التقييم : 3 نقاط : 360576 تاريخ التسجيل : 01/01/1970
| موضوع: من ذكريات قلم الشيخ علي الطنطاوي ( شجاعة أطفال الشام ضد المحتل الفرنسي ) الأحد فبراير 03, 2013 9:07 pm | |
|
بسم الله الرحمن الرحيم هذه مقتطفات أنتقيتها لكم من مقالة ( ذكريات القلم ) للشيخ علي الطنطاوي من مذكراته ( 225 / 3 ) و هو يصور فيها بطولة أهل الشام و أطفالها ضد المحتل الفرنسي و كيف كانوا يجاهدون الدبابات الفرنسية بصدورهم العارية و بالله أكبر .. فانتصروا .. فالله أكبر .. ما أشبه الليلة بالبارحة .. الزمان : 1935 – 1936 م المكان : دمشق . أحلف لو أن ما جرى في دمشق في هذه الأيام حرى في فرنسا أو ألمانيا أو إنكلترا , أو في أيّ بلد من بلاد الله العامرة , لكُتب فيه عشرات من الكتب و الروايات و مئات من القصائد و المقالات , و لخُلّدت حوادثه تخليدا ً و صُوّرت مشاهده تصويرا ً , و صارت حديثا ً يَسري في الأجيال الآتية فينفخ فيها روح البطولة و التضحية و يبثّ فيها العّزة و الكرامة. وبمثل هذا تتربى الشعوب و تقوى و تسمو هذا السموّ الذي نراه في بعض البلاد التي نعدّها راقية و نقتدي بها . **** ألم يحرك هؤلاء الأدباء أنّ دمشق تلبث خمسين يوما مضربة , مغلقة حوانيتها مقفرة أسواقها ’ كأنها موسكو حين دخول نابليون , فتعطلت تجارة التاجر و صناعة الصانع , و عاش هذا الشعب الفقير على الخبز و طوى ليلة جائعا و لم يجد الخبز , ثم لم يرتفع صوت واحد بالشكوى و لم يفكر رجل أو امرأة أو طفل بالتذّمر و الضجر , بل كانوا جميعا من العالم إلى الجاهل ومن الكبير إلى الصغير ومن الرجل إلى المرأة و من الشيوخ إلى الأطفال , كانوا جميعا راضين مبتهجين , يمشون و رؤوسهم مرفوعة و جباههم عالة اعتزازا و فخرا. ولم يسمع أن دكانا من هذه الدكاكين قد مست أو تعدى عليها أحد, و لم يسمع أن لصا قد مد يده إلى مال , حتى اللصوص شملهم الإضراب فانقطعوا عن صنعتهم , برغم أن أغنى الأسواق و أعظمها في دمشق قد بقيت أياما وليالي مطفأة الأنوار ليس عليها حارس ولا خفير ! فهل قرأ أحد أو علم أحد , أن بلدا في أوربا أو في أميركا أو المريخ , يسير فيها اللصوص جياعا ولا يمدون أيديهم إلى المال المعروض حرمة للواجب الوطني ومراقبة لله و احتسابا لثوابه . **** وقد بقي الأولاد في المعسكر العام ( في الجامع الأموي ) أياما طويلة يراقبون حالة البلد و ينظرون من يفتح محله , فإذا فتح أغلقوه , وقد اتفق ( رأيت ذلك بعيني ) أن بائع حلويات مشهورا قد فتح محله , فجاء بعض الأولاد بصدور البقلاوة و الكنافة من مخزنه إلى المسجد و تشاوروا : ماذا يفعلون بها ؟ فقال أحدهم : نأكلها عقابا له. فصاحوا به: اخرس , إننا لسنا بلصوص! ثم أرجعوها إليه بعد دقائق وما فيهم إلا جائع. أفلم يحرّككم هذا أيها الأدباء؟ وهل قرأتم أن صبيان باريس و برلين ولندن فعلوا مثله؟ **** و أطفال دمشق, مَن رأى كالأطفال ؟ من فَعَل فِعل الأطفال ؟ من ذا الذي لم يسمع بأعمال الأطفال ويرَ مظاهرات الأطفال ؟ لقد رأينا طفلاً يسيل الدم من رأسه , رأيته أنا وقد وضع يسراه على رأسه يمنع بها الدم و أخذ الحجر بيمينه يضرب بها جند المستعمرين , و عمره أقل من عشر سنين ! لقد حدثني أحد الأصدقاء أنه كان مارا ً في سوق مدحت باشا, وهو من الأسواق التجارية الكبيرة في دمشق , فسأل الأطفال وكانوا مرابطين فيه يحرسونه : هل تسمحون لي يا أولادي أن أمرّ؟ قالوا : إذا كنت تستطيع أن تمشي بين العسكر مرفوع الرأس و تحملق فيهم فمر , و إذا كنت تخفض رأسك وتنحني تخاف فارجع. ***** فنفد الصبر المختزن وانفجر الغضب المكتوم, لا لأنه فخري البارودي بل لأن اختطافه كان كالقشة التي زعموا أنها قصمت ظهر البعير و القطرة التي فاضت منها الكأس, و القطرة قطرة ولكن الكأس كانت ملأى, وأقبل أبناء دمشق بأيديهم وأقبلَت هذه الجيوش بحديدها ونارها, و كانت المعارك التي يصطرع فيها الحقّ و القوّة, والدم و النار , و الصدور والحديد, فينما معركة من هذه المعارك على أشدّ ما تكون عليه و إذا … وإذا ماذا ؟ ليس على وجه الأرض من يستطيع أن يقدّر ماذا كان إلا هؤلاء الشاميون الذين رأوا ذلك بأعينهم, وكنت أنا ممّن رأى ذلك بعينه, وهؤلاء الفرنسيون الذين أكبروا جميعا ً هذه البطولة التي لم يروِ مثلَها تاريخ. خمسون من الأطفال لا تتجاوز سن أكبرهم التاسعة , أطفال مدرسة حضانة ينبعون من بين الناس , يخرجون من بين الأرجل , منهم التلميذ ذو الصدرية السوداء و الأزرار اللامعة قد فرّ من مدرسته وحقيبتُه ما تزال معلّقة بعنقه وحمل مسطرته بيده, ومنهم صبيّ اللحام و اجير الخبّاز , قد اتحدوا جميعا وأقبلوا يهجمون بالمساطر على الدبابة, وهي تطلق النار وهم يطلقون من حناجرهم الرقيقة بأصواتهم الناعمة, التي تشبه الآلة السحرية التي عزف عليها الفارابي في ملس سيف الدولة فأضحك و أبكى, يطلقون هذه الأنشودة البلدية المعروفة : وِصغارنا تِحمِل خَناجِر وِكبارنا ع َ الحَرب واصِل يا بِالوطَن يا بِالكَفَن فوقف الناس ينظرون إليهم وقد عراهم ذهول عجيب, فارتخت أيديهم بالحجارة التي كانوا يقاومون بها الرصاص, حتى رأوا الأطفال قد تسلقوا الدبابة وركبوها. هل تريدون أن أقسم لكم أن هذا المشهد كان واقعاً و أنني كنت ممّن رآه؟ رأيت الأطفال قد تسلقوا الدبّابة وهي تطلق النار من مدافعها, فلما رأى الناس ذلك اشتغل الدم في عروقهم وفي أقحاف رؤوسهم, فأنشدوا أنشودة الموت المعروفة في الشام : ( يا سباع َ البر ِّ حومِي … ) وهم يُرعدون بها فتهتزّ من جَهجّهتا ( صحية الحرب ) الغوطة ويرتجف قاسيون, و أقبلوا كالسيل الدفـّاع. ولكنهم رأوا عجبا ً, رأوا الدبابة قد كفـّت عن الضرب, ثم انفتح برجها وخرج منه شابّ فنرسي يبسم للأطفال وفي عينيه أثر الدمع من التأثر, ويداعبهم و يقدّم لهم قطعة من الشكلاطة ثم يعود إلى مخبئه. إنسانية قد توجد حتى في الدبابات ! ***** ورأيت في هؤلاء الصبية تلميذا ً في شعبه الأطفال من مدرستنا , وكان صغيرا جدا ما أظنّه قد اكتمل عامة السابع, فدعوتـُه فأقبل حتى أخذ بيدي وجعل يرفع رأسه إلي يحاول أن يتثبـّت من وجهي , فقلت: لماذا عملتم هذا يا بابا ؟ فقال: أخذوا فخغي الباغودي ( يريد فخري البارودي ). قلت: ومن قال لك ذلك؟ قال: أمي, وقالت لي: هاللي يموت بالغصاص ( أي بالرصاص ) يغوخ ( أي يروح ) عالجنة. قلت : وإذا أرجعوا فخري البارودي هل ترضى؟ قال: لا, خلي يغوحوا ( يروحوا ) ما بدنا إياهم ( يريد : فليذهب هؤلاء أيضا, لا نريدهم). فسكتّ فقال : أستاذ ليش الإسلام ما لهم عسكغ ( أي عسكر )؟ فأصابني كلمته في القلب, ووجدت كأنّ شيئا ً جاشت به نفسي ثم صعد إلى رأسي ثم وجدته في قصبة أنفي وآماق عيني , ودقّ قلبي دقا ً شديدا ً فتجلـّدت ومسحت عيني و حككت أنفي وقلت له : أنتم يا بابا عسكر الإسلام. قال:نحن صغار. قلت:ستكبرون يا بابا, أنتم أحسن منّا, نحن لمّا كنّا صغارا ً كنّا نخشى البـُعبـُع ونخشى القط الأسود, وأنتم تهجمون على الدبابة, فالمستقبل لكم لا لهم.
| |
|