِمَّا يَتَعَلَّقُ بالأَلْفَاظِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ بَلَدِ
اللاَّفِظِ، أَوْ مُتَنَزِّلاً مَنْزِلَتهم في الخِبْرَةِ بمُرَادِهِم مِنْ
أَلْفَاظِهِمْ وعُرْفِهِمْ فِيهَا.
19) يَنْبَغِي أَنْ لا يَقْتَصِر في فَتْوَاهُ عَلَى قَوْلِهِ: (في
المَسْأَلَةِ خِلاَفٌ، أَوْ قَوْلاَنِ، أَوْ وَجْهَانِ، أَوْ رِوَايَتَانِ،
أَوْ يَرْجِع إِلَى رَأي القَاضِي، ونَحْوِ ذَلِكَ)، فَهَذَا لَيْسَ
بجَوَابٍ، ومَقْصُودُ المُسْتَفْتِي بَيَانُ مَا يَعْمَل بِهِ، فَيَنْبَغِي
أَنْ يَجْزِمَ لَهُ بِمَا هُوَ الرَّاجِح، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ
تَوَقَّفَ حَتَّى يَظْهَر، أَوْ يَتْرُك الإِفْتَاء.
انْتَهَى الجُزْءُ الأَوَّلُ، وقَرِيبًا بإِذْنِ اللهِ الجُزْء الثَّانِي: آدَابُ المُسْتَفْتِي (السَّائِل).
وهَذَا مَا أَعْلَمُ؛ واللهُ تَعَالَى أَعْلَى وأَعْلَمُ
إِنْ أَخْطَأْتُ فَمِنْ نَفْسِي، وأَسْتَغْفِرُ اللهَ، وإِنْ أَصَبْتُ فَمِنْ عِنْدِ اللهِ، والحَمْدُ للهِ
والسَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ورَحْمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُهُ
منقول