<blockquote class="postcontent restore ">
السعادة والإيمان
د . سلمان العودة
إن الحياة إذا خلت من الإيمان فهي صحراء وهجير لافح، ليس فيها ظل ولا ماء ولا مأوى.
إِذَا الِإيمَانُ ضَاعَ فَلَا أَمَانٌ
وَلَا دُنْيَا لِمَنْ لَمْ يُحْي دِينَا
وَمَنْ رَضِي الْحَيَاةَ بِغَيْرِ دِينٍ
فَقَدْ جَعَلَ الْفَنَاءَ لَهَا قَرِينَا فالإيمان من أقوى أسباب السعادة الدنيوية والأخروية، ونتبين هذا فيمايلي:
أولًا: السعادة والعبادة:
إن التقرب إلى الله جل وعلا بطاعته وبفرائضه مما يخلق سعادة في القلب، لا يُحسها إلا من وجدها.
أ: نجد السعادة في أداء الفرائض:
يقول ربنا سبحانه وتعالى، في الحديث القدسي عن أبي هريرة
رضي الله عنه: (وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ
مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ) [رواه البخاري].
ويقول الله جل وعلا: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ
أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً
وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
[النحل: 97].
يقول إبراهيم بن أدهم ـ وهو في نعيم العبادة ـ: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه؛ لجالدونا عليه بالسيوف. ب: ونجد السعادة في أداء النوافل:
وفي تتمة الحديث القدسي يقول ربنا سبحانه وتعالى: (وَمَا
تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيََ مِمَّا افْتَرَضْتُ
عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيََ بِالنَّوَافِلِ
حَتَّى أُحِبَّهُ).
فالنوافل مما يقربك إلى الله جل جلاله حتى تظفر بمحبته، وإذا أحبك الله سبحانه فلا خوف عليك.
وَإِذَا الْعِنَايَةُ لَاحَظَتْكَ عُيُونُهَا
نَمْ فَالْمَخَاوِفُ كُلُّهُنَّ أَمَانُ ج: ونجد السعادة في ذكر لله جل وعلا:
يقول الله في محكم كتابه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ
قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ
الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].
يقول ابن القيم رحمه الله:
حضرت عند ابن تيمية, بعد صلاة الفجر، فجلس يذكر الله سبحانه
وتعالى حتى ارتفع النهار، وتعالت الشمس, وتوسطت، ثم التفت إليَّ، وقال:
هذه غدوتي, لو لم أتغدَّها لم تحملني قواي.
إنها ساعات يخلو فيها بربه؛ فيناجيه, ويدعوه, ويستغفره،
ويبتهل إليه، ويتضرع ويسكب دموع الندم بين يديه؛ فيخرج وقد غسل قلبه بهذه
العبادة، وتجددت حياته وروحه وخلاياه وأنسجته، وتجدد عقله وقلبه.
د: ونجد السعادة في القرآن:
يقول الله جل وتعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82].
نعم!
القرآن شفاء لأمراض النفوس، وضيق الصدور، وكروب القلوب، بل وشفاء لعلل الأجساد وأمراض الأبدان.
هـ: ونجد السعادة في البِرِّ بأنواعه:
يقول الله سبحانه وتعالى : {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13-14].
يقول بعض المفسرين: إن النعيم الذي وعده الله الأبرار هو في
الدنيا وفي الآخرة، وإن الجحيم الذي أوعده الله الفجار هو في الدنيا وفي
الآخرة.
فإنه يخلص إلى الأبرار في هذه الدنيا من آثار الجنة التي
وُعدوا من البر والروح والإشراق والسرور والسعادة؛ ما تهتز له قلوبهم طربًا
وترقص منه أفئدتهم أنسًا وفرحًا حتى يقول قائلهم:
إنا لفي نعمة إن كان أهل الجنة في مثلها فهم في عيش طيب.
وهكذا يخلص إلى الفجار وأهل التعاسة والشقاء من سموم النار
ولهبها ولفحها وهجيرها؛ ما يكدر عليهم صفو عيشهم وحياتهم، حتى لا يجدون
طعمًا لمالٍ، ولا أهل، ولا نوم، ولا شرب، ولا صحة، ولا شباب، ولا سفر، ولا
إقامة!
و: ونجد السعادة في الصلاة:
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أَرِحْنَا بِهَا يَا بلال) [رواه الإمام أحمد وأبو داود].
وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ)، [رواه الإمام أحمد والنسائي].
إن العبد ربما أنس لحظات إلى شخص يحبه، فتحدث إليه ووجد في
الحديث إليه ـ ولو كان حديثًا عاديًا ـ من السرور الشيء العظيم فكيف إذا
كان يناجي ربه, ويعبده, ويسجد له ويركع!
ي: ونجد السعادة في معرفة الله عز وجل:
فإن العبد إذا عرف ربَّه استراح، فيرى أثر الله عز وجل في ملكوته، يرى أثر صنعته وإبداعه, وعلمه, ورحمته, وحكمته في كل شيء.
نعم! لم ير ربَّه, لكنه رأى آثار صنعته, وآثار أسمائه الحسنى وصفاته العليا.
لذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه لما سئل
عن الإحسان: (أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ
تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ).
إِلَهِي رَأَيْتُكْ!
إِلَهِي سَمِعْتُكْ!
رَأَيْتُكَ فِي كُلِّ شَيءْ
سَمِعْتُكَ فِي كُلِّ حَي
تَعَالَيْتَ! لَمْ يَبْد شَيءٌ لِعَيْنِي
تَبَارَكْتَ! لَمْ يَنْب صَوْتٌ بِأُذْنِي
وَلَكِنَّ طَيْفًَا بِقَلْبِي يُهِلُّ
وَمِن طَيْفِه كُلُّ نُورٍ يُطِلُّ فيأنس المؤمن حين يرى آثار إبداع الله سبحانه وتعالى، وعلمه وربوبيته وألوهيته أتم الأنس.
ولهذا جاء في صحيح مسلم عن عامر بن سعد عن العباس بن عبد
المطلب، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ذَاقَ طَعْمَ
الإِيمَانِ مَنْ رَضِي بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا،
وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولا).
هذا مدير شركة أمريكية كبيرة جدًا، تجمعت له الأموال,
والجاه, والمكانة, والوظيفة، ولكنه كان يشعر بشقاء مرير، ويأوي إلى الفراش؛
فيجلس ساعات يتقلب دون أن يصل النوم إلى عينيه، وقد أعجبه أن من ضمن
العاملين العاديين في هذه الشركة شابًا عربيًا مسلمًا في وظيفة متوسطة،
وراتب متواضع، لكن هذا الشاب دائم الإشراق والبشر والابتسام والضحك
والسرور.
يأكل بسرور، وينام بسرور، ويأتي ويذهب طلق المحيا، لم يره يومًا من الأيام مُكفهرًا, أو مُقطبًا.
فأحضره في مكتبه.
وقال له: ما شأنك؟ لماذا أنت سعيد كل هذه السعادة؟!
قال له: والله لقد عرفت ربي، وعرفت دربي، وآمنت بالله عز وجل، ولذلك استرحت.
قال: هل لك أن تهديني, أو تدلني؟!
فأخذ بيده إلى أحد المراكز الإسلامية، وهناك تعرَّف على
الإسلام، وسمع كثيرًا من الشرح عنه، ثم لُقِّن: (أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ
إِلاَّ اللَّهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ).
وما إن نطق بها لسانه؛ حتى انهال في بكاءٍ مرير, ودموع حارة.
وقال: إنني شعرت بسعادة، لم أشعر بها طيلة عمري!
وهذا رجل آخر، ذهب مع مجموعة من الدعاة إلى هناك، هو لا يعرف شيئًا، ولكنه ـ لأول مرة ـ صاحبهم من باب التجربة.
فتأخروا عليه في السيارة؛ فنام في سيارته وهو ينتظرهم، وكان
يراقبه من العمارة المجاورة رجل، فنزل إليه وطرق عليه باب السيارة ،ولما
فتح له صافحه، ووجده لا يعرف اللغة الإنجليزية؛ فاستعان بمترجم وسأله:
من أنت؟
وما دينك؟
ولما وجد أنه مسلم.
قال: أريد أن أعرف السر أو الإكسير الذي يجعلك تنام في
السيارة خلال نصف ساعة، بينما أنا تعوَّدت أن أجلس ساعتين يوميًا قبل أن
أظفر بنومة قليلة، يكدرها علي قلق وتوتر.
ثانيًا: السعادة والإيمان:
لقد سجل الله في القرآن الكريم، أن السعادة قرينة الإيمان،
يقول الله جل وعلا: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ
بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].
الأمن في قلوبهم وحياتهم ودنياهم وآخرتهم؛ ولذلك فإن المؤمنين كلما صح إيمانهم؛ قويت قلوبهم، وتمت سعادتهم.
وما أصاب الإنسان من نقص ذلك {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30].
الأستاذ "بودلي" رجل غربي، عاش في الصحراء الغربية بين
الأعراب, وارتدى زيهم, وأكل طعامهم, واشترى قطيعًا من الغنم يرعاه في
الصحراء.
وكتب كتابًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم اسمه: ( الرسول) .
عاش التجربة الغربية، وعاش التجربة الإسلامية عند مسلمين
بسطاء عاديين، ليسوا علماء, ولا متخصصين ولا طلبة علم؛ إنهم رعاة في
الصحراء فماذا يقول؟
يقول: تعلمتُ من عرب الصحراء، كيف أتغلب على القلق؟
فهم يؤمنون بالقضاء والقدر، فيعيشون أوقاتهم بأمان، لكنهم لا يقفون مكتوفي الأيدي إزاء الكوارث، التي يمكن أن تحل بهم.
يقول: هبت ذات يوم ريح عاصفة صحراوية رملية، فأهلكت كثيرًا
من الغنم, وألقت ببعضها في الرمال، ولما هدأت العاصفة كنتُ في غاية
الانفعال والتأثر، بينما وجدت هؤلاء الأعراب يركض بعضهم إلى بعض، وينادي
بعضهم بعضًا, وهم يضحكون, ويهتفون بأغانيهم المعتادة, ويحمدون الله
فيقولون: الحمد لله لقد بقي 40% من الأغنام لم تصب بأذى.
ولما رأوا تأثري؛ قالوا لي: إن الغضب والانفعال لا يصنع شيئًا، وهذا أمر كتبه الله وقدره وقضاه.
يقول: ومع ذلك وجدتهم يحاولون جهدهم، أن يتخلصوا من آثار الكارثة، وأن يعالجوها بقدر الإمكان.
فهم يؤمنون بالقضاء والقدر، ولكن لا يفهمون أن القضاء والقدر معناه الاستسلام، وترك العمل، وترك الأسباب.
يقول: وسافرت معهم ذات مرة بسيارة في الصحراء، وفي وسط الصحراء القاحلة توقفنا؛ فإذا بأحد العجلات (إطار السيارة) قد انفجر؛ فغضبت!
فقالوا لي: الغضب لا يصنع شيئًا.
ومشت السيارة قليلًا على ثلاث عجلات، ثم توقفت؛ لنكتشف بعد ذلك أن الوقود قد انتهى!
ووجدتهم ينزلون من السيارة ويدعونها جانبًا، ثم يسيرون على
أقدامهم، ويتقافزون مثل الظباء, بروح عالية, وسرور وبهجة وأنس، وهم
يتناشدون الأشعار، ويتحدثون معي.
يقول هذا الرجل:
لقد أقنعتني الأعوام السبعة التي قضيتها في الصحراء أن
الملتاثين، ومرضى النفوس، والسكيرين والمعربدين في أوروبا وأمريكا، ما هم
إلا ضحايا المدنية الغربية، التي تتخذ من السرعة أساسًا لها.
والله اعلم
</blockquote>