الإسلام وغرب أفريقية
ينبغي قبل الحديث عن الدعوة في غرب أفريقية أن نشير في إيجاز إلى امتداد الإسلام وانتشاره في هذه الأقاليم الأفريقية.
المقصود
ببلاد غرب أفريقية هنا: البلاد التي كانت تعرف قديما باسم السودان الغربي
والسودان الأوسط. وتشمل مساحة جغرافية تمتد من مصب نهر السنغال في الغرب
إلى الحدود الغربية لبلاد دارفور في سودان وادي النيل في الشرق، وتقع بين
الصحراء الكبرى في الشمال، وبين نطاق الغابات الاستوائية في الجنوب.
ولقد
تأثرت هذه الأقاليم بموجتين إسلاميتين، تتجلى أولاهما في تسرب الإسلام
وانتشاره فيها انتشارا بطيئا استغرق حوالي سبعة قرون ابتداء من القرن
الخامس الهجري (11م) ، وجاءت الموجة الثانية في أعقاب حركة الجهاد التي
اضطلع بها الفلان في القرن الثالث عشر الهجري (19م) .
أما الموجة الأولى
فكانت طلائعها من قبائل الملثمين (الطوارق) الذين اضطلعوا بنشر الإسلام في
غرب أفريقية، عن طريق التسرب السلمي والاستيطان في هذه الأقاليم، أو عن
طريق الغزو والفتح. وعلى الرغم من أن حركة المرابطين بزعامة قبيلة جدالة في
القرن الخامس الهجري (11 م) كانت قصيرة العمر فإنهم نجحوا في إزالة أكبر
عقبة كانت تحول دون تقدم الإسلام جنوبا، فاضمحلت على أيديهم مملكة غانة
الوثنية، ثم اعتنق ملوكها الإسلام وأخلصوا له، وعملوا على نشره بوسائلهم،
وتحولت غالبية شعب غانة إلى الإسلام. واستطاع دعاة المرابطين أن ينشروا
الإسلام على ضفاف السنغال، وفي الأقاليم الواقعة بين السنغال والنيجر. وتم
في عهد المرابطين تأسيس مدينة "تنبكت" وامتداد الإسلام إلى مدينة (جنى) ،
وقد غدت هاتان المدينتان السودانيتان أعظم مركزين للثقافة الإسلامية وسوقين
هامتين للتجارة السودانية على ضفاف النيجر. وفي هذه المرحلة كذلك، ظلت
الموجة الإسلامية الأولى قوية، بيد أن موجهيها لم يصبحوا من البربر، بل من
أهل البلاد الأصليين الذين اعتنقوا الإسلام، ونالوا نصيبا من الثقافة
الإسلامية، سواء أكانوا من السودانيين الخلص، أم من السودانيين الذين
اختلطت دماؤهم بدماء البربر، وأفادوا من خبراتهم السابقة في ميادين السياسة
والحرب، فأسسوا سلطنات إسلامية واسعة مثل: مالي "وسنغى، وبرنوء والكانم،
وإمارات الهوسة في شمال نيجيريا، حيث قامت سبع إمارات هي: دورا، وكانو،
وزاريا، وغوبر (جوبير) ، وكتسنا، وبيرام، ورانو1.
ولقد كان معظم إمارات
الهوسة على الوثنية حتى القرن الثامن الهجري (14 م) ، حين وفدت إليها
تيارات إسلامية من الغرب على أيدي فقهاء مالي، ومن الشمال على أيدي فقهاء
المغرب أما التيار الثالث فمصدره بلاد برنو ومصر، وثم تيار إسلامي رابع وفد
إليها مع تجار جني وتنبكت المترددين على إمارتي كانو وكتسنا أواخر القرن
التاسع وأوائل القرن العاشر للهجرة. (15- 16 م) ، وذلك إبان انتعاش تجارة
إمارات الهوسة، واستقرار أولئك التجار في هذه البلاد، والقيام على تدريس
الدين الإسلامي ونشر مذهب مالك1، وساعد على ازدياد قوة التيار الإسلامي في
القرن العاشر الهجري (16 م) خضوع إمارات الهوسة لسلطنة سنغى الإسلامية.
لكن
على الرغم مما بذل من جهود لنشر الإسلام في بلاد الهوسة. فإن الإسلام لم
يغلب على هذه البلاد، وظلت بها جماليات وثنية حتى مطلع القرن الثالث عشر
الهجري (19 م) 2، ولم يلبث بعض أمراء الهوسة أن تحولت حماستهم للإسلام
والثقافة الإسلامية إلى فتور تام، ولم يعد يسمع شيء عن نشاط إسلامي خلال
القرنين الحادي عشر والثاني عشر (17، 18 م) - حتى قيام الفلان بثوراتهم
الإصلاحية في القرن الثالث عشر الهجري (19 م) .
يضاف إلى هذا أن الغزو
المراكشي في غرب أفريقية في القرن العاشر الهجري (16م) والقضاء على سلطنة
سنغى الإسلامية، قد أدى إلى تدهور أحوال البلاد الاقتصادية والثقافية
والدينية، بسبب فساد الأمن واضطراب سير التجارة السودانية عبر الصحراء
الكبرى، وتشريد علماء تنبكت، واضمحلال جامعاتها. يقابل هذا ازدياد نفوذ
الممالك الوثنية مثل سيغو (سجو) 3 وخضوع الباشوات الذين خلفهم الغزو
المراكشي لنفوذ ملوك سيغو الوثنيين ثم إن الجامعات الإسلامية القليلة
المبعثرة في الأقاليم الوثنية عوملت معاملة أهل الذمة؛ فقد فرضت عليهم
الجزية، وحرموا من تطبيق الشريعة الإسلامية، وخضعوا لقوانين البلاد القائمة
على العادات الوثنية. واستمرأ معظم أمراء المسلمين- وقتذاك- ومن يلوذ بهم
من النفعيين الحياة في ظل هذا الركود، ما عدا نفر من أهل الصلاح والتقوى
الذين يتطلعون إلى ظهور مصلح يأخذ بأيدي المسلمين، وينقذ الدين الإسلامي من
وهدته2.
الحركات الإصلاحية في بلاد الهوسة.
تحقق هذا الإصلاح
المرتقب على أيدي الفلان منذ مطلع القرن الثالث عشر للهجرة (19 م) . وهنا
تبدأ الموجة الإسلامية الثانية التي بلغت من القوة في خلال قرن واحد حدا
يفوق ما بلغته الموجة الإسلامية الأولى في خدمة الإسلام والثقافة الإسلامية
في غرب أفريقية خلال سبع قرون. ولقد امتدت اليقظة الإسلامية التي انبعثت
من قلب الجزيرة العربية على يد الشيخ المجدد الإمام محمد بن عبد الوهاب إلى
بلاد الهوسة بغرب أفريقية أول القرن الثالث عشر الهجري؛ إذ وجدت الدعوة
السلفية طريقها إلى هذه الأقاليم التي ما كان لها أن تبقى بعيدة عما يعتمل -
وقتذاك - في قلب الجزيرة العربية وغيرها من الأقطار الإسلامية التي تأثرت
بالدعوة السلفية؛ لصلاتها القوية بها جميعا ولا سيما في موسم الحج.
كان
رواد نشر الدعوة السلفية ودعاتها في غرب أفريقية من قبائل الفلبي (الفلان)
الذين أخذت أفواجهم منذ القرن السابع الهجري (13 م) تفد من مواطنهم الأصلية
بإقليم فوتاتورو بالسنغال إلى بلاد الهوسة في شمال نيجيريا. وقد انقسم
المهاجرون من الفلان إلى فريقين: فريق سكن المدن وعرف باسم "فلانى جدا"،
أي: المختلطين أو المهجنين، لاختلاطهم بقبائل الهوسة عن طريق المصاهرة 3
وهؤلاء كانوا أول من اعتنق الإسلام في بلاد الهوسة. أما الفريق الآخر فمن
البدو الذين لم يختلطوا بقبائل الهوسة. وعرفوا باسم: "بروروجي" أي رعاة
البقر، واحتفظ هؤلاء بدينهم الوثني. وفي أواخر القرن الثاني عشر الهجري (18
م) غدا الفلان جدا المسلمون عنصرا هاما بين سكان بلاد الهوسة ووصل كثير
منهم إلى أعلى المناصب بفضل مواهبهم واستعدادهم الذهني .
-------------------------------------------
1 عبد الله بن يوسف الشبل: المرجع نفسه ص 89.
1 محمود كعت التنبكتي: تاريخ الفتاسن في أخبار البلدان والجيوش, وأكابر الناس ص 17.
(2) Fage, o. g. d.: an introduction to the history of west africa. p. 35