بدأ نزول القرآن الكريم على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في السنة
الأولى للبعثة، حيث جاءه الوحي وهو في غار حراء، ومنذ ذلك الوقت علم النبي
صلى الله عليه وسلم أنَّه صار نبياً يُوحَى إليه، فأخذ يدعو إلى الإسلام
ويبلغ القرآن. وبدأ الناس يدخلون في الإسلام، ويتبعون النبي صلَّى الله
عليه وسلَّم.
بدأ الصَّحابة يقرأون القرآن ويحفظونه، ويحفظون كلَّ ما
يتصل به من أمور، ويسألون رسول الله صلَّى الله عليه وسلّم عن الوحي وكيف
يأتيه؟ وعن القرآن ومعاني بعض الآيات التي يشكل عليهم فهمها. " فمن سؤال
الصحابة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم عن كيفية تلقي القرآن بدأت المباحث
المتعلقة بنزول القرآن، ومن قراءته صلَّى الله عليه وسلَّم القرآن على
أصحابه وحثهم على تلاوته وحفظه نشأت المباحث الخاصة بالقراءات القرآنية،
ومن أمره صلَّى الله عليه وسلم كتّاب الوحي بكتابة ما ينزل عليه من القرآن
تأكَّدت سنة كتابة القرآن وجمعه في الصحف، ونشأت من ذلك المباحث المتعلقة
بكتابته ورسمه، ومن بيانه صلَّى الله عليه وسلَّم لمعنى عدد من الآيات
والكلمات القرآنية حين أشكل فهمها على بعض الصَّحابة نشأت المباحث المتعلقة
بفهم القرآن وتفسيره".(1)
وقد حفظ الصَّحابة كثيراً من المعلومات
حول القرآن الكريم، وأسباب نزوله، وناسخه ومنسوخه ومعانيه وكيفية تلاوته،
ونقلوا إلينا الأماكن التي نزلت فيها آيات القرآن الكريم، وكذلك الزمان،
وحددوه ليلاً أو نهاراً وفي إقامة الرَّسول أو سفره، وقبل الهجرة أو بعدها.
كان
الصحابة ملازمين للرَّسول مدَّة التنزيل، فتلقوا عنه القرآن وعرفوا أسباب
النزول، كما عرفوا الناسخ والمنسوخ، والمكي والمدني من القرآن الكريم، كما
كانوا يسألونه عن بعض المعاني التي خفيت عليهم.
وظل هؤلاء الصَّحابة
على مدى صحبتهم للرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم ، يحفظون كل ما يجدّ من
أمور تتعلق بالقرآن، حتَّى علموها لمن جاء بعدهم، كما علموهم كل ما سمعوه
من الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم من تفسير للآيات، أو تطبيق لأحكامها،
لأنَّ حياة الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم كانت تطبيقاً حياً لآيات
القرآن الكريم.
إنَّ نشأة علوم القرآن قد بدأت منذ الأيام الأولى
لبدء نزوله، ثمَّ تطوَّرت في أيام الرَّسول صلَّى الله عليه وسلّم وأصحابه،
ثمَّ اتسعت أكثر في عهد التابعين.
وكان الصَّحابة يفخرون بأنَّهم
يعرفون علوم القرآن، ويرون ذلك من المناقب التي ترقى بأصحابها إلى درجة
العلماء، وفي هذا يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "والذي لا إله إلا
هو، ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت وفيمن نزلت".(2) ولو
أعلم أحداً، أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته".(3)
وكانوا إذا
تعلموا شيئاً من القرآن والعلم لم يجاوزوه حتَّى يعملوا به ويطبقوه، فقد
أدركوا منذ البداية أنَّ هذا العلم لا يؤتي ثماره إلاَّ بالعمل، فعن أبي
عبد الرَّحمن السلمي قال: حدثنا الذين كانوا يُقرِئوننا: أنهم كانوا
يستقرِئون من النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم، فكانوا إذا تعلَّموا عَشْر
آيات لم يخلِّفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلَّمنا القرآن والعمل
جميعًا".(4)
وفي رواية عنه: "كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم
يتجاوزهن حتى يعلم معانيهن والعمل بهن".(5)
وبلغ من حرصهم أن كانوا
يسألون عن كلّ آية من القرآن، أين نزلت؟ وفيمن نزلت؟ وفي هذا يقول مجاهد بن
جبر: " لقد عرضت المصحف على ابن عبَّاس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته،
أوقفه عند كل آية منه، وأسأله عنها".(6) وقال الفضل بن ميمون: سمعت مجاهداً
يقول: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة. (7)
أسباب عدم تدوين هذا العلم في زمن الرَّسول صلَّى الله
عليه وسلَّم
في عهد الرَّسول صلى الله عليه وسلّم ، لم تدون
العلوم والمعارف في كتب مؤلفة، لأسباب منها:
· أنَّهم لم يكونوا
بحاجة إلى التدوين والتأليف، فالرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم يتلقّى
الوحي عن ربِّه سبحانه، وقد تكفل الله له أن يجمع القرآن في صدره. قال
تعالى: {لا تحرك به لسانك لتعجل به، إن علينا جمعه وقرآنه، فإذا قرأناه
فاتبع قرآنه، ثم إن علينا بيانه}. ثم بلَّغه الرسول، وقرأه على الناس على
مكث ليحفظوه ويفهموه، ثم بين لهم الرسول ما خفي عليهم منه استجابة لقوله
تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُّزل إليهم ولعلهم يتفكرون}.
·
كان الصَّحابة مع ذلك عرباً خلصاً يتمتعون بالذكاء الفطري، والفصاحة
والبلاغة، والقدرة على إدراك المعاني، فأدركوا من علوم القرآن وإعجازه
بسليقتهم وصفاء فطرتهم ما لم يدركه من بعدهم. على الرغم من أنَّهم كانوا
أميين.
· لم تكن أدوات الكتابة ميسورة لديهم، كما هو الحال بالنسبة
لمن جاءوا بعدهم.
· نهي الرَّسول صلى الله عليه وسلّم ، أن يكتبوا
عنه شيئاً غير القرآن. فعن أبي سعيد الخدري أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه
وسلّم قال: (( لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني
ولا حرج، ومن كذب عليَّ - قال همام: أحسبه قال: متعمداً فليتبوأ مقعده من
النار)).(
وذلك مخافة أن ينشغل المسلمون بشيء عن القرآن.
------------
(1) انظر: محاضرات في علوم القرآن/ د.
غانم قدوري حمد ص 7-8.
(2) انظر: تفسير الطبري 1/80.
(3) انظر:
تفسير الطبري 1/80، والبرهان في علوم القرآن 2/157.
(4) انظر: تفسير
الطبري 1/80، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/8.
(5) انظر: البرهان
في علوم القرآن 2/157.
(6) انظر: تفسير الطبري 1/90، والإتقان في علوم
القرآن 1/454.
(7) الإتقان في علوم القرآن 1/454.
(
انظر: صحيح
مسلم 14/291، رقم 5326، باب: التثبت في الحديث، وحكم كتابة العلم.
قيم المقال