كيف نشأت اللغات؟
للحديث عن بداية نشوء
اللغات، لا بد من المرور على الآراء النظرية في عمر الإنسان على الأرض
وعمر الأرض نفسها، وهو حديثٌ يطول، ولكننا سنختصره فقط للتأسيس لأصول تكوين
لغتنا العربية الراهنة.
يقدر بعض العلماء عمر الأرض ب 2000 مليون سنة (ملياري سنة)، وعمر الحياة
عليها 1200 مليون سنة، أما عمر الإنسان فهو حوالي مليون سنة، وعمر حضارته
المعروفة أو المدونة 6000 سنة. ولو اختصرنا كل ذلك واعتبرنا أن عمر الحياة
على الأرض 100 سنة، فيكون عمر الإنسان على الأرض شهراً واحداً وحضارته
ساعتين*1
يقول العلامة طه باقر في كتابه المعروف (مقدمة في تاريخ الحضارات
القديمة) أن هناك عدة تفسيرات لنشوء اللغة من الممكن إرجاع اللغات البشرية
فيها الى ثلاثة أصول بعيدة:
1ـ محاكاة الأصوات الطبيعية Onomatopoeic
2ـ أصوات مصحوبة بالإشارات، أو إشارات مصحوبة بأصوات Gesture and Sound، وبهذين الأسلوبين نشأت المفردات المادية Concrete
3ـ أما المعاني والمفردات المجردة فيمكن إرجاع أصلها البعيد الى
المفردات المادية، أي أنها مشتقة في الأصل من هذه، فمثلاً أن الكلمة
اللاتينية (Space) ذات علاقة اشتقاقية من كلمة (Space) المادية، وكلمة (Anima) (النفس) اللاتينية مشتقة من (السنسكريتية Aniti) وهي النفس، وكلمة (Anias) الريح.
ومثلها كلمة نفس وروح بالعربية، فليست بعيدة عن النَفَس والريح، وكلمة انشراح وانقباض لهما علاقة بخروج النَفَس بسهولة أو صعوبة.
وقد يسأل البعض، كيف نشأت تلك اللغات البشرية المتنوعة؟ هل كانت لغة
واحدة وتفرعت؟ أم أنها نشأت منذ البداية متنوعة؟ ومع أنه لا أحد يستطيع
الجزم بذلك، فإن عدداً غير قليل من العلماء يرى أن الشعوب المنعزلة كانت
لها لغاتها، واحتكاك الشعوب مع بعضها البعض رفد لغة كل شعب بكلمات جديدة.
ودللوا على ذلك بالقول أن سكان أستراليا الأصليين يتكلمون ب 500 لغة مختلفة
عن بعضها. وسكان كاليفورنيا فقط من الهنود الحمر لديهم 31 عائلة لغوية
و135 لهجة فيما بينهم*2.
الكتابة المسمارية
بدأ الاهتمام بدراسة الحروف الهجائية وأصولها وكيفية تطورها، منذ القرن
السابع عشر. يقول المؤرخ الروماني (تاسيتوس) أن البشر الأوائل الذين عبروا
عن آرائهم بالخطوط والصور الحيوانية هم المصريون، وتُعد تلك الوثائق، وما
تزال، من أقدم السجلات البشرية المحفورة على الحجر، ويدعي (المؤرخ) بأنهم
أوجدوا الحروف الهجائية وعلموها للفينيقيين الذين كانوا سادة البحر وقدموها
الى بلاد اليونان وكانوا فخورين بذلك من دون شك*3
ويأتي فريقٌ آخر من الباحثين في أصول الحروف الهجائية، والمتأثرين
بنظرية أن الكتابة المصرية القديمة هي مصدر للأبجدية التي استخدمها أقوام
الجزيرة العربية (الساميون) في التدوين. ويستند هذا الفريق على أن الكتابات
المكتشفة في سيناء التي تحتوي على نحو (150) علامة تضم بينها حسب رأي هذا
الفريق (31ـ32) حرفاً هجائياً تصلح لإيجاد أوجه شبه بينها وبين أبجديات
الجزيرة العربية*4
ويعتقد ديفيد درنجر في مؤلفه (الكتابة) بأن جميع الحروف الأبجدية في
لغات أوروبا متفرعة عن الحروف الهجائية اليونانية، والأخيرة بدورها مقتبسة
من الهجائية الكنعانية (الفينيقية). ومن أجل مناقشة هذا الرأي لا بد لنا من
أن نقارن بين قِدم هجرة الكنعانيين وغيرها من الهجرات لأقوام الجزيرة
العربية. إن هجرة الأكديين الى وادي الرافدين كانت في حدود الألف الرابع
قبل الميلاد، حيث أنهم سكنوا مع السومريين جنباً الى جنب وأسهموا في بناء
الحضارة العراقية الأولى، بينما نجد أن هجرة الكنعانيين الى سواحل المتوسط
وفلسطين كانت في حدود الألف الثالث قبل الميلاد. والملاحظ على هذه الفترة
أن الجهل كان يسود معظم أرجاء العالم في حين كان العراق قد قطع شوطاً
واسعاً في التحضر.
ويفند الدكتور خالد الأعظمي*5 أقوال من يقدموا الفينيقيين والمصريين على العراقيين في اختراع الكتابة بما يلي:
1ـ يذكر موريس دونالد عن كتاب (قواعد اللغة المصرية) أن عدد الرموز
الهيروغليفية في الكتابة المصرية بلغت (749) رمزاً، والمتممات الصوتية 168
علامة.. ويقول الأعظمي أن هذا العدد الهائل يجعل من العسير على الشعوب
الأخرى تعلمها. في حين بلغ عدد العلامات المسمارية في العهد البابلي 100
علامة [ العلامة المسمارية تتكون من حرفين اثنين أولهما إما أن يكون حرفاً صحيحاً مع حروف العلة أو يبدأ بحرف علة مع حرف صحيح]
2ـ معروف تاريخياً أن الخط المسماري بدأ في الألف الرابعة قبل الميلاد
وفي العراق، ومر بثلاث مراحل تطورية بطيئة. في حين الخط الهيروغليفي ظهر
خلال الألف الثالثة قبل الميلاد وتطور سريعاً بفعل عوامل خارجية وهي
العوامل العراقية (الخط المسماري العراقي).
3ـ إن الكتابة المسمارية العراقية والتي طورها الأكديون والبابليون
والآشوريون كانت ملائمة تماما لقواعد لغتهم النحوية وتصاريف مفرداتهم
اللغوية ولغة أقوام الجزيرة العربية لأنها من عائلة لغوية واحدة. في حين لم
تصلح الهيوغليفية لذلك لعدم ملائمتها لما كان سائد في الجزيرة العربية،
شمالها وجنوبها. وكون الشعوب التي نزحت من الجزيرة حلت في العراق وبلاد
الشام، فهي كانت على تواصل في لغاتها.
4ـ لا أساس لصحة ما يقال عن الخط الأوغاريتي الهجائي المكتشف في
(أوغاريت ـ سوريا)، والمسماري بأنه لا علاقة له بالخط العراقي إلا بالشكل،
فهو متأثر به ومقتبس عنه.
يتبع
هوامش:
*1ـ عن (CEM Joad) في مقالة له في الموسوعة Encyclopedia of Modern Knowledge Vol. 1 p 18
*2ـ طه باقر/ مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة/ بغداد 1955/ ط2/ صفحة 32.
*3ـ D.Diringer Writing pp. 112-113
*4ـ Writing and our Alphabet pp.48-49 S. A Mercer, the Origin
of A,H Gardiner The Egyptian origin of the Semitic Alphabet, in JEAIII
PP.1-16
*5ـ أ.د. خالد الأعظمي/ الكتابة المسمارية وعلاقتها بالحروف الهجائية
القديمة الفينيقية والإغريقية واللاتينية/بحوث الندوة العربية التي نظمها
بيت الحكمة في بغداد للمدة بين 10ـ11/10/2001