[center]رحم الله الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار
في أعقاب غزوة حنين في سنة 8 من الهجرة، أي قبل حوالي سنتين ونصف من وفاة رسول الله
وقصة بني ساعدة، روى ابن إسحاق مفصلاً، والبخاري مختصرًا عن أبي سعيد
الخدري قال: لما أعطى رسول الله ما أعطى من تلك العطايا في قريش، وفي قبائل
العرب، ولم يكن في الأنصار
منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم القالة, أي أن
الغنائم كثرت جدًّا، فأعطى رسول الله منها للعديد من قبائل العرب، لكنه لم
يعط الأنصار، فغضبوا لذلك, حتى قال قائلهم: لقي والله رسول الله قومه.
والأمر
خطير، غزوة حنين كانت من الغزوات العنيفة جدًّا في تاريخ المسلمين، ومن
المعروف أن المسلمين في بادئ المعركة فروا، وذلك عندما اعتمدوا على أعدادهم
وقوتهم، ولم يثبت مع رسول الله إلا أفراد معدودون، هنا صاح رسول الله :
"يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ".
فلبوا
جميعًا، ودارت موقعة شرسة للغاية، ثم كتب الله نصره لرسول الله ،
وللمؤمنين، وحاز المسلمون غنائم لا تحصى من السبي، والإبل، والأغنام،
والذهب، والفضة، والسلاح، وغير ذلك، وبدأ يوزع رسول الله الغنائم على
القوم، ماذا فعل في الغنائم؟
لقد
وجد رسول الله أن أعدادًا كبيرة من زعماء قريش، وأهل مكة قد دخلوا الإسلام
إما رهبة من السيف، وإما رغبة في المال، وهؤلاء من ورائهم أقوام وأقوام،
إن لم يعطهم فقد يرتدوا وينقلبوا على أعقابهم، وليست الخسارة فيهم وحدهم،
ولكن فيمن وراءهم من الناس، وشوكة الإسلام ما زالت ضعيفة، ولم تتمكن في
الجزيرة بعد، فأراد الرسول أن يتألفهم، ويحتويهم في هذا الدين، فأعطاهم
عطاءً كريمًا سخيًّا، أعطى وأعطى، ثم بعد ذلك لم يبق شيء في يده للأنصار،
والأنصار هم الذين ثبتوا مع رسول الله ، وهم الذين قاتلوا ودافعوا، نعم، لم
يفعلوا ذلك لأجل المال، ولا الغنائم، لكن لا بد وأن يتساءل الإنسان، لماذا
هذا التباين في العطاء؟
خاف
الأنصار أن يكون رسول الله قد وجد أنه من المناسب الآن أن ينتقل من
المدينة إلى مكة، فأخذ يعطي قومه، حتى يتألفهم، ومن ثَم يترك المدينة، وإذا
ترك رسول الله المدينة فهذا أمر شديد، فبالإضافة إلى كون هذا أمرًا يحزنهم
لفراقه ، ففيه خطورة شديدة عليهم؛ لأنهم سيتركون للعرب ينتقمون منهم؛
لنصرتهم لرسول الله ، كما أنهم خشوا أن يكون ذلك استقلالاً بشأنهم،
وتهميشًا لدورهم، ولا يستنكر أيضًا أن يكون لهم رغبة في المال الحلال الذي
حصد أمام أعينهم، وخـاصة أنهم شاركوا في جمعه، والوصول إليه، فاستثناؤهم
منه أمر قد يوغر الصدر، هنا تحرك زعيم الأنصار الصحابي الجليل سعد بن عبادة
الخزرجي في سرعة، وحكمة ليبث شكوى الأنصار لرسول الله ، وذلك ليحتوي
الموقف؛ كي لا تتفاقم الأزمة، وحتى لا تبقى هناك نار تحت الرماد، دخل على
رسول الله ثم قال: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار، قد وجدوا عليك في
أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا
عظامًا في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء.
صراحة
رائعة، ووضوح جميل من سعد بن عبادة ، وبذلك يمكن للفتن أن تقتل في مهدها.
قال رسول الله : "فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ؟", قال في صراحة
أكثر: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي. يقصد أنه أيضًا يجد في نفسه، قال
الرسول الحكيم محمد : "فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ".
فخرج سعد، فجمع الأنصار في تلك الحظيرة، فجاء رجال من المهاجرين، فتركهم، فدخلوا، وجاء آخرون فردهم.
ويبدو
أن رسول الله لا يريد للفتنة أن تنتشر في أقوام آخرين، ولا يريد أن يترك
مجال للقيل، والقال، فأراد أن يحصر الكلام في القوم الذين يحتاجونه.
فلما
اجتمع الأنصار جاء له سعد بن عبادة فقال له: لقد اجتمع لك هذا الحي من
الأنصار. فأتاهم رسول الله ، فحمد الله، وأثنى عليه ثم قال: "يَا مَعْشَرَ
الأَنْصَارِ، مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ، وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا
عَلَيَّ فِي أَنْفُسِكُمْ؟ أَلَمْ آتِكُمْ ضُلاَّلاً، فَهَدَاكُمُ اللَّهُ،
وَعَالَةٌ فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ، وَأَعْدَاءٌ فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ
قُلُوبِكُمْ. رد الأنصار في أدب جم: الله ورسوله أَمَنّ، وأفضل.
رسول
الله يذكرهم بماضيهم منذ عشر سنوات فقط، كيف كانوا في تيه الكفر والضلال،
والفرقة، والفقر؟ ثم كيف آمنوا واهتدوا وتوحدوا، واغتنوا بالإسلام؟
فكما
رفعهم الله بالإسلام، ووجدوا حلاوته، فرسول الله يريد أن يرفع أقوامًا
آخرين لحلاوة الإيمان، ثم قال : "أَلا تُجِيبُونِي يَا مَعْشَرَ
الأَنْصَارِ؟", قال الأنصار في تواضع عجيب: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله
ورسوله المن والفضل.
لم
يذكر الأنصار أفضالهم على الدعوة، لم يذكروا أنهم وإن كانوا آمنوا،
واهتدوا، واغتنوا؛ فذلك لأنهم قدموا الكثير والكثير، قدموا أرواحهم وديارهم
وأرضهم، قدموا الرأي والمشورة، وقدموا السمع والطاعة، وقدموا رسول الله
على سائر ما يحبون، أما هؤلاء القرشيون الذين امتلأت جيوبهم الآن، فلم
يقدموا إلا كفرًا وجحودًا وحربًا لرسول الله طيلة ثماني سنوات في المدينة،
وقبلها في مكة، لم يذكر الأنصار كل ذلك؛ لأنهم يعلمون أن نعمة الهداية التي
حصلوها بنصرة هذا الدين لا تعدلها دنيا، ولا غنيمة، فاكتفوا بالقول
الرائع: لله ورسوله المن والفضل.
لكن
رسول الله رجل يعلم كيف يزن الأمور، ويعرف للرجال قدرهم، وفضلهم ويقوّم
الأشياء، فيحسن التقويم ، قال: "أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ،
فَلَصَدَقْتُمْ وَلَصُدِّقْتُمْ: أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ،
وَمَخْذُولاً فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلاً
فَآسَيْنَاكَ".
لم
يقل الأنصار ذلك مع كونه حقيقة، منعهم أدبهم، وفضلهم، وإيثارهم، وتقديرهم
لرسول الله . ثم بدأ رسول الله يخاطب قلوب الأنصار في مقالة رقيقة حانية،
قال: "أَوَجَدْتُمْ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِكُمْ فِي
لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا (لعاعة نبات صغير رقيق أي أن كل ما أعطيه لهم لا
يساوي شيئًا) تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا، وَوَكَلْتُكُمْ
إِلَى إِسْلامِكُمْ؟ أَلا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ أَنْ
يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ، وَالْبَعِيرِ، وَتَرْجِعُوا بِرَسُولِ
اللَّهِ إِلَى رِحَالِكُمْ؟ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلا
الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَءًا مِنَ الأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ
شِعْبًا، وَسَلَكَتِ الأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الأَنْصَارِ،
اللَّهُمَّ ارْحَمِ الأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ
أَبْنَاءِ الأَنْصَارِ".
فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قِسْمًا وحظًّا. ثم انصرف رسول الله ، وتفرقوا.
بهذه
الكلمات القليلات، وبهذه المخاطبة لقلوب الأنصار النقية، انتهت الفتنة في
دقائق معدودة، ها هم الأنصار ينصرفون باكين، بهذه الكلمات نفوسهم راضية،
وأفئدتهم مطمئنة، وفي لحظات وجدوا أن مائة بعير، أو مائتين من البعير، أو
ثلاثمائة من البعير في يد رجل من رجال قريش أمر لا يساوي شيئًا، هكذا في
منتهى البساطة تركوا دنيا واسعة عريضة؛ استجابة لكلمات معدودات طاهرات من
فم رسول الله..