| مقتل الخليفة عثمان بن عفان وبداية الفتنة ونتائجها | |
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
التقييم : 3 نقاط : 360558 تاريخ التسجيل : 01/01/1970
| موضوع: مقتل الخليفة عثمان بن عفان وبداية الفتنة ونتائجها الخميس مارس 07, 2013 10:24 pm | |
|
مقدمة بعد مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجّه عثمان رضي الله عنه الجيوش لاستكمال فتوحات فارس، فوجّه جيشًا لمنطقة (الري) شرق بحر قزوين، وكان على رأس هذا الجيش أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، وفتحها أبو موسى الأشعري، وقام بعد ذلك بغاراتٍ على بعض القلاع، والحصون الرومية.
ومن الأحداث المهمة أن عثمان رضي الله عنه، ولّى سعد بن أبي وقّاص على الكوفة سنة 24 هـ، وكانت هذه المدينة دائمة الفتن، والثورات على أمرائها، وفي سنة 25 هـ ثار أهل الكوفة من جديد على سعد بن وقاص.
فعزل عثمان سعدًا، وولّى الوليد بن عقبة بن أبي معيط، ثم فتحت الجيوش الإسلامية في عهد عثمان رضي الله عنه أذربيجان، وأرمينية غرب بحر قزوين على يد الوليد بن عقبة رضي الله عنه، وفي سنة 26 هـ، قام عثمان رضي الله عنه بتوسعة المسجد الحرام، وفتحت أيضًا في هذه السنة سابور في شرق فارس، وكانت من المناطق الغنية الكثيرة السكان، حتى أن خراجها كان ثلاثة ملايين وثلاثمائة ألف درهم في السنة، وبدأ الخير يعم على المسلمين بصورة كبيرة، وفي سنة 27 هـ فُتحت أرجان، وهي من بلاد الفرس، وعزل عثمان رضي الله عنه عمرو بن العاص رضي الله عنه عن ولاية مصر، وكان واليها من قِبَل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك لما لانت قناته مع أهل الكتاب الذين قلّلوا من الجزية التي كانوا يدفعونها، ووقفت الفتوحات عند برقة وهي تابعة لـ(ليبيا) حاليًا، وتولى مصر عبد الله بن أبي سرح، فعادت الجزية كما كانت في بداية عهد عمرو بن العاص، وواصل عبد الله بن سرح الفتوحات متجهًا نحو الغرب، واتجه إلى ما يسمّى الآن بتونس، وكان على رأس الجيوش عقبة بن نافع رضي الله عنه.
آثار خلافة عثمان بن عفان في سنة 28 هـ فُتحت قبرص، وكان هذا تقدمًا خطيرًا للدولة الإسلامية، وذلك لأن المسلمين لم يكن لهم أسطولًا بحريًا، ولم يكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه موافقًا على غزو البحر، وكان يخشى على المسلمين منه، لكنّ معاوية رضي الله عنه أصرّ على هذا الأمر، وعرضه على عثمان رضي الله عنه مرة بعد مرة، حتى اقتنع به عثمان رضي الله عنه، وقام الأسطول البحري الإسلامي الأول بفتح قبرص، وعلى رأس هذا السطول معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وعبد الله بن أبي سرح من مصر، وحاصرا قبرص، وفتحت، واستكلمت فتوحات إفريقية، ووطدت أركان الدولة الإسلامية في منطقة شرق وشمال إفريقية.
في سنة 29 خالفت (اصطخر) وهي إحدى بلاد فارس، ونقضت عهدها مع المسلمين، فأرسل إليها جيشًا وفُتحت مرة أخرى.
كما تمت توسعة المسجد النبوي مرة ثانية في هذا العام، وفي العام 30 هـ فتحت خراسان، ونيسابور، وقوص، وكثر الخراج بصورة عظيمة، وثار أهل الكوفة كالعادة على الوليد بن عقبة، وعُزلَ وتولّى سعيد بن العاص.
يقدّم الحسن البصري رضي الله عنه وأرضاه، وهو أحد التابعين المعاصرين لهذه الفترة، شهادةً للتاريخ على هذه الفترة من حياة عثمان رضي الله عنه وأرضاه فيقول:
أدركت عثمان على ما نقموا عليه، قلّما يأتي على الناس يوم إلا وهم يقتسمون خيرًا، يُقال لهم: يا معشر المسلمين اغدوا على أعطياتكم.
فيأخذونها وافرة، ثم يقال لهم: اغدوا على أرزاقكم.
فيأخذونها وافرة، ثم يقال لهم: اغدوا على السمن والعسل.
فالأعطيات جارية، والأرزاق دارّة، والعدو متّقى، وذات البين حسن، والخير كثير، وما من مؤمن يخاف مؤمنًا ومن لقيه فهو أخوه.
إذن فقد كان المسلمون على درجة عالية من الرخاء، لم يصلوا إلى هذه الدرجة من قبل، ويقوم عثمان رضي الله عنه في هذه الفترة بعمل من أعظم أعماله؛ وهو جمع القرآن على مصحف واحد، وكان سبب هذا الأمر أن المسلمين في فتوحات الشام، وفي الأراضي الرومية كان يأتون من الشام ومن العراق، وكان ممن حضر هذه الفتوحات حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، وقد لاحظ الاختلاف الشديد في القراءات ما بين الناس، فكلٌ منهم يقرأ بقراءة، فأهل الشام يقرءون على قراءة المقداد بن عمرو، وأبي الدرداء رضي الله عنهما، وأهل العراق يقرءون على قراءة عبد الله بن مسعود وأُبي بن كعب رضي الله عنهما، حتى أن بعض الجهّال ممن لا يعرفون أن القرآن أنزل على سبعة أحرف بدأ كل منهم يخطّأ الآخر، بل وصل الأمر إلى درجة التكفير.
فعاد حذيفة بن اليمان إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه وقال له: أدرك الأمة.
فاستدعى عثمان رضي الله عنه زيد بن ثابت رضي الله عنه، وكان قد جمع القرآن على عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وطلب منه عثمان رضي الله عنه أن يأتي بالصحائف التي كان قد جمعها، وكانت هذه الصحائف بداية عند أبي بكر الصديق، ثم عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعند وفاته ترك هذه الصحائف عند ابنته أم المؤمنين السيدة حفصة رضي الله عنها وعن أبيها، وذهب بالفعل وأتى بهذه الصحائف، وكوّن عثمان رضي الله عنه مجموعة من أربعة هم: سعيد بن العاص الأموي، زيد بن ثابت الأنصاري، عبد الله بن الزبير بن العوام الأسدي، عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، وكلفهم بعمل بعض النُّسخ من القرآن الكريم على القراءة التي كتبها زيد بن ثابت في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فهو لم يضف قراءة جديدة، ولكنه جمع الناس على ما جمعهم عليه أبو بكر رضي الله عنه من قبل، فكان الذي يُملِي هو سعيد بن العاص رضي الله عنه، وكان الذي يكتب هو زيد بن ثابت، وكان عبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن الحارث رضي الله عنهما يحضران الإملاء، والكتابة، ويتابعان الأمر فكتبوا المصحف كاملًا، ونسخوا منه سبع نسخ، وقام عثمان رضي الله عنه بحرق باقي الكتابات الأخرى الموجودة عند بقية الصحابة، والتي يخالف ترتيبها الترتيب الذي عُرِض على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المرة الأخيرة، وكان هذا مجهودًا شاقًا وعسيرًا فقد كان حجم الصفحة من المصحف الذي أمر عثمان رضي الله عنه بنسخه سبع نسخ كانت ما بين 80 و 60 سم، وكانت النسخة الواحدة يحملها المجموعة من الرجال، ووجّه عثمان رضي الله عنه إلى كل قطر بنسخة من هذا المصحف، فأبقى نسخة بالمدينة المنورة، وأرسل نسخة إلى مكة، والثالثة إلى مصر، والرابعة إلى الشام، والخامسة إلى الكوفة، والسادسة إلى البصرة، والسابعة إلى اليمن، وبهذا تم جمع المسلمين على مصحف واحد، وهو المُسمّى بالمصحف العثماني، وعثمان رضي الله عنه لم يكتب فيه حرفًا واحدًا وإنما أمر بجمعه، ونسخه كما رأينا.
في سنة 31 هـ قام المسلمون بموقعة بَحْرية شهيرة هي موقعة (ذات الصواري).
وفي سنة 34 هـ توفي الكثير من أعلام الصحابة، وكأن الله أراد أن يقيهم شر حضور الفتنة، فكان ممن توفي في هذه السنة: العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه، وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود، وأبو الدرداء، وأبو ذرّ رضي الله عنهم جميعًا، وزيد بن عبد الله بن عبد ربه الأنصاري رضي الله عنه، وهو الذي رأى في منامه الأذان وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره برؤياه، فأقرّه النبي صلى الله عليه وسلم.
كما فُتحت أجزاء من بيزنطة في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، ولكن كان إتمام فتحها في عهد معاوية رضي الله عنه.
وفي سنة 33 هـ فتحت الحبشة - والمقصود أجزاء من السودان -، وفي سنة 34 هـ حدثت ثورة أخرى بالكوفة على سعيد بن العاص، وتولّى الأمر فيها أبو موسى الأشعري برغبة أهل الكوفة، ووافقهم عثمان رضي الله عنه على ذلك وسنرى تفاصيل هذا الأمر إن شاء الله.
وفي هذه السنة 34 هـ بدأت مقدمات الفتنة الكبرى تأخذ شكلًا واضحًا والتي استُشهد على أثرها في سنة 35 هـ عثمان بن عفان رضي الله عنه لينهي حياة حافلة بالعمل الخالص لله تعالى، والذي بشره النبي صلى الله عليه وسلم من أجله بالجنة.
ذو النورين كان على يقين بما سيحدث له لا شك أن قتل عثمان رضي الله عنه له تفاصيل كثيرة، ولكن ما نشير إليه الآن هو أنّ عثمان رضي الله عنه كان يعلم أنه سيُقتل في هذه الفتنة، وذلك ببشارة النبي صلى الله عليه وسلم ونبوءته بهذا الأمر، روى البخاري بسنده عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَعِدَ أُحُدًا، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، فَرَجَفَ بِهِمْ، فَقَالَ:
اثْبُتْ أُحُدُ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ.
وفي البخاري أيضًا عَنْ أَبِي مُوسَى الأشعري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ، فَجَاءَ رَجُلٌ، فَاسْتَفْتَحَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ.
فَفَتَحْتُ لَهُ، فَإِذَا أَبُو بَكْرٍ، فَبَشَّرْتُهُ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ، فَاسْتَفْتَحَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ.
فَفَتَحْتُ لَهُ، فَإِذَا هُوَ عُمَرُ، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، ثُمَّ اسْتَفْتَحَ رَجُلٌ، فَقَالَ لِي:
افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُهُ.
فَإِذَا عُثْمَانُ، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
وروى ابن ماجة والترمذي والإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَيْسٍ أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ حَدَّثَهُ قَالَ:
كَتَبَ مَعِي مُعَاوِيَةُ إِلَى عَائِشَةَ، قَالَ:
فَقَدِمْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَدَفَعْتُ إِلَيْهَا كِتَابَ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَتْ:
يَا بُنَيَّ أَلَا أُحَدِّثُكَ بِشَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
قُلْتُ: بَلَى.
قَالَتْ:
فَإِنِّي كُنْتُ أَنَا، وَحَفْصَةُ يَوْمًا مِنْ ذَاكَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: لَوْ كَانَ عِنْدَنَا رَجُلٌ يُحَدِّثُنَا.
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا أَبْعَثُ لَكَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَسَكَتَ، ثُمَّ قَالَ:
لَوْ كَانَ عِنْدَنَا رَجُلٌ يُحَدِّثُنَا.
فَقَالَتْ حَفْصَةُ: أَلَا أُرْسِلُ لَكَ إِلَى عُمَرَ.
فَسَكَتَ، ثُمَّ قَالَ:
لَا.
ثُمَّ دَعَا رَجُلًا، فَسَارَّهُ بِشَيْءٍ، فَمَا كَانَ إِلَّا أَنْ أَقْبَلَ عُثْمَانُ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ وَحَدِيثِهِ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ لَهُ:
يَا عُثْمَانُ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَعَلَّهُ أَنْ يُقَمِّصَكَ قَمِيصًا، فَإِنْ أَرَادُوكَ عَلَى خَلْعِهِ فَلَا تَخْلَعْهُ. ثَلَاثَ مِرَارٍ. صححه الألباني.
وروى الترمذي بسنده عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيِّ أَنَّ خُطَبَاءَ قَامَتْ بِالشَّامِ وَفِيهِمْ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ آخِرُهُمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ مُرَّةُ بْنُ كَعْبٍ فَقَالَ: لَوْلَا حَدِيثٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قُمْتُ، وَذَكَرَ الْفِتَنَ، فَقَرَّبَهَا، فَمَرَّ رَجُلٌ مُقَنَّعٌ فِي ثَوْبٍ فَقَالَ:
هَذَا يَوْمَئِذٍ عَلَى الْهُدَى.
فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، قَالَ:
فَأَقْبَلْتُ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ، فَقُلْتُ: هَذَا؟
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ أَبُو عِيسَى الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، ورواه ابن ماجه وصححه الألباني.
فهذه كلها بشارات لعثمان رضي الله عنه أن هذه الفتنة سوف تحدث ويكون فيها عثمان رضي الله عنه على الحق، وسيُقتل فيها رضي الله عنه، ويدخل على أثرها الجنة، وستكون لهذه البشارات من رسول الله صلى الله عليه وسلم الأثر في سير الأحداث بعد ذلك كما سنرى في تفاصيل الفتنة.
إذن هذا هو ما حدث في فترة خلافة عثمان رضي الله عنه من الآثار، وكانت من الفترات المهمة جدًا في تاريخ الدولة الإسلامية.
ومع هذا الخير الذي كان عليه عثمان رضي الله عنه، ومع هذه الأفضال والمحامد، والآثار العظيمة، ومع هذا الخير الذي عمّ على جميع المسلمين، ومع هذه الأرزاق الدارّة التي لمسها المسلمون، حتى كان يُنادى على المسلمين أن اغدوا على أعطياتكم، فقد كان عهدًا عظيمًا من الرخاء، مع هذا كله تحدث الفتنة.
ظهور ابن سبأ وبداية الفتنة ما بين سنة 30 إلى 31 هـ، ظهر في اليمن عبد الله بن سبأ، وكانت أمه جارية سوداء، ومن ثَمّ لُقّب بابن السوداء، وكان يهوديًا، وعاش في اليمن فترة طويلة، وكانت اليمن قبل الإسلام مقاطعة فارسية، فتعلّم عبد الله بن سبأ الكثير عن المجوسية، وأراد هذا اليهودي أن يطعن في الإسلام والمسلمين، وبدأ بالتفكير في عمل هذه الفتنة، فدخل في الإسلام ظاهرًا في بداية عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وبدأ يتنقل في البلاد حتى ينشر بعض الأفكار السامّة، والطاعنة في الإسلام، فذهب إلى الحجاز، ولما لم يجد صدى كافيًا انطلق إلى العراق، فذهب إلى البصرة، وكانت موطنًا للفتن، ووقع هناك على رجل يُسمّى حكيم بن جبلة، وكان من المسلمين، ولكنه كان لصًّا يغير على أهل الذمة، وقد حدد الخليفة إقامته بألا ينتقل من البصرة، فقد كان رجلًا سيئ الخلق، وبدأ ابن سبأ يلقي في روعه بعض الأفكار الجديدة على الإسلام، والمقتبسة من اليهودية، والمجوسية، وخرجت عقائد الشيعة من هذه الأفكار التي جاء بها عبد الله بن سبأ، وقد انقسم الشيعة إلى فرق كثيرة، فمنهم من أخذ من عبد الله بن سبأ كل ما قاله، وهم من يُسمّون الآن بالسبئية، ومنهم من أخذ منه البعض، ومنهم من أخذ القليل منه، ولكن على العموم فالشيعة جميعًا أخذوا من هذه الأفكار.
تبعه حكيم بن جبلة، وبعض من قبيلته، وبعض من أصدقائه، وكان كل هذا الأمر يدور سرّا، فهو لا يجرؤ على الجهر به ابتداءً، ثم انتقل من البصرة إلى الكوفة، وهي موطن للفتن، والثورات أيضًا، واستجاب له من أهل الكوفة أفراد كثيرون، ولكن سرّا ومنهم على سبيل المثال الأشتر النخعي، وهذا أمر غريب، فقد كان الأشتر من المجاهدين في اليرموك، والمواقع التي جاءت بعدها، ولكن الله تعالى يثبّت من يشاء، وقد استجاب الأشتر لابن سبأ إما عن جهلٍ، وإما عن رغبةٍ في الرئاسة أو غير ذلك، وكان الأشتر ذو مكانة ورأي في قومه، وبدأ يدعو الناس إلى ما هو عليه من أفكار، ويفسر بعض المؤرخين سبب انضمام الأشتر إلى أصحاب الفتنة بتفسيرين يناقض كل منهما الآخر؛ فالأول أنه كان من المغالين المتشددين في الدين، ويبالغ في بعض الأمور التي كان يظن أنها خطأ، ومن ثَمّ يتشدد لها، والأمر الثاني أنه كان محبًا للرئاسة، والسيطرة، وقام بالمشاركة في هذه الفتنة حتى يُمكّن له ويصل إلى ما يريد.
انتقل ابنُ سبأ إلى مصر، ووجد في مصر مناخًا مناسبًا لأفكاره؛ لأن معظم المجاهدين خرجوا إلى الفتوحات في ليبيا، وآخرين في السودان ومن كان موجودًا إنما هم قلة من المسلمين، فاستطاع ابن سبأ أن يجمع حوله قلة من الناس، واستقرّ في مصر، ولم يكن استقراره أمرًا مقصودًا، لكنه كان بطبيعته يستقرّ في كل بلد ينزل فيها مدة، ثم يغادرها إلى غيرها، فلما كان بمصر كان قد قرب عهد الفتنة فخرج من مصر.
أفكار ابن سبأ:
كانت أفكار ابن سبأ تهدف لهدم الإسلام، وتشكيك المسلمين في دينهم ومن هذه الأفكار:
1- القول بعقيدة الرجعة: وهي من الثوابت عند الشيعة، وأصلها في المجوسية، وقد وُجدت في اليهودية افتراءً على الله تعالى، فاليهود يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله، وقال لهم ابنُ سبأ: إذا كان عيسى بن مريم سيرجع فكيف لا يرجع محمد صلى الله عليه وسلم، فمحمد صلى الله عليه وسلم سيرجع، وتمادى الشيعة في الأمر، وقالوا ليس محمدًا فحسب بل علي بن أبي طالب وغيره.
لكن أصل هذه العقيدة كما نرى نابعة من المجوسية، ومن افتراء اليهود وكذبهم، وكان ابن سبأ يخاطب الجهّال فيصدقونه، وقد سأله البعض عن دليلٍ على رجعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فقال: يقول الله تعالى:
]إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ القُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ]
{القصص:85}.
وقال إن هذا المعاد في الدنيا، فخدع به بعض الجهال.
2- عقيدة الوصاية: قال ابن سبأ إن أمر النبوة منذ آدم حتى محمد صلى الله عليه وسلم بالوصاية، أي أن كل نبي يوصي للنبي الذي بعده- وهذا تخريف منه وتحريف- وكان هناك ألف نبي وكل منهم أوصى لمن بعده، فهل يأتي محمد صلى الله عليه وسلم وهو خاتم الأنبياء، ولا يوصي بالأمر من بعده لأحد، إذن أوصى محمد صلى الله عليه وسلم إلى أحد الناس، هذا في البداية، ثم بدأ في البحث عن رجل إذا تكلم عنه أمام الناس يخجل الناس أن يردوا كلامه، فقال:
إن محمدا صلى الله عليه وسلم أوصى بالأمر لعلي وقد علمت ذلك منه، ووضع حديثا في ذلك يقول- افتراءا على الرسول صلى الله عليه وسلم-:
أنا خاتم الأنبياء، وعلي خاتم الأوصياء. أو الأولياء.
وهو حديث موضوع كما قال الألباني، وأضاف الشيعة بعد ذلك مجموعة من الأوصياء، ومن هنا ظهرت عقيدة الوصاية.
ثم قال ابن سبأ لأتباعه:
اطعنوا في الأمراء، وبدأ يراسل أهل الأمصار بسلبيات افتراها على الأمراء الذين ولاهم عثمان رضي الله عنه، من أمثال عبد الله بن أبي سرح، والوليد بن عقبة، وسعيد بن العاص، وعبد الله بن عامر، وقال لأتباعه:
إذا قمتم بالدعوة إلى هذا الأمر في الناس فقولوا: إنا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر.
حتى لا ينكر قولكم.
أتباع ابن سبأ
اتبع ابن سبأ مجموعة من الطوائف، فمنهم الذين هم على شاكلته ممن دخلوا في الإسلام ظاهرا، وأبطنوا الكفر والنفاق، وطائفة أخرى يرغبون في الإمارة والرئاسة والسيطرة، ولم يولهم عثمان رضي الله عنه، إما لسوء خلقهم، أو لوجود من هو أفضل منهم، وطائفة ثالثة من الموتورين الذي أقام عثمان رضي الله عنه الحد على أحدهم، أو على قريب لهم، فقاموا حمية له، وطائفة أخرى من جهال المسلمين الذين ينقصهم العلم، فتبعوا ابن سبأ بدافع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليقتلوا عثمان بن عفان رضي الله عنه.
ثم بدأ الطعن في الخليفة نفسه، وأعد ابن سبأ قائمة بالطعون في عثمان رضي الله عنه، وأرسلها إلى الأمصار والبلدان، ووصل الأمر إلى أمراء المسلمين، وإلى الخليفة رضي الله عنه، فأرسل مجموعة من الصحابة يفقهون الناس، ويعلمونهم، ويدفعون عنهم هذه الشبهات، فأرسل محمد بن مسلمة إلى الكوفة، وأسامة بن زيد إلى البصرة، وعمار بن ياسر إلى مصر، وعبد الله بن عمر إلى الشام، وكان أهل الشام أقل الناس تأثرا بهذه الفتنة، وكان معاوية رضي الله عنه يسوس الناس بحكمة، وحلم وكان الناس يحبونه حبا شديدا، وقد رفض الناس دعوة ابن سبأ عندما عرضها عليهم، فذهب إلى أبي ذر الغفاري رضي الله عنه وأرضاه وهو من كبار الصحابة ومن شديدي الزهد كما يعرف ذلك من يطالع سيرته، ولما مر به عبد الله بن سبأ في طريقه قال له: يا أبا ذر إن أهل الشام ينغمسون في الدنيا وفي الملذات وينشغلون عن أمر الدين.
محاولا بهذا الكلام إثارته، فذهب أبو ذر إلى معاوية وقال له:
]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ]
{التوبة:34}.
متأولا معنى الآية أنه لا يجوز للإنسان أن يكنز أكثر من قوت يوم واحد، وهذا الفهم يخالف أصول الإسلام في هذه الناحية، فقال له معاوية:
إنك تحمل الناس على أمر لا يطيقونه، ولم يقره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصر أبو ذر على رأيه، فأرسل معاوية إلى عثمان رضي الله عنه، فاستدعى عثمان رضي الله عنه أبا ذر رضي الله عنه، ودار بينهما حوار سنذكر تفاصيله فيما بعد، وكان هذا من المطاعن على عثمان رضي الله عنه التي تبع ابن سبأ فيها الكثير.
وذهب ابن سبأ أيضا إلى عبادة بن الصامت، وحاول معه مثل هذا الأمر، فقبض عليه، وأتى به إلى معاوية بن أبي سفيان، وقال له:
هذا الذي أثار عليك أبا ذر الغفاري.
فكلمه معاوية رضي الله عنه، وكان معاوية حليما شديد الحلم، فرجع ابن سبأ عن قوله ظاهرا، ولم يطمئن إليه معاوية، فأخرجه من بلاده فذهب إلى مصر بعد ذلك.
أما مجموعة الصحابة الذين أرسلهم عثمان رضي الله عنه إلى الأمصار ليعلمونهم ويدرءون عنهم هذه الشبهات، فقد رجعوا جميعا إلى عثمان رضي الله عنه إلا عمار بن ياسر الذي كان قد ذهب إلى مصر، وكان بها عبد الله بن سبأ، وسودان بن حمران، وكنانة بن بشر، وهم من رءوس الفتنة، فقد جلسوا مع عمار بن ياسر، وأقنعوه ببعض الأفكار، والمآخذ على الأمراء، وعلى عثمان رضي الله عنه، فتأخر عمار بن ياسر عن العودة إلى عثمان رضي الله عنه بالمدينة، فخاف المسلمون أن يكون قد قتل، ولكن جاءهم في هذا الوقت كتاب من عبد الله بن أبي سرح، والي عثمان رضي الله عنه على مصر يخبرهم أن عمار بن ياسر قد استماله القوم، وأرسل عثمان رضي الله عنه إلى عمار بن ياسر رضي الله عنه خطابا يعاتبه فيه، ولما قرأ الخطاب ظهر له الحق، ورجع إلى عثمان رضي الله عنه في المدينة، وتاب بين يديه عن هذا الظن.
ثم ظهرت الفتنة، ولأول مرة بصورة علنية، وكان ذلك في الكوفة سنة 33 هـ، فقد جمع الأشتر النخعي حوله مجموعة من الرجال تسعة أو عشرة، وبدأ يتحدث جهارا نهارا عن مطاعن يأخذها على عثمان رضي الله عنه.
وسمع سعيد بن العاص والي الكوفة من قبل عثمان رضي الله عنه هذا الكلام فنهى الأشتر، ومن معه، ثم أرسل بعد ذلك إلى عثمان رضي الله عنه يخبره بما عليه الأشتر النخعي ومن معه، فأرسل عثمان رضي الله عنه رسالة إلى سعيد بن العاص أن يرسل الأشتر النخعي، ومن معه إلى معاوية بن أبي سفيان بالشام، وكان معاوية كما ذكرنا حليما شديد الحلم، فقد كانوا يسبونه علنا مرة، والثانية، والثالثة، ويأخذهم باللين والرفق، ولم يحاول معاوية بن أبي سفيان أن يشتد معهم، فأرسلهم إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد والي حمص، وكان كأبيه خالد رضي الله عنه له مخالب كمخالب الأسد شديدا حازما، فعنفهم بشدة ولما ردوا عليه أذلهم ذلا عظيما، وحبسهم فأظهروا توبتهم، فأرسل إلى عثمان رضي الله عنه أن هؤلاء قد تابوا، فأرسل إليه أن يجعل أحدهم يأتيه فأرسل إليه الأشتر النخعي وأعلن توبته على يدي عثمان رضي الله عنه، فرده عثمان إلى الشام، وظل فيها هو ومن معه، وبينما هم في الشام جاءتهم رسالة من رجل يسمى يزيد بن قيس من البصرة أنه سوف يعلن الثورة في البصرة جهرا، وأرسل لهم رسالة يستعين بهم، ولما وقعت الرسالة في أيديهم ترددوا في أمر الثورة، وأصر عليهم الأشتر النخعي، فقيل أنهم رجعوا معه، وقيل لم يرجعوا معه، ولكنه عاد إلى الكوفة، وكما ذكرنا من قبل أنه كان مسموع الكلمة وذا رأي في قومه.
وفي هذا الوقت أرسل عثمان رضي الله عنه إلى ولاته كي يستشيرهم في أمر هذه الفتنة، فأرسل إلى معاوية بن أبي سفيان واليه على الشام، وإلى عبد الله بن عامر واليه على البصرة، وسعيد بن العاص واليه على الكوفة، وعبد الله بن أبي سرح واليه على مصر، وجاءوا جميعا إلى عثمان رضي الله عنه بالمدينة، وبعد أن عرض عليهم الموقف بدأوا يقولون رأيهم؛ فأشار عبد الله بن عامر أن يشغل الناس بالجهاد حتى لا يتفرغوا لهذه الأمور، وأشار سعيد بن العاص باستئصال شأفة المفسدين وقطع دابرهم، وأشار معاوية رضي الله عنه بأن يرد كل وال إلى مصره فيكفيك أمره، أما عبد الله بن أبي سرح فكان رأيه أن يتألفهم بالمال.
وقد جمع عثمان رضي الله عنه في معالجة هذا الأمر بين كل هذه الآراء، فخرج بعض الجيوش للغزو، وأعطى المال لبعض الناس، وكلف كل وال بمسئوليته عن مصره، ولكنه لم يستأصل شأفتهم.
إلى هذا الوقت لا زال الأمر لم يعلن عدا أمر العشرة الذين كانوا مع الأشتر النخعي في الكوفة، وظهور أمر يزيد بن قيس في البصرة، ورجع الأمراء من عند عثمان رضي الله عنه إلى أقطارهم، وعندما رجع سعيد بن العاص إلى الكوفة وجد أن الأشتر النخعي قد سبقه إليها، وقام بثورة كبيرة بعد أن جمع الجموع، ونشر فيهم الفتنة نشرا عظيما، ومنع دخول سعيد بن العاص الكوفة، وأصروا على أمرهم، وآثر سعيد بن العاص أن يقمع الفتنة فرفض الدخول في قتال معهم ورجع إلى عثمان رضي الله عنه، وأخبره بما حدث، وآثر عثمان رضي الله عنه السلامة في هذه البلاد التي تدير وسط وشمال فارس وارتضى أهل الكوفة أن يولى عليهم أبو موسى الأشعري، ووافقهم عثمان رضي الله عنه على ذلك، وكان ذلك سنة 34 هـ، وبدأ الطعن يكثر في عثمان رضي الله عنه، وتنتشر أفكار ابن سبأ في البلاد، وأصبح للفتنة جذور في بلاد كثيرة، فكان يزيد بن قيس في البصرة، والأشتر النخعي في الكوفة، وكذا حكيم بن جبلة، وعبد الله بن سبأ رأس الفتنة في مصر، ومعه كنانة بن بشر وسودان بن حمران.
وأراد رءوس الفتنة أن يشعلوا الأمر أكثر وأكثر، حتى يجتثوا الدولة الإسلامية من جذورها، فبدءوا يكثرون الطعن على عثمان، ويكتبون هذه المطاعن المكذوبة، والمفتراة ويرسلونها إلى الأقطار موقعة بأسماء الصحابة افتراء على الصحابة، فيوقعون الرسائل باسم طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، والسيدة عائشة.
وكان من الصعب نظرا لصعوبة الاتصال وتنائي الأقطار أن يتم تنبيه الناس إلى كذب هذه الرسائل، وأن الصحابة رضوان الله عليهم لم يكتبوا هذه المطاعن ولم يوقعوا عليها.
ومن ثم انقاد بعض الناس لهذه الفتنة، بينما انتظر آخرون حتى يتثبتوا من الأمر نظرا لخطورته.
وتلك المطاعن التي افتراها من أشعل هذه الفتنة هي الموجودة الآن في كتب الشيعة، وعندما يطعنون ويسبون عثمان رضي الله عنه يذكرون هذه المطاعن الذي ذكرها هؤلاء المارقون عن الإسلام، ويضعونها على أنها حقائق، وقد انساق ورائهم بعض الجهال من المسلمين كـزاهية قدورة التي ذكرت هذه المطاعن على أنها حقائق، واتهمت بها عثمان رضي الله عنه والسيدة عائشة رضي الله عنها، وذكرت أن السيدة عائشة ألبت الناس على عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكأن الرسائل التي أرسلت من أصحاب الفتنة رسائل حقيقية أرسلتها السيدة عائشة، يقول ابن كثير:
قال أبو معاوية عن الأعمش عن خيثمة عن مسروق قال:
قالت عائشة حين قتل عثمان:
تركتموه كالثوب النقي من الدنس ثم قتلتموه.
وفي رواية: ثم قربتموه، ثم ذبحتموه كما يذبح الكبش؟
فقال لها مسروق: هذا عملك، أنت كتبت إلى الناس تأمريهم أن يخرجوا إليه.
فقالت: لا والذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون، ما كتبت لهم سوداء في بيضاء حتى جلست مجلسي هذا.
قال الأعمش: فكانوا يرون أنه كتب على لسانها، وهذا إسناد صحيح إليها.
وفي هذا وأمثاله دلالة ظاهرة على أن هؤلاء الخوارج قبحهم الله، زوروا كتبا على لسان الصحابة إلى الآفاق يحرضونهم على قتال عثمان، كما قدمنا بيانه.
التهم والمطاعن المفتراة على عثمان ما هي المطاعن التي أخذها هؤلاء المارقون على الإسلام على عثمان رضي الله عنه، والتي لا زالت تتردد على ألسنة بعض المسلمين، وبعض المذاهب إلى هذا الوقت:
التهمة الأولى: ضربه لابن مسعود حتى كسر أضلاعه كما يقولون، ومنعه عطاءه.
التهمة الثانية: ضربه عمار بن ياسر حتى فتق أمعاءه.
التهمة الثالثة: ابتدع في جمعه للقرآن وحرقه للمصاحف.
التهمة الرابعة: حمى الحمى، وهي مناطق ترعى فيها الإبل، وقالوا إنه جعل إبله فقط هي التي ترعى فيها، وفي الحقيقة لم تكن هذه إلا إبل الصدقة.
التهمة الخامسة: أنه أجلى أو نفى أبا ذر الغفاري إلى الربذة، وهي منطقة في شمال المدينة.
التهمة السادسة: أنه أخرج أبا الدرداء من الشام.
التهمة السابعة: أنه رد الحكم بن أبي العاص بعد أن نفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
التهمة الثامنة: أنه أبطل سنة القصر في السفر، وذلك لأنه أتم الصلاة في (منى) لما ذهب للحج.
التهمة التاسعة: أنه ولى معاوية بن أبي سفيان وكان قريبا له.
التهمة العاشرة: ولى عبد الله بن عامر على البصره وهو قريب له.
التهمة الحادية عشر: أنه ولى مروان بن الحكم وكان قريبا له.
التهمة الثانية عشر: أنه ولى الوليد بن عقبة على الكوفة وهو فاسق.
التهمة الثالثة عشر: أنه أعطى مروان بن الحكم خمس غنائم إفريقية.
التهمة الرابعة عشر: كان عمر يضرب بالدرة- عصا صغيرة- أما هو فيضرب بعصا كبيرة.
التهمة الخامسة عشر: علا على درجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نزل عنها أبو بكر وعمر.
التهمة السادسة عشر: لم يحضر بدرا.
التهمة السابعة عشر: انهزم وفر يوم أحد.
التهمة الثامنة عشر: غاب عن بيعة الرضوان.
التهمة التاسعة عشر: لم يقتل عبيد الله بن عمر بالهرمزان، وكان عبيد الله بن عمر قد تيقن من أن الهرمزان قد شارك في الإعداد لقتل أبيه عمر بن الخطاب فقتله.
التهمة العشرون: أنه كان يعطي أقرباءه، ولا يعطي عامة المسلمين.
وهذه التهم كلها جاءت في رواية واحدة، بينما تضيف روايات أخرى تهما أخرى، وهي موجودة إلى الآن ليس في كتب الشيعة فحسب، بل في كتابات الجهال من المسلمين الذين ينقلون عن روايات الشيعة الموضوعة دون أن يعلموا أنها موضوعة، أو ممن لا يريد لدولة الإسلام أن تقوم، مدعيا أن دولة الإسلام إذا قامت سوف يحدث مثل هذا الأمر، فقد حدث ذلك بين الصحابة أنفسهم، فكيف تقوم دولة الإسلام في عهدنا نحن.
وانتشرت هذه التهم المفتراة في الأمصار والبلاد، ولم يكن محفوظا من هذا الأمر غير بلاد الشام، وبدأ الناس يجهزون أنفسهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإزالة عثمان بن عفان عن الحكم لأنه فعل هذه الأمور.
نسأل الله تعالى أن يعيننا على الدفاع عن عثمان بن عفان رضي الله عنه ونفي هذه التهم المنسوبة إليه كذبا وافتراء، وأن ننشر هذا الدفاع بين المسلمين، وننشره بين الشيعة إذا استطعنا، ونعرف الناس بالحقائق من خلال التاريخ الصادق الصحيح النقل، والعقل والمنطق، والفقه السليم، ونسأل الله أن يتقبل منا جميعا. | |
|
| |
التقييم : 3 نقاط : 360558 تاريخ التسجيل : 01/01/1970
| موضوع: رد: مقتل الخليفة عثمان بن عفان وبداية الفتنة ونتائجها الخميس مارس 07, 2013 10:25 pm | |
|
[size=16]تهمة الضرب لابن مسعود وعمار - أما بالنسبة للتهمة الأولى، وهو الزعم بأن عثمان ضرب عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما حتى كسر أضلاعه، ومنعه عطاءه، فهذه الرواية مختلقة، ليس لها أصل، وعندما بُويع عثمانُ رضي الله عنه بالخلافة قال عبد الله بن مسعود: بايعنا خيرنا ولم نأل.
فعبد الله بن مسعود رضي الله عنه يرى أن خير الأمة في هذا الوقت هو عثمان رضي الله عنه، وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه واليًا لعثمان رضي الله عنه على بيت مال الكوفة، وكان والي الكوفة في ذلك الوقت سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وقد حدث خلاف بينهما بسبب أن سعدًا رضي الله عنه استقرض مالًا من بيت المال، ولم يردّه في الموعد المحدد، فحدثت المشادة بينهما بسبب هذا الأمر، وبعدها ثار أهل الكوفة كعادتهم مع كل الولاة على سعد بن أبي وقاص، مع ما له من المكانة في الإسلام، فهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وخال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعزل عثمان رضي الله عنه سعدًا من ولاية الكوفة، وأقرّ على بيت المال عبد الله بن مسعود، فلما أراد عثمان رضي الله عنه جمع الناس على مصحف واحد اختار رضي الله عنه لهذا الأمر زيد بن ثابت رضي الله عنه، وكان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما قد اختاراه من قبل لجمع القرآن في المرة الأولى، وذلك لأن زيدًا رضي الله عنه هو الذي استمع العرضة الأخيرة للقرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الصحف الأخرى تكتب تباعًا كلما نزل من القرآن شيءٌ كُتب فيها.
والقضية أنه كان لعبد الله بن مسعود مصحف يختلف في ترتيبه عن مصحف زيد بن ثابت رضي الله عنهما، ومن يرجع للروايات التي تروى عن مصحف عن عبد الله بن مسعود يجد أن ترتيب السور يختلف كثيرًا، وترتيب الآيات أيضًا داخل السور يختلف أحيانًا، وبعض الكلمات مختلفة أيضًا، بل إن بعض السور ليست موجودة أصلًا في مصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، كسورة الفاتحة والمعوذتين، ولهجة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه من هزيل، وليست من قريش، وقد كان الأمر أن تكون كتابة المصحف على الاتفاق، وعند الاختلاف يُرجع إلى لهجة قريش؛ لأن القرآن نزل بلسانها، فلما علم عبد الله بن مسعود أن القرآن سيجمع على قراءة ثابت، وأن مصحفه سوف يحرق غضب غضبًا شديدًا ووقف على المنبر في الكوفة وقال: ]وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ ] {آل عمران:161}.
وإني غال مصحفي فهو رضي الله عنه يتأول الآية، وإنما الغلول هو: الكتمان من الغنيمة، وهو محرم إجماعا، بل هو من الكبائر، كما تدل عليه هذه الآية الكريمة وغيرها من النصوص، ولكن عبد الله بن مسعود يريد أن يقول أنه سيحتفظ بمصحفه هذا ولن يوافق على حرقه ليأتي به يوم القيامة، وقد كان يريد رضي الله عنه أن يكون من الفريق المكلف بكتابة المصحف، لأنه كان ممن أثنى على قراءتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا باتفاق ولكن كانت لهجته- كما ذكرنا- تختلف عن لهجة قريش، ورخص له النبي صلى الله عليه وسلم في القراءة بلهجته، ولكن الأمر الآن يتجه إلى جمع الناس على مصحف واحد، ويجب أن يكون باللسان الذي نزل به القرآن، وهو لسان قريش، فلما فعل ذلك عبد الله بن مسعود أجبره عثمان رضي الله عنه على حرق مصحفه، فعاد إلى المدينة يناقش عثمان رضي الله عنه والصحابة جميعا في هذا الأمر، واجتمع كبار الصحابة على عبد الله بن مسعود، وأقنعوه بالأمر، وأن هذا الأمر فيه الخير للمسلمين، فلما علم ذلك رجع عن رأيه، وتاب عنه بين يدي عثمان رضي الله عنه، وعادت العلاقة بينه وبين عثمان رضي الله عنه كما كانت قبل هذه الحادثة. وهذه الروايات باتفاق.
ونحن كما نرى هذا الموقف، فقد كان من الصعب بداية على عبد الله بن مسعود أن يقوم بحرق مصحفه الذي ظل ما يربو على عشرين سنة يكتب فيه آي الذكر الحكيم التي يسمعها من الرسول صلى الله عليه وسلم، ويمثل هذه المصحف شيئا عظيما في حياته، ويربطه بكل ذكرياته مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع الصحب الكرام رضوان الله عليهم جميعا فقد كان جزءا لا يتجزأ من حياته، فكان هذا رد فعله ابتداء، ولكنه لما علم الحق واقتنع به رجع عن رأيه وتاب عنه، ولم يخطأ عثمان رضي الله عنه إطلاقا في حقه ولم يضربه ولم يمنعه عطاءه.
- أما التهمة الثانية المفتراة على عثمان رضي الله عنه فهي أنه ضرب عمار بن ياسر رضي الله عنه حتى فتق أمعاءه، ولو حدث هذا ما عاش عمار بعد تلك الوقعة المكذوبة، ولكن عمارا رضي الله عنه عاش حتى موقعة صفين بعد ذلك، فضرب عمار رضي الله عنه حتى فتق أمعائه لم يحدث، أما ضربه فقط فقد حدث، والسبب في هذا الأمر أنه قد حدث خلاف بين عمار بن ياسر رضي الله عنه، وبين عباس بن عتبة بن أبي لهب رضي الله عنه، فقذف بعضهما بعضا فعزرهما عثمان رضي الله عنه بالضرب، بعد أن رأى أن كلا منهما قد أخطأ في حق أخيه، ومر هذا الأمر دون أن يترك أثرا في نفوس الصحابة رضي الله عنهم جميعا، ومما يؤكد ذلك أن عثمان رضي الله عنه عندما اختار مجموعة من كبار الصحابة؛ ليدفعوا الشبهات عن المسلمين في الأمصار كان ممن اختارهم لأداء هذه المهمة عمار بن ياسر رضي الله عنه، وأمره أن يذهب إلى مصر، وقد ذكرنا أن رءوس الفتنة في مصر قد استمالوا عمارا رضي الله عنه بشبهاتهم على الأمراء، فتأخر عمار رضي الله عنه في مصر، وظن عثمان رضي الله عنه والمسلمون في المدينة أن عمارا قد قتل، وجاءت رسالة من مصر من عبد الله بن أبي سرح والي عثمان رضي الله عنه فيها أن القوم قد استمالوا عمارا، فأرسل إليه عثمان رضي الله عنه برسالة، ولما رجع عمار رضي الله عنه، وقص له ما حدث، قال له عثمان رضي الله عنه:
قذفت ابن أبي لهب أن قذفك، وغضبت علي أن أخذت لك بحقك وله بحقه، اللهم قد وهبت ما بيني وبين أمتي من مظلمة، اللهم إني متقرب إليك بإقامة حدودك في كل أحد، ولا أبالي، اخرج عني يا عمار.
فكان هذا عتابا من عثمان لعمار رضي الله عنهما، وقد اعتذر عمار رضي الله عنه عن ميله لرءوس الفتنة في مصر الذين حاولوا أن يقنعوه بما هم عليه، وأظهر توبته ورجوعه عن هذا الأمر بين يدي عثمان رضي الله عنه وبوجود كبار الصحابة.
فقصة ضرب عمار رضي الله عنه حنى فتق أمعائه أمر مكذوب تماما، ولكن الأحداث كانت كما رأينا، وكون عثمان رضي الله عنه ضرب الاثنين، لو كان ضربهما، لا يقدح هذا الأمر في الثلاثة، وذلك لأنهم من أهل الجنة جميعا، وقد يصدر من أولياء الله ما يستحقوا عليه العقوبة الشرعية (الحد) فضلا عن التعزير، وفعل مثل هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما ضرب أبي بن كعب وهو من كبار الصحابة ويقرأ القرآن على قراءته، وذلك لأنه كان يسير في المدينة، ويتبعه الناس فضربه عمر رضي الله عنه بالدرة وقال له: إن هذه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع.
وأمره ألا يجعل أحدا يسير خلفه، بل فعل هذا الأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أحد الصحابة الذي كان قد شرب الخمر في غزوة خيبر فضربه أربعين ضربة، وقيل إنها كانت بالنعال، ولما لعنه أحد الصحابة بعد هذا الضرب غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أولو كان يحب الله ورسوله.
إذن فالضرب لا يقلل من قيمة هؤلاء وهم في الجنة باتفاق، ثم إن التعزير يراد به التأديب على أمر ليس فيه حد ولا كفارة، والذنوب من حيث العقوبة المترتبة عليها ثلاثة أنواع:
الأول: يترتب عليه حد مثل السرقة أو الزنا.
والثاني: ما يترتب عليه الكفارة دون الحد، مثل الجماع في نهار رمضان، أو الجماع في الإحرام.
والثالث: ما لا يترتب عليه حد ولا كفارة، وهو ما يكون فيه التعزير، كالسب فيما عدا القذف بالزنا فإن فيه الحد، وكذا سرقة ما حد فيه، وكذلك الكذب قد يكون فيه التعزير، ويرى أبو حنيفة ومالك والإمام أحمد أن التعزير واجب، وقال الشافعي: مندوب. والحد والتعزير كلاهما عقاب والمستهدف منهما تطهير النفس، وردع الناس عن ارتكاب المعاصي، وأن يأتي الناس يوم القيامة، وقد كفرت ذنوبهم بالحدود والتعزير، والكفارات، والفرق بين الحد والتعزير أن الناس جميعا يتساوون في إقامة الحد عليهم، ولكن التعزيرات تختلف باختلاف الناس، فإذا أخطأ الكريم من أهل التقوى والصلاح يكون التعامل معه غير أهل الفسق الذين يداومون على ارتكاب المعاصي والآثام، والحدود لا تجوز فيها الشفاعة بينما تجوز في التعزيرات، ومن مات أثناء تعزيره فله ضمان وهو مثل الدية، أما من مات أثناء إقامة الحد عليه فليس له ضمان، وقال بعض الفقهاء ليس لمن مات في التعزير ضمان.
والتعزير قد يكون بالكلام كالتوبيخ، أو الوعظ، أو الحبس، أو الضرب، أو النفي، أو العزل من العمل، والحاكم له حق التعزير مطلقا، وقال الفقهاء: إنه لا ينبغي التعزير بأكثر من عشرة أسواط، وقيل أقل من ثمانين، وقيل يرجع لتقدير الحاكم.
فهذا ما فعله عثمان رضي الله عنه مع عمار بن ياسر وعباس بن عتبة عندما قذف كل منهما صاحبه.
وممن له حق التعزير أيضا الوالد فله أن يعزر ولده، وليس للوالد أن يضرب ولده بعد البلوغ.
وممن له حق التعزير السيد لرقيقه سواء بالضرب أوالحبس أو غير ذلك، ولكن هذا كله دون تعسف أو ظلم، فالله تعالى مطلع على كل الأمور.
فعثمان رضي الله عنه له حق التعزير، حتى ولو عارضه الصحابة، والواقع أن أحدا من الصحابة لم ينكر عليه هذا الأمر.
قضية جمع القرآن التهمة الثالثة على عثمان رضي الله عنه أنهم يقولون أنه ابتدع في جمع القرآن، وفي حرق المصاحف، وهكذا نرى أن الحسنات يجعلها أهل الفتنة سيئات، وقد قال كثير من العلماء أن هذه هي أعظم حسنات عثمان بن عفان رضي الله عنه وقالوا إن هذا الأمر أفضل من حفره بئر رومة، وأفضل من تجهيزه جيش العسرة؛ لأن أثره مستمر إلى يوم القيامة.
والصحابة جميعا وافقوا على هذا الأمر، وحتى ما كان من أمر عبد الله بن مسعود في البداية رجع عنه، واقتنع برأي عثمان، وسائر الصحابة رضي الله عنهم جميعا، واجتماع الصحابة لا يأتي على ضلالة، بل إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال في خلافته:
لو لم يفعله عثمان لفعلته أنا، وجاء في كتب الشيعة أنفسهم ما يؤكد إجماع الصحابة على هذا الأمر، والحق ما جرت به ألسنة الأعداء، ففي كتاب سعد السعود، وهو من المراجع الشهيرة للشيعة، قال ابن طاوس نقلا عن الشهرستاني عن سويد بن علقمة قال: سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام يقول:
أيها الناس، الله الله، إياكم والغلو في أمر عثمان، وقولكم حرق المصاحف، فوالله ما حرقها إلا عن ملإ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ جمعنا وقال: ما تقولون في هذه القراءة التي اختلف الناس فيها يلق الرجل الرجل فيقول: قراءتي خير من قراءته، وهذا يجر إلى الكفر.
فقلنا: ما الرأي؟
قال: أريد أن أجمع الناس على مصحف واحد فإنكم إن اختلفتم الآن كان مَن بعدكم أشد اختلافا.
فقلنا جميعا: نِعْمَ ما رأيت.
فهذا كلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه في مراجع الشيعة أنفسهم؛ في هذا الكتاب، وفي بعض الكتب الأخرى للشهرستاني، وفي كتب أخرى يزعمون أن عثمان رضي الله عنه ابتدع في جمعه للقرآن، وحرقه للمصاحف، وهذا التناقض عندهم يظهر الحق.
ومع هذا الإجماع الكبير من الصحابة على هذا الأمر إلا أن الشيعة يزعمون أن عثمان رضي الله عنه إنما جمع المصحف برغبته الشخصية، وجمع بعض الصحابة وذكروهم بالاسم، وألفوا قرآنا غير الذي أنزل، كما يزعم الشيعة أن لديهم القرآن الحقيقي، وهو ثلاثة أضعاف، وهو مخبأ عندهم في سرداب، وسيأتي مع الإمام الثاني عشر، وليس فيه حرف واحد من القرآن الذي معنا، وأقر بعض الشيعة ببعض الآيات في القرآن الكريم، وحذف آيات أخرى.
وكان إنكار الشيعة لجمع القرآن في عهد الصديق أبي بكر رضي الله عنه، وادعائهم أن القرآن الذي بين أيدينا اليوم قد ألف في عهد عثمان كان هذا يمثل مادة دسمة للنصارى كي يطعنوا في القرآن، وهذا الطعن من قديم، ففي عهد ابن حزم الأندلسي كثر الطعن من قبل النصارى في حق المسلمين في هذه النقطة، وأن المصحف ألف في عهد عثمان رضي الله عنه، ومن معه من الصحابة، ومراجع النصارى في ذلك هي كتب الشيعة التي تقول:
إن المصحف الحقيقي هو الذي أنزل على السيدة فاطمة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بستة أشهر، واحتفظ به بعد ذلك علي بن أبي طالب والأئمة من بعده.
يقول ابن حزم في كتابه (الفصل): إن الروافض- الشيعة- ليسوا من المسلمين، وهي طائفة تجري مجرى اليهود والنصارى في الكفر.
حديث: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ منه
هذا حديث صحيح رواه أكثر من عشرين من الصحابة رضي الله عنهم، وتأويل هذا الحديث من الكثرة بمكان، فذكر السيوطي في (الإتقان في علوم القرآن) أربعين تأويلا لهذا الحديث، وذكر ابن حجر، وابن حبان خمسة وثلاثين قولا في تأويل هذا الحديث، والسبعة أحرف قيل: إنها سبع قراءات، وقيل سبع لهجات.
وقيل: هذه السبع لهجات في مضر.
وقيل: في قريش.
وقيل: معناها أن المشكل في القرآن الكريم يحتمل سبعة تفسيرات على الأكثر.
وقيل: التغاير في اللفظ أو الشكل.
وقيل: الزيادة والنقصان، أو الإبدال، أو الإعراب، أو التقديم، أو التأخير.
وذهب الطحاوي أن هذا الأمر كان رخصة للمسلمين في قراءة القرآن؛ لتعذر قراءته على مختلف القبائل بلهجة واحدة، فلما رأى الصحابة انتشار القراءة بين هذه القبائل، وشدة الحفظ وإتقانه، أقروا قراءة واحدة، وهي التي كتبها عثمان رضي الله عنه في مصحفه، وقال بهذا ابن جرير الطبري وقال: لم يكن ذلك ترك واجب، ولا فعل محرم، فاتفق الصحابة على كتابته كما جاء في العرضة الأخيرة.
فما بين أيدينا اليوم هو المصحف الذي كتب في عهد عثمان رضي الله عنه، كما نزل في العرضة الأخيرة، باللسان الذي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- التهمة الرابعة الموجهة إلى عثمان رضي الله عنه أنه حمى الحمى:
ومعنى ذلك أنه خصص جزءا معينا من الأرض لبعض الإبل لترعى فيها دون غيرها من الإبل، قالوا: إنه ابتدع في هذا الأمر.
وقالوا: إنه كان يجعلها لإبله وخيله.
والقولين مردود عليهما.
أما قولهم أنه رضي الله عنه ابتدع الحمى، فهذا غير صحيح، حيث إن الحمى كان موجودا في الجاهلية قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان السيد يدخل الأرض التي يريد أن يجعلها حمى لإبله، ومعه كلب يعوي، ويكون حدود حماه على امتداد عواء كلبه، وتكون تلك المنطقة من الأرض خاصة به لا تستطيع أي إبل غير إبله أن ترعى فيها، وهذا هو الحمى، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ألغى هذا الأمر كله، إلا لإبل الصدقة فقط، وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمى في منطقة الربذة- كانت الربذة فلاة بأطرف الحجاز مما يلي نجد- وكان مساحتها ميل في سبعة أميال، وكانت ترعى فيها إبل الصدقة، والإبل التي تعد للجهاد، وللمصالح العامة.
عن الصعب بن جثامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لَا حِمَى إِلَّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ. رواه البخاري.
وقد فعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه مثل فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحمى، ولما جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه زاد في هذه المساحة، وضم إليها أماكن كثيرة، وذلك لكثرة الفتوحات في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكثرة إبل الجهاد، فكان لا بد من منطقة كبيرة ترعى فيها إبل، وخيول الجهاد، ولما كان عهد عثمان رضي الله عنه اتسعت رقعة الدولة الإسلامية، وكثرت الخيرات عند المسلمين، وكثرت الإبل، فاتسعت منطقة الحمى إلى أكبر مما كانت عليه.
إذن فأصل الحمى سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والزيادة فيه سنة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو أمر اقتضته الحاجة، وليس فيه أي تعارض مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَا حِمَى إِلَّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ.
أما إبل عثمان رضي الله عنه فكانت لا ترعى في هذا الحمى، وإنما كان هذا الحمى لإبل الصدقة فقط، وأما إبل عثمان رضي الله عنه فكانت ترعى في أماكن أخرى بعيدة، وكان عثمان رضي الله عنه شديد الدقة في هذا الأمر، حتى أنه كان يمنع أي إبل للأغنياء أن تدخل في حمى إبل الصدقة، وكان يترخص لإبل الفقراء لأنها ربما تهلك نظرا لفقر أصحابها، وعدم قدرتهم على إطعامها.
وكان عثمان رضي الله عنه أكثر العرب إبلا قبل أن يتولى الخلافة، وعندما استشهد رضي الله عنه لم يكن يملك سوي بعيرين كان قد استبقاهما للحج، وباقي إبله كان قد تبرع بها للمسلمين خلال مدة خلافته، وخيره رضي الله عنه سابق على المسلمين منذ أسلم حتى استشهد رضي الله عنه وأرضاه.
قضية أبي ذر - أما التهمة الخامسة فقد قالوا: إن عثمان رضي الله عنه قد أجلى أبا ذر رضي الله عنه من الشام إلى الربذة.
ذكرنا قبل ذلك أن عبد الله بن سبأ لما لما يجد صدى لكلامه في أرض الشام ذهب إلى أبي ذر الغفاري رضي الله عنه وأرضاه، وكان زاهدا شديد الزهد عاكفا عن الدنيا بالكلية، وأراد ابن سبأ إشعال الفتنة في الشام، فقال لأبي ذر رضي الله عنه: إن معاوية يقول: إن المال مال الله يريد بذلك أن يحجزه عن المسلمين.
ومعاوية رضي الله عنه قال هذه الكلمة، ولكن ابن سبأ اليهودي أوله لأبي ذر على غير ما يراد بها، فذهب أبو ذر رضي الله عنه إلى معاوية رضي الله عنه وقال له:
تقول: المال مال الله؟
قال: نعم.
فقال له أبو ذر: المال مال المسلمين.
فقال له معاوية رضي الله عنه وكان معروفًا بحلمه الواسع:
يرحمك الله يا أبا ذر، ألسنا عباد الله، والمال ماله، والخلق خلقه والأمر أمره؟ فقال أبو ذر: فلا تقله.
فقال له معاوية رضي الله عنه في منتهى الرفق: لن أقول: إن المال ليس مال الله. ولكني أقول: المال مال المسلمين.
وكان أبو ذر رضي الله عنه يمر على أغنياء الشام، وعلى ولاة معاوية في أنحاء الشام، ويقرعهم بقول الله عز وجل: ]وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ] {التوبة:34}.
ويقول لهم: من امتلك أكثر من قوت يوم واحد، فقد كنز المال، ودخل تحت حكم هذه الآية.
فهو رضي الله عنه يرى أن على كل من يمتلك أكثر من قوت يوم واحد أن ينفقه في سبيل الله على سبيل الفرض، ولا بد من ذلك، ومن لم يفعل دخل في حكم الآية، وقال أبو ذر رضي الله عنه هذا الكلام لمعاوية بن أبي سفيان أيضا، فقال له معاوية رضي الله عنه:
سبحان الله إن الناس لا تطيق ذلك، وهذا الأمر ليس بواجب.
وبلغ معاوية رضي الله عنه هذا الأمر إلى عثمان رضي الله عنه.
ولنا وقفة مع هذا الموقف من أبي ذر رضي الله عنه
أولا: أبو ذر رضي الله عنه من الزهاد شديدي الورع، والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، ولكننا نرى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: ما أديت زكاته فليس بكنز.
والقاعدة الشرعية تقول: إنه لا حد للمسلم في الثروة، وللمسلم أن يمتلك ما استطاع أن يمتلكه، لكن بشروط أن يكون هذا المال من حلال، وأن ينفقه في الحلال، ولا ينفق بسفه، وأن يؤدي زكاة ماله.
وحال أبي ذر رضي الله عنه أشد ورعا، وأقرب إلى الجنة، ومن الخير أن يزهد الإنسان في الدنيا قدر ما يستطيع، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحض على هذه الدرجة من الزهد، فكان صلى الله عليه وسلم ينام على حصير حتى يظهر أثر ذلك على جسده الشريف صلى الله عليه وسلم، وكان يربط على بطنه الحجر والحجرين من الجوع، وكان لا يوقد في بيته نار ثلاثة أهلة؛ أي شهرين كاملين، وكان أبو بكر رضي الله عنه كذلك، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه كذلك، وكثير من الصحابة رضي الله عنهم كانوا على هذا القدر من الزهد، والورع، ولو أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل الله له جبل أحد ذهبا لجعله كذلك، كما ورد في الصحيح، وكما كان يقول النبي صلى الله عليه وسلم: مَا لِي وَالدُّنْيَا.
ويحاول أبو ذر رضي الله عنه أن يقتدي به في هذا الأمر، وأن يحمل الناس على ذلك، لكن الناس لا يطيقون ذلك ولايستطيعون الوصول إلى هذه الدرجة، كما أن هذا الأمر ليس بفرض، والفرض كما أسلفنا أنه إذا أراد الإنسان أن يمتلك فليكن من حلال، ولينفق في الحلال، وليؤدي زكاة ماله، ولا يمكن أن ننكر أن المسلم إذا اجتهد في جمع المال من الحلال، وأنفقه في سبيل الله، فإن ذلك يعود على المسلمين بالنفع والخير العميم ما لا يستطيعه الفقير، ولا أحد ينكر فضل الثراء الذي كان عليه عثمان بن عفان رضي الله عنه على الإسلام، وفضل أبي بكر رضي الله عنه، وفضل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، فقد كانت أموالهم نصرة للدعوة الإسلامية، فكون المسلم إذن يكتسب المال من الحلال، وينفقه في سبيل الله، فهذه فضيلة كبيرة يحث عليها الإسلام، شرط ألا يكون جمع المال رغبة في الدنيا، أو رغبة في الجمع، والكنـز، وزيادة الأموال من دون فائدة، وعلى المسلم إذا أراد أن يكون مثاليا أن يقسم وقته بين العبادة لله تعالى من صلاة، وتعليم للغير، وجهاد في سبيل الله، وبين التكسب للعيش، فوقت المسلم ينبغي أن يقسم هكذا بين حاجاته، وحاجات المسلمين، وعبادته لله رب العالمين، وليجعل نيته في العمل أن يعف نفسه، وأهله، ويكفيهم من الحلال، وأن ينفق على الإسلام والمسلمين، وليس الإنفاق هذا على المسلمين وعلى الدعوة الإسلامية، فضلا منه وتفضلا، بل إنه مما ينبغي عليه أن يفعله دون مَنّ ولا أذى، وأن هذا المال إنما هو مال الله استخلفك عليه ليرى ماذا تفعل فيه.
ويزعم الاشتراكيون أن أبا ذر هو زعيمهم في الإسلام لأنه قال بتوزيع الثروة، وحاشا لله أن يكون أبا ذر فردا من الاشتراكيين، فضلا عن أن يكون زعيما لهم، فنية أبي ذر رضي الله عنه، إنما كانت الزهد في الدنيا، وعدم الرغبة فيها، وأن يكون الناس جميعا مما ينفقون أموالهم في سبيل الله، ولم يكن يقصد رضي الله عنه أن يتم توزيع الثروات بين الناس مساواة، ومن يعمل كمن لا يعمل.
لما علم عثمان من معاوية بأمر أبي ذر رضي الله عنهم جميعا وأرضاهم، أرسل إليه، فجاءه، وتناقش معه عثمان رضي الله عنه وأرضاه في هذا الأمر، وقال أبو ذر ابتداءً:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أخرج منها إذا بلغ البناء سلعا. وهو مكان في أطراف المدينة لم يكن البناء قد بلغه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا الرسول صلى الله عليه وسلم الخبير بالرجال يعلم جيدا أنه إذا انتشرت الحضارة في المدينة ووصل الناس إلى هذه الدرجة من المعيشة فلن يستطيع أبو ذر أن يعيش بين الناس نظرا لطبيعة الورع، والزهد التي يعيش عليها ويلزم نفسه بها، ولو عاش بين الناس بهذا الأسلوب لأرهق نفسه وأرهقهم، ومن ثَم ينصحه رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه النصيحة.
فقال عثمان لأبي ذر رضي الله عنه: فما الرأي؟
قال أبو ذر رضي الله عنه: أريد الربذة.
إذن فأبو ذر رضي الله عنه هو الذي يريد الخروج إلى الربذة.
قال عثمان رضي الله عنه: فافعل.
أي أنه وافقه على ما يريد.
فخرج رضي الله عنه بإرادته، واختياره، وباقتراحه إلى الربذة، ولم يكن هذا نفيا أو طردا كما ادعى أصحاب الفتنة في عهد عثمان رضي الله عنه، وكما ادعى الشيعة بعد ذلك في كتبهم حتى هذا الوقت، ووقع في ذلك الكثير من جهال المسلمين الذين ينقلون دون علم أو وعي، ويؤكد على ذلك ما رواه عبد الله بن الصامت قال:
قالت أم ذر: والله ما سير عثمان أبا ذر، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إِذَا بَلَغَ الْبُنْيَانَ سَلْعَا فَاخْرُجْ مِنْهَا.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.
ثم إن عثمان رضي الله عنه لما أراد أبو ذر برغبته وإرادته الخروج إلى الربذة أعطاه إبلا، وصرف له مملوكين، وأجرى له رزقا، والأكثر من هذا أن أبا ذر رضي الله عنه كان يتعاهد المدينة، أي يأتي كل مدة لزيارة المدينة، ولو كان منفيا ما كان له أن يدخل المدينة، إضافة إلى هذا فالربذة هذه لم تكن مكانا معزولا في الصحراء، فيقول الحموي عنها أنها كانت أحسن منزل في الطريق بين المدينة، ومكة، وكان تبعد عن المدينة ثلاثة أميال فقط، وكان فيها عمران، وبنى فيها مسجدا، وبناء المسجد يدل على أنه رضي الله عنه لم يكن يعيش بمفرده في هذا المكان.
فالأمر إذن لم يكن عزلا، أو نفيا، أو طردا كما يزعمون، ولكنه كان باختيار أبي ذر رضي الله عنه ورغبته في الخروج.
- التهمة السادسة: يزعمون أن عثمان رضي الله عنه أخرج أبا الدرداء من الشام نفيا، وعزلا، وقهرا، وكان قاضيا بها، قالوا ذلك في زمن الفتنة، ولم ينتشر هذا الأمر في كتب الشيعة بعد ذلك، لأن أبا الدرداء ممن لم يرض عنه الشيعة، والحق أن أبا الدرداء رضي الله عنه كان قاضيا على الشام، وكان شديدا في الحق، إلى درجة أن البعض يشبه شدته في الحق بشدة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان رضي الله عنه لا يتسامح مع أحد أبدا في حق الله تعالى، وكان يخاطب أهل الشام بشيء من الشدة، فكره الناس ذلك، وكان معاوية رضي الله عنه هو الوالي بينما كان أبو الدراء قاضيا، وكان معاوية رضي الله عنه شديد اللين، والحلم فلم ينه أبا الدراء عن هذا الأمر، وكما نعرف أن أبا الدرداء رضي الله عنه من كبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكثرت الشكاوى إلى عثمان رضي الله عنه، واجتهد عثمان رضي الله عنه في عزل أبي الدرداء عن قضاء الشام، بعد أن تحدث معه في هذا الأمر، وترك أبو الدرداء رضي الله عنه الشام بإرادته، واختار المدينة المنورة؛ ليعيش فيها بجوار عثمان رضي الله عنه.
فهذه القضية مردود عليها بسهولة في كتب التاريخ، وكان ما يرمون إليه من إثارة هذا الأمر أنهم يريدون أن يثيروا الناس جميعا على عثمان رضي الله عنه، ومنهج رءوس الفتنة في ذلك أنهم يطعنون في ولاة عثمان رضي الله عنه، وينتقصونهم، ويلصقون بهم العيوب، وإذا كان بعضا من هؤلاء الولاة من رموز الصحابة، اجتهدوا أن يظهروا الخلاف، والشحناء بينه، وبين عثمان رضي الله عنه كعبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر، وأبو الدرداء وأبو ذر الغفاري، وهكذا.
وولاة الأمر الآخرون إما أنهم أقرباؤه، وإما أنهم فساق أو ظلمة على زعمهم الكاذب، فالغرض هو الطعن في عثمان رضي الله عنه من كل الوجوه، حتى إذا أخذوا مجموعة من الناس، وذهبوا يريدون عزله؛ كانت الأمة متقبلة إلى حد ما هذا الأمر العظيم الجلل الذي لم يحدث من قبل.
عثمان والحكم بن العاص:
التهمة السابعة: أنه - أي عثمان رضي الله عنه - رد الحكم بن أبي العاص بعد أن نفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تقول الرواية الموجودة في كتب الشيعة أن الرسول صلى الله عليه وسلم طرد الحكم بن العاص، وابنه مروان من المدينة، فلم يزل طريدا في زمن أبي بكر، وعمر، فلما ولي عثمان آواه، ورده إلى المدينة.
أولا: هذه الرواية لم ترد في أي كتاب من كتب الصحاح، والرواية التي جاءت في كتب السنة، إنما جاءت في حديث مرسل، والحديث المرسل هو الذي رفعه التابعي إلى الرسول مباشرة من غير ذكر للصحابي، وفي بعض الأقوال أن الحديث المرسل ضعيف لا يحتج به، وقد حكى في (التقريب) هذا القول عن جماهير من المحدثين، وكثير من الفقهاء وأصحاب الأصول.
ثانيا: الرواة في هذه الرواية الكثير منهم مشكوك فيه، ومنهم من يطعن فيه بالكذب.
وتعالوا بنا نتدبر أمر هذه القضية المثارة بشيء من الحكمة
أولا: الحكم بن العاص من مسلمي الفتح، فقد أسلم رضي الله عنه سنة 8 هـ، ومسلمي الفتح يسمون في التاريخ الطلقاء وكانوا ألفين، فقد كان رضي الله عنه إذن يعيش في مكة لا في المدينة، فكيف يطرده النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة، بينما هو يعيش في مكة؟ ربما قال البعض: إنه قد يكون هاجر من مكة إلى المدينة بعد الفتح. ونقول لهم: روى البخاري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتَنْفَرْتُمْ فَانْفِرُوا.
فهذا نهي على الإطلاق عن الهجرة إلى المدينة بعد الفتح، ولما هاجر صفوان بن أمية، وهو من مسلمي الفتح إلى المدينة واستقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما أخبره أنه جاء مهاجرا رده إلى مكة وقال له: لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ.
وجاء العباس رضي الله عنه برجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأقسم على النبي صلى الله عليه وسلم أن يبايعه على الهجرة وذلك بعد الفتح، فأمسك الرسول صلى الله عليه وسلم بيد هذا الرجل الذي أتى به العباس رضي الله عنه وقال: إِنِّي أَبْرَرْتُ قَسَمَ عَمِّي، وَلَكِنْ لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ.
والحديث في مسند الإمام أحمد، إذن فالحكم بن العاص كان من سكان مكة أصلا، ولم يكن من سكان المدينة حتى يطرده النبي صلى الله عليه وسلم منها.
وقال بعض العلماء: إن الحكم ذهب إلى في الطائف باختياره، وليس نفيا، وهذا الأقرب إلى الصواب؛ لأنه عاش فترة في الطائف في أواخر عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
وفي الرواية نفسها يقولون: إنه نفى الحكم بن أبي العاص، وابنه مروان من المدينة إلى الطائف، وإذا قدرنا عمر مروان بن الحكم في سنة 8 هـ عام الفتح، وجدنا أن عمره سبع سنوات، فلو أن النبي صلى الله عليه وسلم نفاه في آخر يوم من حياته فلن يتجاوز عمره عشر سنوات على الأكثر، ومن المستحيل أن ينفي الرسول صلى الله عليه وسلم غير مكلف، ولو سلمنا جدلا أن هذه الرواية التي جاءت في كتب الشيعة صحيحة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم نفى الحكم بن العاص إلى الطائف؛ فليس هناك ذنب في الشريعة الإسلامية يستوجب النفي الدائم، فالنفي يكون إما فترة يتمها المنفي ويعود، وإما يترك حتى يتوب من ذنبه، فإذا تاب ورأى الحاكم صدق توبته عاد، فلو كان الحكم منفيا، وأعاده عثمان رضي الله عنه، فليس في ذلك ضرر، فإن قيل: لِمَ لَمْ يرده أبو بكر وعمر رضي الله عنهما مع أن عثمان رضي الله عنه كما في رواية خاطبهما في هذا الأمر؟
ولو سلمنا جدلا أنه كان منفيا في عهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ولم يرداه فربما لأن توبته لم تظهر بعد، أو قد تكون مدة النفي غير كافية في عهدهما، لكنها كفت في عهد عثمان رضي الله عنه، أو أن الحكم بن العاص لم يطلب أن يعود إلى المدينة من أبي بكر أو عمر رضي الله عنهما، لكنه طلب ذلك من عثمان رضي الله عنه.
فإن قيل: إن نفي الحكم بن أبي العاص كان نفيا دائما استحال على الظن أن يعيده عثمان بن عفان رضي الله عنه، وذلك لأن عثمان رضي الله عنه أشد ورعا من أن يقطع أمرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والأكثر من هذا أن يسكت جميع الصحابة على هذا الأمر، أو لا أحد منهم يتحدث، ويعارض عثمان رضي الله عنه، ويقول له: إنك قد قطعت أمرا قد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدوامه واستمراره، ومن بين الصحابة علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي كان موجودا، ووافق على عودة الحكم بن أبي العاص، إذا فرضنا أنه كان منفيا، وأعاده عثمان رضي الله عنه.
فإذا قيل: لِمَ يشفع عثمان رضي الله عنه في رجل قد ارتكب ذنبا؟
نقول: لأن هذا نوع من صلته لرحمه، وهذا عمه، وقد ورد في البخاري عن عروة عن أسماء قال:
قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش، ومدتهم إذ عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم مع ابنها فاستفتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إن أمي قدمت، وهي راغبة، أفأصلها؟
قال: نَعَمْ، صِلِي أُمَّكِ.
وقد أوصت السيدة صفية بنت حيي بن أخطب أم المؤمنين رضي الله عنها، وأرضاها قبل موتها لبعض قرابتها من اليهود، واحتج بعض الفقهاء بهذا الأمر أنه يجوز للمسلم أن يوصي لأقربائه من أهل الذمة، فإذا كان يجوز للمسلم أن يصل رحمه الكافر، أفلا يجوز له أن يصل رحمه المسلم؟
وإذا سلمنا جدلا أن عثمان رضي الله عنه قد أخطأ في هذا الأمر، وأنه اجتهد في إعادة الحكم بن العاص إلى المدينة، وكان الأفضل ألا يعيده، فمن يستطيع أن يطعن في عثمان بن عفان رضي الله عنه لأجل هذا الأمر؟
لننظر إلى أمر حاطب بن أبي بلتعة، ماذا فعل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
لقد أفشى سر استعداد دخول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة لفتحها، وكان يخشى على أهله، وماله بمكة، فأراد أن تكون له يد عند أهل مكة، فأعلم الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالوحي بهذا الأمر، في البخاري عن علي رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبا مرثد الغنوي، والزبير بن العوام، وكلنا فارس، قال: انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا امْرَأَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَعَهَا كِتَابٌ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ
فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: الكتاب؟
فقالت: ما معنا كتاب.
فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتابا، فقلنا: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتخرجن الكتاب، أو لنجردنك.
فلما رأت الجد، أهوت إلى حجزتها، وهي محتجزة بكساء، فأخرجته، فانطلقنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال عمر: يا رسول الله، قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟
قال حاطب: والله ما بي أن لا أكون مؤمنا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أردت أن يكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي، ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله، وماله.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صَدَقَ وَلَا تَقُولُوا لَهُ إِلَّا خَيْرًا.
فقال عمر: إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه.
فقال: أَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ؟
فقال: لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الْجَنَّةُ.
أو: فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ.
فدمعت عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم.
فما فعله حاطب بن أبي بلتعة أعظم بكثير مما فعله عثمان بن عفان رضي الله عنه في شأن الحكم بن أبي العاص لو كان قد أخطأ في إعادته لو افترضنا في الأصل أنه كان منفيا.
ودرجة عثمان بن عفان رضي الله عنه أعلى بكثير من درجة حاطب بن أبي بلتعة بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن إيمان عثمان رضي الله عنه يعدل إيمان الأمة كلها إذا أخرجنا من إيمان الأمة إيمان الرسول صلى الله عليه وسلم وإيمان أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
ويقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:
كنا لا نعدل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي بكر، وعمر، وعثمان أحدا، وبعدهم لا نفاضل بين الصحابة.
فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أبى أن تقطع رقبة حاطب بن أبي بلتعة في هذا الأمر الخطير الذي يسمى في عصرنا بالخيانة العظمى، بل لم يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم أن يوصف حاطب بالخيانة، أو النفاق، أفلا نقبل اجتهاد عثمان رضي الله عنه لو كان قد أخطأ وهو من هو رضي الله عنه وأرضاه في هذه القضية التي هي أبسط بكثير من قضية حاطب رضي الله عنه.
فهذا الأمر لمستوثقي الإيمان وسليمي العقيدة واضح جلي، وكما ذكرنا أنه ينبغي أن يكون أمر الصحابة عندنا منـزه تماما، وأنه ما كان لأحد من عموم الصحابة أن يكون في نيته أي سوء للمسلمين فضلا عن أن يكون عثمان بن عفان رضي الله عنه.
بل إن الشيعة يصفون عثمان رضي الله عنه ليس بالخيانة، أو النفاق، بل بالكفر صراحة دون أي نوع من المواربة، ومثله أبو بكر وعمر أيضا، فأني يؤفكون.
قضية قصر الصلاة - التهمة الثامنة: يقولون إن عثمان رضي الله عنه أبطل سنة القصر في السفر.
وأصل هذا الأمر أن عثمان رضي الله عنه في موسم الحج سنة 29 هـ أتمّ الصلاة في منى، وكان من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقصر الصلاة في منى، وفي كل سفر، ولم يثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم أتمّ الصلاة في أي سفر من أسفاره، فكان هذا الأمر مخالفًا للمعتاد، فناظره في ذلك عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، واعترض عليه بعض الصحابة كعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم جميعًا، فقال عثمان رضي الله عنه مفسّرًا سبب إتمامه للصلاة:
تأهّلت بمكة. أي تزوجت بها، فأصبح إذن من أهل مكة، فقال عبد الرحمن بن عوف:
ولك أهل بالمدينة، وأنت تقوم حيث أهلك بالمدينة.
فقال عثمان بن عفان: وإن لي مالًا في الطائف، فقال: إن بينك وبين الطائف ثلاث.
أي ثلاثة أيام سفر فلا تُعتبر بلدك، فقال عثمان:
وإن طائفة من أهل اليمن قالوا: إن الصلاة بالحضر ركعتان.
أي أن بعض الأعراب من أهل البادية البعيدين عن العلم والفقه ظنوا أن القصر هذا في السفر، وفي الحضر، فبدءوا يقصرون في الحضر أيضًا، يقول عثمان رضي الله عنه:
فربما رأوني أقصر في الصلاة فيحتجون بي.
فقال عبد الرحمن بن عوف: قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي والإسلام في الناس يومئذ قليل، وكان يصلّي هاهنا ركعتين، وكان أبو بكر يصلي هاهنا ركعتين، وكذلك عمر بن الخطاب، وصليت أنت ركعتين صدرًا من إمارتك.
فسكت عثمان بن عفان رضي الله عنه ثم قال: إنما هو رأي رأيته.
ثم خرج عبد الرحمن بن عوف من عند عثمان بن عفان، فالتقى مع عبد الله بن مسعود، فخاطبه في ذلك، وأخبره بما دار بينه، وبين عثمان رضي الله عنه، فقال عبد الله بن مسعود:
لقد صليت بأصحابي اثنتين، ثم علمت أنه صلّى بأصحابه أربعًا، فصليت أربعًا فالخلاف شرٌّ.
فقال عبد الرحمن بن عوف: قد بلغني أنه صلى أربعًا، فصليت بأصحابي ركعتين، أما الآن فسوف يكون الذي تقول.
أي أن عبد الرحمن سيصلّي أربعًا حتى لا يكون هناك خلاف بينهم، وفي الحقيقة هذا الأمر فيه فقه عظيم من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، فمع اقتناع عبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما برأيهما في قصر الصلاة، إلا أنهم قالوا: الخلاف شر.
وهذا على عكس ما يردده بعض الناس: اختلاف أمتي رحمة.
ويزعمون أنه حديث، وهو قول لا أصل له، بل هو قول فاسد، فإن الخلاف شر، وليس برحمة، ويقول الفقهاء في مسألة القصر هذه، قال الشافعية والحنابلة: إن القصر والإتمام جائز، وإن كان القصر أفضل.
وقال المالكية: إن القصر سنة مؤكدة. وقالوا أيضًا: إن القصر في السفر آكد من سنة صلاة الجماعة.
ويترتب على هذا أنه لو كنت مسافرًا، ووجدت جماعة يصلون فالأفضل أن تصلي منفردًا قصرًا، ولا تصلّي جماعة مع المقيم، إلا إذا وجدت مسافرًا معك يصلي فاقتدِ به، ويصلي كل منكما ركعتين.
أما الحنفية فقالوا بوجوب القصر في السفر، وإذا أتممت أربعًا قُبلت الصلاة، ولكنك مخالف للسنة عمدًا، فتُحرم من الشفاعة، بل إنهم قالوا: إذا لم تجلس للتشهد الأوسط بطلت الصلاة.
القضية إذن قضية اجتهاد، فقد اجتهد عثمان رضي الله عنه في هذه الأمر، وإن كان الأولى هو القصر في السفر، كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يتم صلاة قط في سفر، إلا أن الأمر كان موضع اجتهاد، ووافقه الصحابة لتجنب الخلاف، ولو كان حرامًا لما وافقه الصحابة رضي الله عنهم جميعًا.
فإن كان عثمان رضي الله عنه قد أخطأ في اجتهاده هذا فله أجر واحد، وإن كان أصاب فله أجران، وقد كان لعثمان رضي الله عنه تأويلات يستند إليها في رأيه كزواجه، وماله بالطائف، وافتتان الناس بالقصر، وهذا الأمر لا يُحل دمه رضي الله عنه بأي حال من الأحوال.
توليته أقاربه -التهمة التاسعة: أنه ولّى معاوية بن أبي سفيان وكان قريبًا له.
الحديث عن معاوية رضي الله عنه وأرضاه سنفصل فيه عندما نتحدث عن القتال الذي دار في معركة صفين، وعند الحديث عن خلافة معاوية رضي الله عنه سوف نتحدث عنه بصورة أكبر، ولكننا الآن نلقي الضوء سريعًا على حياة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه فنقول:
كان رضي الله عنه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب له الوحي، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأتمنه على وحي السماء، وفي عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، جعله أبو بكر رضي الله عنه خليفة لأخيه يزيد بن أبي سفيان على الجيش الخارج لحرب الروم في الشام، وفي عهد عمر رضي الله عنه ولّاه عمر رضي الله عنه على حمص، بعد عزل عمر بن سعد، وكان من زهّاد الأنصار وقدامى الصحابة رضي الله عنهم جميعًا وتحدث الناس قائلين: يعزل سعدًا ويولّي معاوية.
وقد أسلم معاوية رضي الله عنه سنة 8هـ أو سنة 6 هـ كما سيأتي في موضعه، فقال عمير بن سعد رضي الله عنه:
لا تذكروا معاوية إلا بخير، فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللَّهُمَّ اهْدِ بِهِ.
رواه الترمذي، وجاءت هذه الرواية أيضًا على لسان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
ثم بعد هذا ولّاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشام بالكامل، وذلك بعد حدوث الطاعون، ووفاة الأمراء الواحد تلو الآخر، وكما نعرف أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان شديد الدقة في اختيار الأمراء، وكان لا يتردد في عزل أحد، حتى وإن كانوا من قدامى الصحابة، كما عزل سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه وأرضاه، وقد أقرّ عمر رضي الله عنه معاوية رضي الله عنه على ولايته حتى استشهد سنة 23 هـ، وبعد وفاة عثمان رضي الله عنه قال سعد بن أبي وقاص: ما رأيت أحدًا بعد عثمان أقضى بحقٍ من صاحب هذا الباب، وأشار إلى باب معاوية، في خلافة معاوية.
وقال حبر الأمة عبد الله بن عباس: ما رأيت رجلًا أخلق بالملك من معاوية.
كان معاوية رضي الله عنه وأرضاه عادلًا حكيمًا حليمًا، يحسن الدفاع عن ملكه، وينشر الإسلام في خارج ممالك المسلمين، ويستعين بالله على ذلك، وكان من المجاهدين الأبرار، ودخل على يده الكثير، والكثير، ليس من الأفراد، بل من الأمم فى الإسلام.
وكان سيرة معاوية مع رعيته خير سيرة، وكانت الرعية تحبه حبًا شديدًا، وروى مسلم وغيره عن عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ، وَيُحِبُّونَكُمْ، وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ، وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ، وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ، وَيَلْعَنُونَكُمْ.
فإذا كان الشعب يحب القائد، وهو يحبهم، فهذا من خيار الأئمة، وإذا كان يبغض الشعب، والشعب يبغضه، فهو من شرار الأئمة، وهذا مقياس ثابت من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا يتسع المقام هنا للحديث عن معاوية رضي الله عنه وسنفصّل ذلك في موضعه، وما يهمنا هنا هو أن نقول أن عثمان رضي الله عنه لم يستحدث تولية معاوية بن أبي سفيان، بل فعلها من قبله من هو خير منه.
- التهمة العاشرة: أنه ولّى عبد الله بن عامر بن قريظ على البصرة، وهو من أقاربه.
عبد الله بن عامر هذا من بني أمية من جهة الأب، ومن بني هاشم من جهة الأم، فأم جدته الكبرى عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما ولد عبد الله بن عامر بن قريظ أُتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لأهله: هَذَا أَشْبَهُ بِنَا مِنْهُ بِكُمْ.
ثم تفل في فيه فازدرده، فقال صلى الله عليه وسلم: أَرْجُو أَنْ يَكُونَ مَسْقِيًّا.
فكان رضي الله عنه لا يعالج أرضًا إلا ظهر منها الماء.
ذكر ذلك ابن حجر العسقلاني في الإصابة.
ويُعدّ عبد الله بن عامر من أشهر الفاتحين في الإسلام، فقد فتح خراسان كلها، وأطراف فارس، وساجستان، وأعاد فتح كرمان بعد نقضها للعهد، وكان هذا الجهاد سببًا في تقويض آمال المجوس في استعادة ملكهم، ومن ثَمّ يكنّون له هذا الحقد العظيم في نفوسهم، وعندما انطلق الشيعة من تلك الأراضي أخذوا يطعنون في من قوضوا ملك فارس من أمثال المجاهد عبد الله بن عامر بن قريظ الذي فعل هذا، ولم يكن يبلغ من العمر سوى خمسة وعشرين سنة، قال ابن كثير في البداية والنهاية:
هو أول من اتخذ الحياض بعرفة لحجاج بيت الله الحرام، وأجرى إليها الماء المعين.
وقال ابن تيمية رحمه الله في منهاج السنة: إن له من الحسنات، والمحبة في قلوب الناس ما لا يُنكر.
- التهمة الحادية عشرة: أنه ولّى مروان بن الحكم وكان قريبًا له.
والواقع أن مروان بن الحكم لم يُولّ، وإنما كان عثمان رضي الله عنه يستشيره في كثير من الأمور، وكان يقربه إليه، ولم يولّه إمارةً من الإمارات، يقول القاضي ابن العربي في العواصم من القواصم: مروان رجل عدل من كبار الأمة عند الصحابة، والتابعين، وفقهاء المسلمين.
ومن الصحابة من روى عن مروان بن الحكم رضي الله عنه الحديث كسهل بن سعد الأنصاري رضي الله عنه وهذا في البخاري، وروى عنه أيضًا زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم جميعًا، وإذا كان زين العابدين قد وثق في حديث مروان بن الحكم، فإن هذا من أقوى الأدلة على الشيعة، لأن زين العابدين في زعمهم الإمام الر | |
|
| |
التقييم : 3 نقاط : 360558 تاريخ التسجيل : 01/01/1970
| موضوع: رد: مقتل الخليفة عثمان بن عفان وبداية الفتنة ونتائجها الخميس مارس 07, 2013 10:27 pm | |
| جمع المتمردون أنفسهم من البصرة، والكوفة، ومصر، وبدءوا في التوجه ناحية المدينة المنورة؛ لإحداث فتنة عظيمة ظاهرها عرض هذه النقاط على عثمان رضي الله عنه ومناقشته فيها، كما أنهم أعلنوا أيضًا عند خروجهم أنهم ذاهبون للحجّ، وكان توقيت الخروج مناسبًا لهذا الزعم، حيث كان في أواخر شوال وأوائل ذي القعدة سنة 35 هـ.
قادة المتمردين خرج من كل مدينة أربع فرق، فكان على رأس فرق البصرة حكيم بن جبلّة، وبشر بن شريح، وذريح بن عباد، وابن المحرك الحنفي، وعليهم جميعًا حرقوص بن زهير السعدي، وكان عددهم ما بين الستمائة والألف.
وكان على رأس الفرق التي خرجت من الكوفة الأشتر النخعي، وزيد بن صوحان، وزياد بن النضر الحارثي، وعبد الله بن الأصم، وعليهم جميعًا عمرو بن الأصم، وكان عددهم ما بين الستمائة والألف.
وكان على رأس الفرق التي خرجت من مصر الغافقي بن حرب العكي، وتحته أربع فرق أخرى بقيادة عبد الرحمن بن عديس، وكنانة بن بشر، وسودان بن حمران، وقطيرة السكوني، وكان عددهم أيضًا ما بين الستمائة والألف.
فكان مجموع المتمردين على الأقل حوالي ألفين توجهوا نحو المدينة، وبعد خروجهم من بلادهم، وكلهم خارجون بنية الحج ولا أحد يعلم النيات الخبيثة التي خرجوا من أجلها إلا عبد الله بن أبي سرح والي عثمان رضي الله عنه على مصر، فبعد خروج هذه الفرقة الضالة من مصر متوجهة إلى المدينة أرسل عبد الله بن ابي سرح إلى عثمان رضي الله عنه يخبره أن قوات المتمردين قد تحركت من مصر إلى المدينة لا تنوي حجًا، وإنما تنوي الفتنة، وهذه الرسالة قد وصلت متأخرة إلى حد ما، كما أرسل له رسالة أخرى يخبره أنه سيوافيه بقوة من مصر.
القادة الخارجون على رأس المتمردين منهم من تحدثنا عنه قبل ذلك كالأشتر النخعي، وحكيم بن جبلّة أحد أشرار ولصوص البصرة المشهورين بالسرقة، وسودان بن حمران الذي خرج من مصر، وهو من قبيلة سكون باليمن، وسبحان الله عندما كان يستعرض عمر بن الخطاب رضي الله عنه القبائل الخارجة للجهاد سنة 14 هـ، مرت عليه قبيلة سكون اليمنية، وكان في هذه القبيلة سودان بن حمران، فنظر إليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم أعرض عنهم، ثم نظر إليهم، ثم أعرض عنهم، ثم نظر إليهم، ثم أعرض عنهم- ثلاث مرات-، ثم قال رضي الله عنه:
سبحان الله إني عنهم لمتردد، والله ما مر بي قوم أكره لي منهم.
وكان منهم سودان بن حمران، وخالد بن ملجم الذي كان له دور كبير بعد ذلك في الفتنة، وهذا مما يدلّ على قوة الفراسة عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
أما الغافقي فكان متزعمًا للفتنة في مصر ظاهرًا، بينما كان ابنُ سبأ يحرك الأمور من الداخل، والغافقي بن حرب العكي من اليمن، وقَطَن مصر بعد فتحها، وكان محبًا للظهور وللرئاسة، وكان متحدثًا ذكيًا، وكان عالِمًا بالدين أيضًا.
بعد أن خرجت هذه المجموعات الثلاثة بكل هذه الفرق أمّروا عليهم جميعًا الغافقي بن حرب العكي، واقترب المتمردون من المدينة، وعسكروا قريبًا منها، وكان عبد الله بن سبأ موجودًا في الفرق التي خرجت من مصر، لكنه لم يعلن عن اسمه.
مطالب المتمردين كان جميع المتمردين متفقين على عزل عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، بينما كانوا مختلفين في مَن سيخلفه، فكان أهل مصر يريدون تولية علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهم قد خدعوا وفتنوا بما أثاره فيهم عبد الله بن سبأ اليهود من أن عليًا إنما هو وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه أولى بالخلافة، وكان أهل الكوفة يريدون تولية الزبير بن العوام رضي الله عنه؛ لأنه كان أميرهم فترة من الفترات، وأهل البصرة يريدون تولية طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه؛ لأنه كان أميرًا عليهم أيضًا فترة من الفترات.
فلما وصلوا إلى المدينة، وعلم المسلمون أنهم قد قدموا بهذا الشرّ، أرسل عثمان رضي الله عنه إلى كل فرقة من هذه الفرق من يطلبونه أن يكون أميرًا عليهم ليحدثهم، ويحاججهم، فخرج كلٌ إلى الفرقة التي تطلبه أن يكون أميرًا للمؤمنين.
خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى القادمين من مصر، ولما التقي بهم على بعد أميال قليلة رحبوا به، واستقلبوه على أنه الأمير، ولكنه رضي الله عنه عنفهم، وشتمهم، وسبهم وكان مما قال:
لقد علم الصالحون أنكم ملعنون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، فارجعوا لا صبّحكم الله.
وقال طلحة رضي الله عنه مثل هذا الكلام لأهل البصرة، وقال مثله لأهل الكوفة الزبيرُ بن العوام رضي الله عنه.
ثم طلب المتمردون من هؤلاء الصحابة الثلاثة (علي وطلحة والزبير) رضي الله عنهم جميعًا طلبوا أن يقابلوا عثمان رضي الله عنه ليعرضوا ما عندهم من أمور يأخذونها عليه، فدخلوا المدينة المنورة، والتقوا مع عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقالوا له افتح المصحف، اقرأ التاسعة- أي سورة يونس على مصحف عبد الله بن مسعود- فبدأ عثمان رضي الله عنه يقرأ من سورة يونس، وهو رضي الله عنه يحفظ القرآن، ويستظهره حتى وصل إلى قول الله تعالى: [آَللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ] {يونس:59}.
فقالوا: قف.
ثم قالوا له: أرأيت ما حميت من الحمى، آلله أذن لك أم على الله افتريت؟
إذن فقد بدأ المتمردون يسألونه رضي الله عنه عن النقاط التي قد رددنا عليها من قبل، وهو رضي الله عنه يجيبهم، فقال لهم رضي الله عنه: هذه الآية لم تنزل في ذلك، وإنما نزلت في المشركين، وقد حمى عمر الحمى، وزادت الإبل، فزدت في الحمى.
ثم أخذوا يعدّون عليه النقاط، وهو يردّ عليهم- كما يقول الرواة- وهو ظاهر عليهم، وقد أفحمهم بالردّ، ولا يتكلمون بعد أن يرد، وبعد أن انتهوا من حوارهم قال لهم: ماذا تريدون؟
قالوا: المنفيّ يعود، والمحروم يُعطى، وتستَعمل ذوي الأمانة، والقوة وأن تعدل في القسمة.
ومع أن عثمان رضي الله عنه لم يتجاوز ما يطلبونه منه قدر أنملة، ولا يوجد محروم، ولا منفي، إلا أنه رضي الله عنه وافقهم على ما قالوا وكتب ذلك في كتابٍ، ثم كان هذا الطلب من المتمردين القادمين من مصر قالوا له:
وأن تعزل عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وتولِّي محمد بن أبي بكر. وسبحان الله كان محمد بن أبي بكر الصديق أحد من ألّبوا على عثمان في مصر، وأحد من جاءوا مع المتمردين، وكان هو الصحابي الوحيد الذي اشترك في أحداث الفتنة والحصار.
ووافقهم عثمان رضي الله عنه على ذلك أيضًا، وكتب لهم كتابًا بتولية محمد بن أبي بكر على مصر، وعزل عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وشرط عليهم عثمان رضي الله عنه ألا يشقوا له عصا، ولا يفرقوا جماعة المسلمين، وأعطوه عهدًا بذلك وخرجوا من المدينة راضين.
ظن المسلمون في المدينة أن الفتنة قد خمدت، وبات المسلمون ليلة سعيدة بعد خِضَم أحداث عظيمة استمرت شهورًا.
وإذا نظرنا إلى هؤلاء المتمردين نجد أن منهم من يريد الطعن في الإسلام، وهدمه كعبد الله بن سبأ، ومنهم من ينزع إلى عصبيته، وخاصة القبائل اليمنية التي لم تحز الشرف والسبق مثل قريش، وهؤلاء كان كثُر وخاصة من قبيلة السكون اليمنية، ومن المتمردين أيضًا الموتورون الذين أقيمت عليهم أو على أقاربهم حدود الله من قِبَل عثمان رضي الله عنه ومن ثَمّ نقموا عليه، ومنهم من عُزّر شخصيًا من قِبل عثمان بن عفان، فجاء لينتقم، ومنهم المتعجلون للرئاسة أمثال الغافقي بن حرب، والأشتر النخعي، وغيرهم ممن لديهم القوة، والذكاء، والفصاحة، فظنوا أن هذه الجوانب وحدها تكفل لهم القيادة، وتعجبوا لعدم توليتهم، ومنهم من أكرمه عثمان رضي الله عنه كرمًا شديدًا حتى طمع في المزيد، وطمع في الولاية، ولما لم يعطه نقم عليه، كرجل يُسمّى محمد بن أبي حذيفة، وكان ربيبًا لعثمان، وقد أنفق عثمان رضي الله عنه عليه في صغره، لكنه انقلب عليه، وبدأ يؤلّب الناس عليه في السرّ، وهو ممن ألّف الرسائل على لسان الصحابة، وكان يجعل نفرًا من المقربين إليه يذهبون بهذه الرسائل إلى الأمصار القريبة منه بعد أن يجعلهم يقفون في الشمس مدة طويلة حتى يتوهم الناس أنهم قادمون من سفر بعيد، فينخدعون بتلك الرسائل، وكانت تلك الفئات التي ذكرناها من المجرمين، والمنافقين هم القوّاد والرءوس لهذه الفتنة، بينما كان الباقون من نوعين آخرين:
الأول: نوع من المغالين في الدين، قد جعل الزلات البسيطة عظيمةً، ولم يعف عن الهنات، ويظنون أن عثمان رضي الله عنه أخطأ خطأً، فيجب أن يُعزل عن مكانه، أو يصل الأمر إلى قتله.
الثاني: نوع من الناس هم في الحقيقة يحمعون بين الجهل، والحمق، قد انخدعوا بتلك الكلمات التي قالها لهم رءوس الفتنة ومدبروها، ولضعف الاتصال لم يكن هناك وسيلة كافية وسريعة لتصحيح تصوراتهم الخاطئة، مع الأخذ في الاعتبار أنهم يسكنون في أماكن نائية، وبعيدة عن المدينة المنورة موطن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والعلماء، والفقهاء.
وقد اقتنع هؤلاء بعد حوارهم مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومع عثمان رضي الله عنه بخطأ ما كانوا عليه، وبدءوا يرجعون إلى بلادهم راضين، أما رءوس الفتنة وقوادها فهم لم يجيئوا في الأصل لأجل الاقتناع بما يقوله عثمان بن عفان رضي الله عنه، أو ما يقوله غيره من كبار الصحابة، وإنما هم قد قدموا لإحداث الفتنة.
الرسالة الكاذبة وعودة المتمردين خرج الجميع راجعين إلى بلادهم، ولم يبق في المدينة منهم سوى اثنين الأشتر النخعي، وحكيم بن جبلة، وعلامات استفهام كثيرة حول بقاء هذين الفردين بالمدينة دون بقية الناس، وعدم انصرافهم مع من انصرفوا، وسلك الوفد المصري الشمال الغربي عائدًا إلى مصر، بينما سلك وفدا البصرة والكوفة الشمال الشرقي، فكلما ساروا كلٌ في طريقه، كلما ابتعدوا عن بعضهم.
وبينما الوفد المصري في طريق عودته إذا راكب على ناقة يتعرض لهم، ثم يفارقهم مرارًا، فشكّ القوم في أمره، فأمسكوا به وقالوا له: من أنت؟
فقال لهم: أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر.
ومن الواضح أن هذا الرجل يقصد شيئًا من موقفه هذا، ويريد أن يفصح لهم عن أمر ما، وليس رسولًا لأمير المؤمنين، فكما تقول الرواية كان يتعرض لهم ويفارقهم مرارًا.
فلما قال لهم أنه رسول أمير المؤمنين، فتشوه، فوجدوا معه رسالة فيها أمر من عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى عامله بمصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح بقتل بعض أهل الفتنة وسمّاهم له، وصلْب بعضهم، وتقطيع أطراف بعضهم، وقتل محمد بن أبي بكر الصديق.
والكلام مختوم بخاتم عثمان بن عفان رضي الله عنه، فلما قرأه القوم ثارت ثائرتهم، وبدءوا يرجعون إلى المدينة المنورة مرة أخرى، وكان هذا في منتصف ذي القعدة سنة 35 هـ، وفي طريق رجوعهم جاءتهم رسالة أخرى من علي بن أبي طالب يأمرهم بالقدوم إلى المدينة.
وتعجب المسلمون من عودة هؤلاء المتمردين مرة أخرى بعد كانوا في طريقهم إلى بلادهم، فخرج إليهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال المتمردون: ألم تر إلى عدو الله - يقصدون عثمان رضي الله عنه وأرضاه - كتب فينا كذا وكذا- وأروه الكتاب - وقد أحلّ الله دمه، فقم معنا إليه.
فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: والله لا أقوم معكم إلى هذا.
فقالوا له: فلِمَ كتبت إلينا؟
فقال: والله ما كتبت إليكم شيئًا.
فنظر القوم بعضهم إلى بعض، وهذه الرواية ثابتة في كل الكتب، وفيها دليل على أن بعض المتمردين يُضلّل بهم، ولا يعرفون كيف تُدبر الأمور، وأن هناك من يكتب الخطابات، ويوقعها بأسماء الصحابة مما يشعل الفتنة، كما أن الأحداث تدل على أن عليًا رضي الله عنه كان ضد المتمردين دائمًا، فقد خرج إليهم أول ما قدموا، ثم خرج إليهم مرة أخرى عندما عادوا، وشتمهم، وسبهم، وحاول إخراجهم من المدينة، في حين تشير الروايات المكذوبة أن عليًا رضي الله عنه كان ينقم على عثمان رضي الله عنه في بعض الأمور، فتركه، ولم يدافع عنه، ولم يَدْفع عنه المتمردين، وهذا طعن في كليهما في عثمان وعلي رضي الله عنهما، ومن يقرأ الكتابات الحديثة الغير موثقة سوف يجد فيها الكثير من هذه الأغاليط.
وبينما هم يتناقشون مع علي رضي الله عنه في أمر هذا الخطاب الغريب والعجيب الذي نُسب إلى عثمان رضي الله عنه، إذا بوفود الكوفة والبصرة تدخل المدينة، فخرج إليهم مجموعة من الصحابة، وقالوا لهم: ما أرجعكم بعد ذهابكم؟
فقالوا: جئنا لنصرة إخواننا. أي المصريين.
فقال لهم علي بن أبي طالب: كيف علمتم بما حدث لأهل مصر وأنتم على بعد مراحل منهم، ثم طويتم نحونا؟ هذا والله أمر دُبّر بالمدينة.
وكأنه رضي الله عنه يشير إلى بقاء الأشتر النخعي، وحكيم بن جبلة، وأنهما الذَيْن كتبا هذه الخطابات، وهذا احتمال قريب جدًا.
فقال المتمردون العراقيون (الكوفيون والبصريون): ضعوا الأمر حيث شئتم، ليعتزلنا هذا الرجل ولنتعزله.
في هذا الوقت يريد الصحابة التيقن من أمر هذا الخطاب الذي هو مختوم بخاتم عثمان رضي الله عنه، فذهبوا بالمتمردين إلى عثمان رضي الله عنه، وأروه الخطاب.
فقال لهم رضي الله عنه: ائتوني ببينة على ذلك، والله ما كتبت، ولا أمليت، ولا دريت بشيءٍ من ذلك، والخاتم قد يُزوّر على الخاتم.
فقال بعضهم: إذن كتبه مروان.
وأرادوا تسليم مروان بن الحكم إليهم، فخشي عثمان رضي الله عنه إن سلّمهم مروان أن يقتلوه، فرفض رضي الله عنه تسليمه إليهم، فصدقه بعض الناس وكذبه آخرون.
واستمرّ هذا الحوار أيامًا بين عثمان رضي الله عنه وبين المتمردين، وأعلن المتمردون أن من كفّ يده فهو آمن.
عدد المتمردين على أقل تقدير ألفان، وعدد الموجودين من الصحابة في المدينة سبعمائة، وليس في المدينة جيش للدفاع عنها؛ لأن معظم الجيوش الإسلامية في أطراف الدولة، في فارس، والروم، وإفريقية، ولا توجد قوات أمن مخصصة في المدينة؛ لأن الناس يأمنون على أنفسهم كما يقول الحسن البصري: ولا يلقى مؤمن مؤمنًا إلا وهو أخوه.
وأيضًا هؤلاء المتمردين قدموا في موسم الحج، والكثير من المسلمين في المدينة قد خرجوا لأداء الحج، وخرج عبد الله بن عباس بعد أن استاذن عثمان رضي الله عنهم جميعًا في الخروج للحج، وأذن له، لكنه انتظر أيامًا ليرى ما يحدث، وخرج للحج كذلك السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها.
المتمردون يحاصرون الخليفة في بيته إلى هذا الوقت، وعثمان رضي الله عنه خليفة المسلمين، والجميع يصلّى خلفه من المهاجرين والأنصار، والمتمردين أيضًا، حتى كان يوم جمعة، فقام عثمان رضي الله عنه، وخطب الناس، وبعد الصلاة صعد على المنبر مرة أخرى، وقال:
يا هؤلاء الغرباء، الله، الله، فوالله، إن أهل المدينة ليعلمون أنكم ملعنون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، فامحوا الخطأ بالصواب، فإن الله لا يمحو السيئ إلا بالحسن.
فقام محمد بن مسلمة رضي الله عنه، وهو من قدامى الصحابة، وقال: أنا أشهد بذلك.
وكان بجواره حكيم بن جبلة، فأجلسه بالقوة، وسبّه، فقام زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه وقال: إن ذلك في الكتاب.
فقام له رجل من أهل الفتنة يُسمى محمد بن أبي مريرة، وجذبه، وسبّه، ثم قام رجل اسمه جهجاه الغفاري، وهو من أهل الفتنة أيضًا، قام يخاطب عثمان بن عفان رضي الله عنه، واتجه نحوه وأخذ منه العصا التي كان يتّكأ عليها، وهو يخطب وهي عصا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتّكأ عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يخطب في الناس، وأخذها بعده أبو بكر رضي الله عنه، ثم عمر، ثم عثمان رضي الله عنهما، فأخذ هذا الجاحد المسمى جهجاه العصا، وكسرها على ركبته، وقال لعثمان رضي الله عنه:
يا نعثل انزل من على هذا المنبر.
ونعثل تطلق على الظبي كثير الشعر، وقد كان عثمان رضي الله عنه كثير الشعر كثّ اللحية، وتقال هذه الكلمة أيضًا للشيخ الأحمق.
وهذه أول مرة يُسبّ فيها عثمان رضي الله عنه علنًا أمام الناس، وبعد أن قيلت هذه الكلمة، قام المتمردون جميعًا، وأخذوا يحصبون- يضربونهم بالحجارة- الصحابة، وعثمان رضي الله عنه، وهو على المنبر، وسالت الدماء على قميصه، وحمله بعض الصحابة رضوان الله عليهم جميعًا، وأدخلوه بيته، ولم يخرج بعدها منه، وحاصر أهل الفتنة بيته رضي الله عنه وأرضاه، واستُخلف أبو هريرة رضي الله عنه على الصلاة بالمسلمين، وهناك روايات ضعيفة تشير إلى أن الغافقي هو الذي كان يؤم الناس، قبل مقتل عثمان رضي الله عنه، والصحيح أن أبا هريرة رضي الله عنه هو الذي كان يؤم الناس.
عندما وجد عثمان رضي الله عنه أن الأمر قد وصل إلى هذا الحدّ، وأن اللين لن يجدي مع هؤلاء المتمردين؛ كتب رضي الله عنه رسائل إلى ولاته في الأمصار أن يرسلوا إليه بالجيوش لحل هذه الأزمة، فكتب إلى معاوية بن أبي سفيان بالشام، وكتب إلى أبي موسى الأشعري بالكوفة، وإلى والي البصرة، ونعرف أن المسافات شاسعة بين تلك البلاد، وبين المدينة.
وإلى هذا التوقيت لم تظهر فكرة قتل الخليفة، بل ما يطلبونه هو عزله، ولم يصرّحوا بكلمة القتل مطلقًا.
بعد هذا الأمر خرج عثمان رضي الله عنه من شرفة بيته، وبدأ يحادث المتمردين، فخطب فيهم فقال:
أليس فيكم علي بن أبي طالب، والزبير، وطلحة، وسعد بن أبي وقاص؟- وكان الصحابة رضي الله عنهم مع الناس، ولا يريدون الانصراف، ويتركون عثمان رضي الله عنه- فوقف هؤلاء الأخيار وقالوا:
نعم نحن هنا، وأشاروا إلى أماكنهم.
فقال عثمان رضي الله عنه: أنشدكم بالذي لا إله إلا هو، تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مَنْ يَبْتَاعَ مِرْبَدَ بَنِي فُلَانَ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ.
فابتعته، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إني قد ابتعته.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجْعَلْهُ فِي مَسْجِدِنَا، وَأَجْرُهُ لَكَ؟
قال الصحابة: نعم.
قال عثمان رضي الله عنه: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
مَنْ يَبْتَاعُ بِئْرَ رُومَةَ؟
فابتعتها بكذا وكذا، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت:
إني قد ابتعتها.
قال:
اجْعَلْهَا سِقَايَةً لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَكَ أَجْرُهَا.
ففعلت؟
قالوا: نعم، نشهد بذلك.
فقال:
أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر في وجوه القوم، يوم جيش العسرة، فقال:
مَنْ يُجَهِّزُ هَؤُلَاءِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ.
فجهزتهم، حتى ما يفقدون خطاما، ولا عقالا؟
قالوا: اللهم نعم.
فقال: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد.
ثم انصرف.
وأشرف عثمان من بيته مرة أخرى، وهو محصور، فقال:
أنشد بالله من شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حراء إذ اهتز الجبل فركله بقدمه ثم قال:
اسْكُنْ حِرَاءَ لَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ.
وأنا معه، فانتشد له رجال.
أي شهدوا بأن ما يقوله حق.
ثم قال:
أنشد بالله من شهد رسول الله يوم بيعة الرضوان، إذ بعثني إلى المشركين، إلى أهل مكة، فقال:
هَذِهِ يَدِي، وَهَذِهِ يَدْ عُثْمَانَ.
ووضع يديه إحداهما على الأخرى، فبايع لي.
فانتشد له رجال.
ثم قال:
أنشد بالله من شهد رسول الله قال:
مَنْ يُوَسِّعُ لَنَا بِهَذَا الْبَيْتِ فِي الْمَسْجِد بُنِيَتْ لَهُ بِيْتًا فِي الْجَنَّةِ.
فابتعته من مالي، فوسعت به المسجد.
فانتشد له رجال.
ثم قال:
أنشد بالله من شهد رسول الله يوم جيش العسرة قال:
مَنْ يُنْفِقُ الْيَوْمَ نَفَقَةً مُتَقَبَّلَةٌ؟
فجهزت نصف الجيش من مالي.
فانتشد له رجال.
ثم قال:
أنشد بالله من شهد رومة، يباع ماؤها ابن السبيل، فابتعتها من مالي، فأبحتها ابن السبيل.
فانتشد له رجال.
المفاوضات إلى الآن لا زالت سلمية بين الطرفين، لكن بدأت تظهر فكرة القتل، فخيروا الخليفة بين العزل، والقتل، وكان هذا موقفًا صعبًا على الصحابة جميعًا، وعلى عثمان رضي الله عنه، وعن جميع صحابة النبي صلى الله عليه وسلم.
موقف الصحابة رضي الله عنهم من هذه الأحداث هناك روايات كثيرة ضالة، ومكذوبة تشير إلى أن الصحابة رضي الله عنهم تخلّوا عن عثمان رضي الله عنه في هذه الأزمة، ولم يدافعوا عنه؛ لأنهم لم يكونوا راضين عن سياسته، وهذا افتراء شديد على الصحابة الكرام رضي الله عنهم جميعًا.
ففي بداية الفتنة جاء الصحابة رضي الله عنهم إلى عثمان رضي الله عنه، وكان فيهم علي بن أبي طالب، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وغيرهم رضي الله عنهم جميعًا، ولكن عثمان رضي الله عنه رفض أن يدافعوا بأسلحتهم عنه، وعن المدينة، وكان يريد أن تنتهي هذه الأزمة بطريقة سلمية.
وبعد اشتداد الأزمة أرسل الزبير بن العوام رضي الله عنه رسالة إلى عثمان رضي الله عنه يقول له فيها:
إني استطيع أن أجمع لك بني عمرو بن عوف.
وهي قبيلة كبيرة على بعد أميال من المدينة، فقال له عثمان بن عفان رضي الله عنه:
نعم، إن كان ذلك فنعم.
إذن فما يدور في ذهن عثمان رضي الله عنه هو الحفاظ على أهل المدينة الذين هم قليل مقارنة بعدد المتمردين، وإن قامت حرب بين الفريقين أُريقت دماء الصحابة، فهو رضي الله عنه يوافق على صدّ المتمردين بالقوة إذا وجدت قوة تستطيع هزيمتهم، أما أن تراق دماء الصحابة والمسلمين بالمدينة على يد هؤلاء الفجرة من المتمردين، فهذا ما لا يرضاه عثمان رضي الله عنه على الإطلاق، وإن أتى هذا على دمه هو، وهي شجاعة لا تتكرر؛ أن يضحّي قائد بدمه من أجل أمته، وشعبه، بل إننا نرى القادة، والزعماء يضحون بجيوشهم، وشعوبهم من أجل راحتهم النفسية، ومن أجل متعتهم، ولهوهم ولعبهم، لكن أمير الدولة الإسلامية بكاملها شرقًا، وغربًا يضحي بنفسه من أجل حقن دماء أهل المدينة.
ويقوم زيد بن ثابت الأنصاري ويقول له:
إن الأنصار خارج الباب يقولون: إن شئت كنا أنصار الله، إن شئت كنا أنصار الله، كررها مرتين.
فقال عثمان رضي الله عنه:
لا حاجة لي في ذلك، فكفوا أيديكم.
ورجع عبد الله بن عباس رضي الله عنه قبل أن يخرج للحج، وقال لعثمان رضي الله عنه:
يا عثمان إن وقوفي على بابك أجاحف عنك- أي أدافع عنك- خير من الحج.
فقال له عثمان رضي الله عنه:
لا حاجة في ذلك.
وأمّره على الحج، وأمره أن يذهب إلى الحج، فأطاع عبد الله بن عباس رضي الله عنه.
وقام أبو هريرة، ومعه مجموعة من الصحابة، وذهبوا إلى عثمان رضي الله عنه في بيته، وقال أبو هريرة رضي الله عنه:
لقد سمعت أذناي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
تَكُونَ بَعْدِي فَتْنَةٌ وَأَحْدَاثٌ.
فقلت: وأين النجاة منها يا رسول الله؟
فقال:
الْأَمْيرُ وَحِزْبُهُ.
وأشار إلى عثمان رضي الله عنه
فقال القوم: ائذن لنا فلنقاتل، فقد أمكنتنا البصائر.
فقال عثمان رضي الله عنه في منتهى الصراحة والوضوح: عزمت على كل أحد لي عليه طاعة ألا يقاتل.
فقال أبو هريرة:
يا عثمان طاب الآن الضراب معك، فهذا هو الجهاد.
فقال له عثمان رضي الله عنه:
عزمت عليك لتخرجن.
فخرج أبو هريرة رضي الله عنه.
الموقف كما نرى شديد الحساسية، فعثمان رضي الله عنه يعلم تمامًا أن هذه القوة الصغيرة لن تصمد أمام المتمردين، وكان رضي الله عنه في انتظار المدد الذي يأتيه من الشام، ومن البصرة، والكوفة، لكن المسافة إلى تلك الأماكن بعيدة، وكان رضي الله عنه في انتظار بني عمرو بن عوف قوم الزبير بن العوام، ولم يكونوا قد جُمعوا بعد.
فهو رضي الله عنه يرى أن القوة الموجودة بالمدينة ليست كافية، ومن ثَمّ فلا داعي لهذا الأمر الآن.
وثَمّ شيء آخر من الأهمية بمكان هو أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان على يقين كامل أنه سيلقى الله شهيدًا، وأنه سيموت في فتنة، وفي بلوى تصيبه، وسوف يدخل الجنة على هذه البلوى، وقد سمع هذا بأُذنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ]وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى] {النَّجم:3} صلى الله عليه وسلم.
روى البخاري بسنده عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَعِدَ أُحُدًا، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، فَرَجَفَ بِهِمْ فَقَالَ:
اثْبُتْ أُحُدُ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ.
وفي البخاري أيضًا عَنْ أَبِي مُوسَى الأشعري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ، فَجَاءَ رَجُلٌ، فَاسْتَفْتَحَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ.
فَفَتَحْتُ لَهُ، فَإِذَا أَبُو بَكْرٍ، فَبَشَّرْتُهُ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ، فَاسْتَفْتَحَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ.
فَفَتَحْتُ لَهُ، فَإِذَا هُوَ عُمَرُ، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، ثُمَّ اسْتَفْتَحَ رَجُلٌ، فَقَالَ لِي:
افْتَحْ لَهُ، وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُهُ.
فَإِذَا عُثْمَانُ، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
إذن فعثمان رضي الله عنه كان يرى أنه إذا كانت حياته ثمنًا لحل هذه الفتنة فهذا شيء مناسب جدًا في رأيه خاصة، وأنه على يقين أن حياته ستذهب في هذا الأمر، فلا بأس أن تذهب حياته، وتحفظ دماء سبعمائة من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وأهل المدينة، حتى يحفظوا الأمة بعد ذلك، ولا يتولى هؤلاء المتمردون الشرار الحكم في البلاد بعد ذلك، وهؤلاء الشرار حتى هذه اللحظة يطلبون عليًا رضي الله عنه، أو طلحة، أو الزبير، وكلهم من الأخيار، وهم من العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم جميعًا، فلو عاش هؤلاء الصحابة يكون الحال أفضل بكثير من أن يقتلوا، وتحكم هذه الثلة الباغية الدولة الإسلامية.
وأمر آخر في غاية الأهمية أيضًا وهو أن عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو خليفة المسلمين له الأمر على كل المسلمين، وعليهم الطاعة، فعندما يقول لهم:
عزمت على من لي عليه طاعة ألا يقاتل.
فلو قاتلوا بعد ذلك لكان هذا عصيانًا له رضي الله عنه وأرضاه، فقد وضعهم رضي الله عنه في دائرة ضيقة للغاية؛ من دافع عنه فقد عصاه، ومن عصاه فذلك خروج عليه، وهو يرى هذا الرأي.
والصحابة رضي الله عنهم يعرفون مكانته رضي الله عنه في الإسلام وفضله، وأنّ له رأيًا حكيمًا، وربما يفكر في شيء لا يعرفونه هم، وإن كان في ظاهر الأمر أن رأيه خطأ، فعليهم أن يطيعوه ما لم يكن معصية؛ لأنه الخليفة.
وهذا هو الحوار الذي نُقل إلينا، وثبت أنه دار بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبين رجل من التابعين يُسمى سعيد الخزاعي، وذلك بعد موقعة الجمل.
قال سعيد: إني سائلك عن مسألة كانت منك، ومن عثمان.
فقال علي رضي الله عنه: سل عما بدا لك.
فقال سعيد: أي منزلة وسعتك، إذ يقتل عثمان ولم تنصره؟
فقال علي رضي الله عنه: إن عثمان كان إمامًا، وإنه نهى عن القتال، وقال: من سلّ سيفه فليس مني. فلو قاتلنا دونه عصيناه.
فقال سعيد: فأي منزلة وسعت عثمان إذ يستسلم؟
قال علي رضي الله عنه: المنزلة التي وسعت ابن آدم إذ قال لأخيه: ]لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ] {المائدة:28}. فسكت سعيد الخزاعي.
قد يقول قائل: لِمَ لَمْ يتنازل عثمان رضي الله عنه عن الخلافة لعلي أو الزبير أو طلحة رضي الله عنهم جميعًا، وكلهم من الصحابة الأخيار؟
نقول: لو فعل ذلك لكان مخالفًا للشرع وللنص الصريح من رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي الحديث عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عُثْمَانُ، إِنْ وَلَّاكَ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ يَوْمًا، فَأَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تَخْلَعَ قَمِيصَكَ الَّذِي قَمَّصَكَ اللَّهُ فَلَا تَخْلَعْهُ، يَا عُثْمَانُ، إِنْ وَلَّاكَ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ يَوْمًا، فَأَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تَخْلَعَ قَمِيصَكَ الَّذِي قَمَّصَكَ اللَّهُ فَلَا تَخْلَعْهُ، يَا عُثْمَانُ، إِنْ وَلَّاكَ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ يَوْمًا، فَأَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تَخْلَعَ قَمِيصَكَ الَّذِي قَمَّصَكَ اللَّهُ فَلَا تَخْلَعْهُ.
وكرّر صلى الله عليه وسلم ذلك ثلاث مرات، وفي هذا دلالة واضحة على أن على عثمان رضي الله عنه أن يتمسك بهذا الأمر، وتركه الأمر لهؤلاء المنافقين حينئذٍ إنما هو مخالفة واضحة لنصّ حديث رسول صلى الله عليه وسلم، والذي رواه الترمذي، وابن ماجه، وأحمد، والحاكم.
لا زال بعض الصحابة مترددًا في أمر هذه الفتنة العظيمة التي يبيت فيها الحليم حيرانًا، فيصف لهم مرة بن كعب مذكرًا لهم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى الترمذي بسنده عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيِّ أَنَّ خُطَبَاءَ قَامَتْ بِالشَّامِ، وَفِيهِمْ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ آخِرُهُمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ مُرَّةُ بْنُ كَعْبٍ فَقَالَ: لَوْلَا حَدِيثٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قُمْتُ، وَذَكَرَ الْفِتَنَ، فَقَرَّبَهَا، فَمَرَّ رَجُلٌ مُقَنَّعٌ فِي ثَوْبٍ فَقَالَ:
هَذَا يَوْمَئِذٍ عَلَى الْهُدَى.
فَقُمْتُ إِلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، قَالَ: فَأَقْبَلْتُ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ، فَقُلْتُ: هَذَا؟
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ أَبُو عِيسَى الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، ورواه ابن ماجه، وصححه الألباني.
إذن فلو أن هناك خلافًا في الرأي، فالحق مع عثمان بن عفان رضي الله عنه بنص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وبشهادته، وهو صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى.
كان هذا الأمر في غاية الصعوبة على الصحابة رضي الله عنهم إذ كيف يتركون عثمان رضي الله عنه، وهو أفضل مخلوق على وجه الأرض يومئذٍ بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر رضي الله عنهما، وقد زوّجه الرسول صلى الله عليه وسلم ابنتيه الواحدة تلو الأخرى، ففي قلوب الصحابة رضي الله عنهم شيء عظيم من الأسى والحزن، وهم مع ذلك لا يستطيعون الدفاع عنه حتى لا يقعوا في معصيته، فرجعوا رضي الله عنهم إلى بيوتهم، وتأولّوا الأمر وقالوا:
إن كان قد أقسم علينا ألا نردّ عنه، فهو لم يقسم على أبنائنا.
فأرسل علي رضي الله عنه الحسن والحسين رضي الله عنهما، وفي هذا دلالة قوية على دحض من يزعمون أن عليًا رضي الله عنه قد تخلّى عن عثمان رضي الله عنه في محنته؛ لأنه لم يكن راضيًا عن سياسته، فها هو رضي الله عنه يرسل فلذتي كبده للدفاع عن أخيه، وصاحبه ذي النورين رضي الله عنه، وأرسل الزبير بن العوام ابنه عبد الله بن الزبير، وأرسل طلحة بن عبيد الله ابنه محمد بن طلحة، وهكذا فعل كثير من الصحابة رضي الله عنهم جميعًا، واجتمع أبناء الصحابة رضي الله عنهم جميعًا في بيت عثمان رضي الله عنه، وأمّروا عليهم عبد الله بن الزبير بن العوام رضي الله عنه، وبدءوا في الدفاع عن عثمان رضي الله عنه.
ودخل عبد الله بن عمر على عثمان رضي الله عنه، وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه وعن أبيه يرى ما يرى عثمان من الرأي بعدم التصادم مع هؤلاء المتمردين، وإن أدى ذلك إلى قتله، فقال له عثمان:
انظر إلى هؤلاء يقولون: اخلع نفسك أو نقتلك.
فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: أمخلّد أنت في الدنيا؟
فقال: لا
فقال: هل يزيدون على أن يقتلوك؟
فقال: لا
فقال: هل يملكون لك جنة أو نارًا؟
فقال: لا
فقال ابن عمر رضي الله عنه: فلا تخلع قميصًا قمّصه الله لك، فتكون سنة، كلما كره قومٌ خليفتهم خلعوه، أو قتلوه.
وبعد إعلان المتمردين تخيير الخليفة بين القتل أو الخلع خرج إليهم رضي الله عنه وأرضاه من شرفة بيته وقال لهم: يا قوم علام تقتلونني؟ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ، رَجُلٌ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانِهِ، فَعَلَيْهِ الرَّجْمُ، أَوْ قَتَلَ عَمْدًا، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، أَوِ ارْتَدَّ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، فَعَلَيْهِ الْقَتْلُ.
فوالله ما زنيت في جاهلية، ولا إسلام، ولا قتلت أحدا فأقِد نفسي منه، ولا ارتددت منذ أسلمت، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، فبم تقتلونني؟
رواه النسائي، وأحمد، ورواية أخرى بلفظ قريب لأبي داود، والترمذي وقال: حديث حسن.
ولم ينصرف المتمردون، بل تحكم الشيطان والهوى من قلوبهم، وخرج لهم عثمان رضي الله عنه في يوم آخر وقال لهم: والله لئن قتلتموني، لا تتحابوا بعدي، ولا تصلوا جميعًا أبدًا، ولا تقاتلوا جميعًا أبدًا عدوًا.
وقد صدق رضي الله عنه، فبعدما قُتل انحل العقد، ودارت الفتنة منذ هذا العهد، حتى وقتنا هذا.
وفي الفترة من 15 إلى 18 ذي القعدة بدأ المتمردون يدخلون في مرحلة جديدة، وهي أنهم منعوا الطعام والشراب عن عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، ولما علم عثمان رضي الله عنه ذلك خرج لهم، وقال: أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة ضاق المسجد بأهله فقال:
مَنْ يَشْتَرِي هَذِهِ الْبُقْعَةَ مِنْ خَالِصِ مَالِهِ فَيَكُونُ فِيهَا كَالْمُسْلِمِينَ، وَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ؟
فاشتريتها من خالص مالي، فجعلتها بين المسلمين، وأنتم تمنعوني أن أصلي فيه ركعتين.
ثم قال:
أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة لم يكن بها بئر يُستعذب منه إلا بئر رومة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
مَنْ يَشْتَرِيهَا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ، فَيَكُونُ دَلْوُهُ فِيهَا كَدِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ.
فاشتريتها من خالص مالي، وأنتم تمنعوني أن أشرب منها شربة.
ثم قال: هل تعلمون أني صاحب جيش العسرة؟
فقالوا: نعم.
فقال: اللهم اشهد.
ودخل إلى بيته. أخرجه الترمذي والنسائي.
تحمّس بعض الصحابة لشدة هذا الأمر إذ كيف يمنع الطعام والماء عن خليفة المسلمين صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فحمل الماء في قربة، وركب على بغلته، ودخل بين صفوف المتمردين، وهم يقرّعونه بغليظ الكلام، وهو يزجرهم، وينهاهم حتى قال لهم: والله إن فارس والروم لا يفعلون كفعلكم هذا بهذا الرجل، والله إنهم ليأسرون فيسقون ويطعمون.
السيدة أم حبيبة أم المؤمنين زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم حملت في ثوبها الماء، وغطته، وذهبت على بغلتها حتى تسقي عثمان رضي الله عنه وأرضاه في بيته، فالتفّ حولها المتمردون، وقالوا لها: ما جاء بك؟
فقالت: عند عثمان وصايا بني أمية لأيتام وأرامل، فأحببت أن أذكره بها، فكذبوها في ذلك، ودفعوها فسقط الماء، وقطعوا حزام البغلة، ودفعوها، فكادت أن تسقط أم المؤمنين رضي الله عنها، وفي رواية أنها سقطت، وكادت أن تُقتل، لولا أن قام إليها جماعة من الناس، وأنقذوها.
وتمكن الشيطان من قلوب هؤلاء المجرمين، فمنعوا الماء أن يدخل إلى عثمان رضي الله عنه، ولم يكن يصل إليه ماءٌ إلا من جاره الملاصق له عمرو بن حزام، وهذا في أول يومين فقط، وفي اليوم الثالث منعوا الماء تمامًا، وهو يوم 17 من ذي الحجة سنة 35 هـ.
وفي هذا اليوم يعلم المتمردون أن جيوش الشام، والبصرة، والكوفة، قد اقتربت من المدينة، فخافوا من ذلك، وكانت الجيوش القادمة ضخمة، فقد أرسل معاوية رضي الله عنه جيشًا كان على رأسه حبيب بن مسلمة، وعلى رأس جيش الكوفة القعقاع بن عمرو التميمي، وعلى رأس جيش البصرة مجاشع بن مسعود، وعلى رأس الجيش القادم من مصر معاوية بن حبيش.
أما الأمراء فقد مكثوا في بلادهم حتى لا تحدث الفتن في الأمصار التي هم عليها إن تركوها، وقدموا مع الجيوش إلى المدينة.
عندما علم المتمردون بهذا الأمر عزموا عزمًا أكيدًا على قتل عثمان رضي الله عنه، والانتهاء من أمره قبل دخول هذه الجيوش إلى المدينة المنورة. | |
|
| |
التقييم : 3 نقاط : 360558 تاريخ التسجيل : 01/01/1970
| موضوع: رد: مقتل الخليفة عثمان بن عفان وبداية الفتنة ونتائجها الخميس مارس 07, 2013 10:27 pm | |
| في يوم الخميس السابع عشر من شهر ذي الحجة سنة 35 من الهجرة يصبح عثمان بن عفان رضي الله عنه صائمًا، ويحاول الصحابة رضي الله عنهم إيصال الماء إليه، لكنهم لا يستطيعون، ويأتي وقت المغرب دون أن يجد رضي الله عنه شيئًا يفطر عليه لا هو، ولا أهل بيته، ويكمل بقية الليل دون أن يفطر، وفي وقت السحر استطاعت زوجته السيدة نائلة بنت الفرافصة أن تحصل على بعض الماء من البيت المجاور خفية، ولما أعطته الماء، وقالت له: أفطر، نظر رضي الله عنه من النافذة، فوجد الفجر قد لاح، فقال: إني نذرت أن أصبح صائمًا.
فقالت السيدة نائلة: ومن أين أكلتَ ولم أرَ أحدًا أتاك بطعام ولا شراب؟
فقال رضي الله عنه: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم اطّلع عليّ من هذا السقف، ومعه دلو من ماء، فقال: اشرب يا عثمان. فشربت حتى رويت، ثم قال: ازدد. فشربت حتى نهلت، ثم قال صلى الله عليه وسلم لعثمان رضي الله عنه: أما إن القوم سينكرون عليك، فإن قاتلتهم ظفرت، وإن تركتهم أفطرت عندنا. فاختار رضي الله عنه لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لشوقه إليه، ولِيَقِينِهِ بأنه سوف يلقى الله شهيدًا ببشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم له من قبل.
في صباح هذا اليوم؛ الجمعة 18 من ذي الحجة سنة 35 هـ، يدخل كثير بن الصلت أحد صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول له:
يا أمير المؤمنين، اخرج فاجلس في الفناء- أي فناء البيت- فيرى الناس وجهك، فإنك إن فعلت ارتدعوا.
وذلك لهيبته رضي الله عنه، فقد كان عمره رضي الله عنه أكثر من اثنين وثمانين سنة.
فقال عثمان رضي الله عنه: يا كثير رأيت البارحة، وكأني دخلت على نبي الله صلى الله عليه وسلم، وعنده أبو بكر، وعمر فقال:
ارجع، فإنك مفطر عندي غدًا.
ثم قال عثمان رضي الله عنه: ولن تغيب الشمس هذا اليوم، والله إلا وأنا من أهل الآخرة.
وخرج كثير بن الصلت رضي الله عنه بأمر عثمان بن عفان رضي الله عنه، وأمر عثمان رضي الله عنه بالسراويل أن تُعدّ له؛ لكي يلبسها، وكان من عادته رضي الله عنه ألا يلبسها في جاهلية، ولا إسلام، وقد لبسها رضي الله عنه؛ لأنه خشي إن قُتل أن يتكشف، وهو رضي الله عنه شديد الحياء، فلبس السراويل، ووضع المصحف بين يديه، وأخذ يقرأ في كتاب الله.
ودخل عليه أبناء الصحابة للمرة الأخيرة، وطلبوا منه أن يسمح لهم بالدفاع عنه، فأقسم عثمان رضي الله عنه على كل من له عليه حق أن يكفّ يده، وأن ينطلق إلى منزله، ثم قال لغلمانه: من أغمد سيفه، فهو حرّ، فأعتق بذلك غلمانه، وقال رضي الله عنه أنه يريد أن يأخذ موقف ابن آدم الذي قال: ]لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ(28)إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ] {المائدة:28،29}. فكان آخر الناس خروجًا من عند عثمان رضي الله عنه هو الحسن بن علي رضي الله عنهما.
[size=21]استشهاد عثمان رضي الله عنه وصلى عثمان رضي الله عنه صلاة نافلةٍ ختم فيها سورة طه، ثم جلس بعد ذلك يقرأ في المصحف.
في هذا الوقت كان أهل الفتنة يفكرون بشكل حاسم، وسريع في قتل عثمان رضي الله عنه، خاصة مع علمهم باقتراب الجيوش الإسلامية المناصرة للخليفة رضي الله عنه من المدينة المنورة.
فدخل رجل يُسمى كنانة بن بشر التجيبي، وكان من رءوس الفتنة بشعلة من نار، وحرق بابَ بيتِ عثمان رضي الله عنه، ودخل ومعه بعض رجال الفتنة، ثم دخل رجل آخر يسمونه الموت الأسود، قيل إنه عبد الله بن سبأ وقيل غيره، فخنق عثمان بن عفان رضي الله عنه خنقًا شديدًا حتى ظن أنه مات، فتركه، وانصرف، ودخل بعد ذلك محمد بن أبي بكر الصديق، وكما ذكرنا أنه كان الوحيد من الصحابة الذي شارك في هذه الفتنة في هذا الوقت، فدخل عليه، وكان يظنه قد مات، فوجده حيًّا فقال له:
على أي دين أنت يا نعثل؟!
ونعثل هذه سُبّة تُقال للشيخ الأحمق، وللظبي كثير الشعر، فقال عثمان رضي الله عنه وأرضاه: على دين الإسلام، ولست بنعثل، ولكني أمير المؤمنين.
فقال: غيّرت كتابَ الله.
فقال عثمان رضي الله عنه: كتاب الله بيني وبينكم.
فتقدم إليه وأخذ بلحيته وهزّه منها وقال: إنا لا نقبل أن نكون يوم القيامة مما يقول: ]رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا] {الأحزاب:67}.
فإلى هذه اللحظة، ومحمد بن أبي بكر الصديق، وبعض أفراد الفتنة يظنون أنهم يفعلون الخير بقتلهم، أو خلعهم لعثمان رضي الله عنه، فهو يحاول القتل أو الخلع للخليفة طاعة لله، ونجاة من النار، وهذا بلا شك من تلبيس إبليس عليهم.
فقال عثمان رضي الله عنه: يا ابن أخي إنك أمسكت لحية كان أبوك يكرمها.
فلما قال له عثمان رضي الله عنه ذلك وضحت الحقيقة فجأةً أمام محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكأن عثمان رضي الله عنه أزال بهذه الكلمات غشاوة كانت تحجب الحق والصواب عن قلب محمد بن أبي بكر، وتذكر تاريخ عثمان رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع أبيه الصديق رضي الله عنه، ومع المسلمين، فاستحيا محمد بن أبي بكر رضي الله عنهما، وخارت يده من على لحية عثمان بن عفان رضي الله عنه، وبكى، ثم وقف، وتركه، وانصرف، فوجد القوم يدخلون على عثمان رضي الله عنه، فأمسك سيفه، وبدأ يدافع عن عثمان رضي الله عنه، ولكنهم غلبوه فلم يستطع أن يمنعهم، ويشهد بذلك السيدة نائلة بنت الفرافصة زوجة عثمان رضي الله عنه.
ثم دخل على عثمان رضي الله عنه كنانة بن بشر الملعون، وحمل السيف، وضربه به، فاتّقاه عثمان رضي الله عنه بيده فقطع يده، فقال عثمان رضي الله عنه عندما ضُرب هذه الضربه: بسم الله توكلت على الله.
فتقطرت الدماء من يده، فقال: إنها أول يد كتبت المفصل.
ثم قال: سبحان الله العظيم.
وتقاطر الدم على المصحف، وتثبت جميع الروايات أن هذه الدماء سقطت على كلمة ]فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ] {البقرة:137}. بعد ذلك حمل عليه كنانة بن بشر وضربه بعمود على رأسه، فخرّ رضي الله عنه على جنبه، وهمّ كنانة الملعون بالسيف ليضربه في صدره، فانطلقت السيدة نائلة بنت الفرافصة تدافع عن زوجها، ووضعت يدها لتحمى زوجها من السيف فقُطعت بعض أصابعها بجزء من كفها، ووقعت السيدة نائلة رضي الله عنها.
وطعن كنانةُ عثمانَ رضي الله عنه في صدره، ثم قام سودان بن حمران بحمل السيف، وطعن عثمان رضي الله عنه في بطنه فمال رضي الله عنه إلى الأرض فقفز على بطنه، واتّكأ على السيف بجسده ليتأكد من اختراق السيف لجسد عثمان رضي الله عنه، ومات رضي الله عنه وأرضاه بعد هذه الضربة.
ثم قفز عليه عمرو بن الحمق، وطعنه في صدره تسع طعنات، وقال: هذه الثلاثة الأولى لله، وهذه الست لشيء في نفسي.
استشهد ذو النورين عثمان رضي الله عنه وأرضاه زوج ابنتي الرسول صلى الله عليه وسلم، والمبشَّر بالجنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكثر من موضع، وثالث الخلفاء الراشدين، وقد لَقِيَ بعد استشهاده رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وعده بذلك.
بعد أن قتل هؤلاء الخوارج المجرمون عثمان رضي الله عنه أخذوا ينهبون ما في بيته ويقولون: إذا كان قد أُحلّ لنا دمه أفلا يحل لنا ماله؟
وأخذوا كل شيء حتى الأكواب، ولم يتركوا شيئًا، ثم همّوا بعد ذلك أن يقطعوا رأس عثمان رضي الله عنه، فصرخت السيدة نائلة، والسيدة أم البنين زوجتاه، وصرخت بناتُه، فقال عبد الرحمن بن عديس، وهو أحد رءوس الفتنة: اتركوه.
فتركوه، وبينما هم خارجون، قفز غلامٌ لعثمان رضي الله عنه على سودان بن حمران أحد قتلة عثمان رضي الله عنه، فقتله، فقام رجل من أهل الفتنة يُسمّى قترة، فقتل الغلام، فقام غلامٌ آخر، وقتل قترة، فقام القوم، وقتلوا الغلام الثاني.
ففي هذا الحدث قُتل عثمان رضي الله عنه، واثنين من غلمانه، وقُتل أيضًا بعض الصحابة، وبعض أبنائهم، وجُرح عبد الله بن الزبير، كما جُرح الحسن والحسين رضي الله عنهم جميعًا.
ثم توجه هؤلاء الفجرة الخوارج إلى بيت مال المسلمين، وحاولوا أن يأخذوا المال، وهذا يؤكد لنا أنه ما أخرجهم إلا حب الدنيا، فصرخ حراس بيت المال: النجا النجا.
ولكن غلبهم أهل الفتنة، واستطاعوا الاستيلاء على أموال كثيرة من بيت المال، وصاح حفظة بيت المال: والله إنهم قوم يريدون الدنيا، وما أرادوا الإصلاح كما قالوا.
أما الجيوش التي كانت على مشارف المدينة مرسلة من ولاة عثمان، فقد رجعت إلى أمرائها بعد معرفتها بمقتل عثمان وتولية عليّ رضي الله عنه.
الصحابة بعد مقتل سيدنا عثمان ما هو ردّ فعل الصحابة رضوان الله عليهم تجاه مقتل عثمان رضي الله عنه،
هذا الأمر من الأهمية بمكان حيث إنه يُذكر بصورة مشوهة في كتب الشيعة، ويشيرون إلى أن الصحابة رضي الله عنهم قد سعدوا بمقتل عثمان رضي الله عنه؛ لأنه كان مخالفًا لما هم عليه، وكانوا يعارضون استمراره في الحكم، ومثل هذه الأكاذيب والأغاليط.
علم الصحابة رضي الله عنهم بهذا الأمر، وعلموا أمرًا آخر عجيبًا، فالقتلة بعدما فعلوا هذه الجريمة النكراء، فعلوا كما فعل أصحاب موسى عليه السلام لما عبدوا العجل، فقد ندموا على هذا أشد الندم، ويخبر الله عز وجل عن أصحاب موسى في كتابه الكريم قال تعالى:
]وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ] {الأعراف:149}.
فهؤلاء القتلة بعد أن شاهد كثيرٌ منهم الدماء، وشاهدوا عثمان بن عفان رضي الله عنه طريحًا على الأرض شعروا بجرمهم وبسوء ما فعلوا، فندموا على ذلك، ونُقل إلى الصحابة رضي الله عنهم هذا الأمر، فقال الزبير بن العوام رضي الله عنه: إنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم ترحّم على عثمان، وبلغه أن الذين قتلوه ندموا فقال: تبًّا لهم.
ثم تلا قوله تعالى: ]مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ(49)فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ] {يس:49،50}.
ولما بلغ عليًا رضي الله عنه هذا الخبر، وقيل: كان بحضرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه حينما بلغه هذا الخبر، الحسن، والحسين، وعبد الله بن الزبير، ومحمد بن طلحة بن عبيد الله، فلطمَ الحسينَ، وضرب الحسنَ، في صدره، وسبَّ عبد الله بن الزبير، ومحمد بن طلحة، وقال لهم:
كيف يُقتل، وهو بين أيديكم؟!
ثم قال: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان.
ثم قالوا له: إنهم قد ندموا على ما فعلوا.
فقال لهم: ]كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ] {الحشر:16}.
ولما بلغ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أمْر قتل عثمان رضي الله عنه استغفر له وترحم عليه، وتلا في حق الذين قتلوه:
]قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا(103)الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا] {الكهف:103،104}.
ثم قال سعد: اللهم اندمهم ثم خذهم.
ودعوته رضي الله عنه مستجابه لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم له أن يكون مستجاب الدعوة، واستجاب الله عز وجل لدعوته، فقد أقسم بعض السلف بالله: إنه ما مات أحد من قتلةِ عثمان إلا مقتولا، وتأخر بعض هؤلاء القتلة إلى زمن الحجاج، وقُتل على يده، ولم يفلت أحد منهم من القتل، وباءوا بشَرَّيْ الدنيا والآخرة.
الخبر يصل إلى الشام بعد هذه الأحداث أخذت السيدة نائلة بنت الفرافصة رضي الله عنها زوجة عثمان رضي الله عنه، أخذت القميص الذي قُتل فيه عثمان رضي الله عنه وعليه دماؤه، وأصابعها، وكفها التي قُطعت، وهي تدافع عن زوجها؛ وأعطت كل ذلك للنعمان بن بشير رضي الله عنه، وقالت له:
خذهم إلى معاوية بن أبي سفيان فهو وليه.
وحمل النعمان بن بشير رضي الله عنه هذه الأمانات إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بالشام، فلما وصلت هذه الأشياء إلى معاوية رضي الله عنه علّقها على المنبر في المسجد، وبكى وأقسم أن ينتقم، وأن يثأر له، ووافقه أهل الشام جميعًا على ذلك، وكان فيهم الكثير من الصحابة، كأبي الدرداء، وعبادة بن الصامت، وغيرهم رضي الله عنهم جميعًا، وكان أبو الدرداء قاضي الشام، ومن أعلم أهلها، وأفتى رضي الله عنه بوجوب أخذ الثأر من قتلة عثمان رضي الله عنه، فجلس سبعون ألف رجل يبكون تحت قميص عثمان بن عفان ويقسمون على الأخذ بثأره.
وكان من بين من وافق على هذا الأمر وأفتى به- بوجوب أخذ الثأر- أبو مسلم الخولاني وهو من كبار التابعين، ويُقال أنه أعلم أهل الشام بعد أبي الدرداء رضي الله عنه.
ووصل هذا الخبر إلى السيدة عائشة رضي الله عنها، وأرضاها، وكانت في مكة هي وجميع زوجات النبي صلى الله عليه وسلم للحج، وكُنّ في طريقهن إلى المدينة عائدات من الحج حين بلغهم مقتل عثمان رضي الله عنه، فرجعن إلى مكة مرة أخرى، ولما علمت السيدة عائشة رضي الله عنها بمقتل عثمان رضي الله عنه قالت:
تركتموه كالثوب النقي من الدنس، ثم قربتموه، ثم ذبحتموه كما يذبح الكبش؟ فقال لها مسروق وهو من كبار التابعين:
هذا عملكِ، أنت كتبت إلى الناس تأمريهم أن يخرجوا إليه.
فقالت: لا والذي آمن به المؤمنون، وكفر به الكافرون، ما كتبت لهم سوداء في بيضاء حتى جلست مجلسي هذا.
وصدقت رضي الله عنها وأرضاها فيما قالت.
قال الأعمش: فكانوا يرون أنه كُتب على لسانها.
وكما ذكرنا أن رءوس الفتنة كانوا يُزَوّرون الخطابات التي تسيء إلى عثمان رضي الله عنه، وينسبونها إلى الصحابة كذبًا، وافتراءً، حتى يؤججوا نار الفتنة، ويصلوا إلى ما يريدون.
وبعد أن رجع أمهات المؤمنين إلى مكة انتظرن إلى أن يرين ما تصير إليه الأمور.
الصحابة يدفنون عثمان رضي الله عنه
لما قتل عثمان رضي الله عنه في هذا اليوم ( الجمعة 18 من ذي الحجة 35 هـ) قبل صلاة المغرب؛ تقدم مجموعة من الصحابة إلى بيته وصلوا عليه في بيته بين المغرب والعشاء، وهذا على أصح الأقوال، وبعض الروايات تقول أنهم صلوا عليه في اليوم الثاني، وتقول روايات أخرى أنهم صلّوا عليه في اليوم الثالث، وأصحها القول الأول.
وحمله الصحابة رضوان الله عليهم جميعًا إلى مكان خارج المدينة يُسمى (حش كوكب) وهو غير المكان الذي يَدفن فيه أهل المدينة موتاهم، وقد ذهب به الصحابة رضوان الله عليهم إلى هذا المكان؛ لأنهم كانوا يخشون عليه من أهل الفتنة أن يخرجوه جسده، ويمثّلوا به، أو أن يقطعوا رأسه رضي الله عنه كما حاولوا ذلك بعد قتله.
ويروى الإمام مالك رضي الله عنه أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه عندما كان يمرّ على هذا المكان وهو حي ( حش كوكب ) كان يقول: يُدفن هاهنا رجل صالح.
فغسلوه رضي الله عنه، وكفنوه، وصلوا عليه، وفي بعض الروايات أنهم لم يغسلوه، وصلى عليه أحد الصحابة، إما أبو هريرة، وإما المسوّر بن مخرمة وقيل غيرهما.
وبعد أن دُفن رضي الله عنه، حمل الصحابةُ رضي الله عنهم الرقيقين اللذين قُتلا في بيته رضي الله عنه، ودفنوهما بجواره رضي الله عنهم جميعًا.
وحتى نعلم ما كان في قلوب هؤلاء الفجرة من حقد دفين على الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه يروى عن محمد بن سيرين قال:
كنت أطوف بالكعبة، وإذا رجل يقول: اللهم اغفر لي، وما أظن أن تغفر لي.
فقلت: يا عبد الله، ما سمعت أحدا يقول ما تقول.
قال: كنت أعطيت لله عهدا إن قدرت أن ألطم وجه عثمان إلا لطمته، فلما قتل وضع على سريره في البيت والناس يجيئون يصلون عليه، فدخلت كأني أصلي عليه، فوجدت خلوة، فرفعت الثوب عن وجهه، ولحيته، ولطمته، وقد يبست يميني.
قال ابن سيرين: فرأيتها يابسة كأنها عود.
وقد ترك عثمان رضي الله عنه في بيته وصية كان فيها:
هذه وصية عثمان:
بسم الله الرحمن الرحيم، عثمان بن عفان يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الله يبعث من في القبور، ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد، عليها يحيى وعليها يموت، وعليها يبعث إن شاء الله تعالى.
مبايعة علي بن أبي طالب في تلك الفترة كان على المدينة أميرُ أهل الفتنة الغافقي بن حرب، وقد سارع المتمردون من أهل مصر إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقولون له: نبايعك على الإمارة.
فسبّهم، ولعنهم، ورفض ذلك، وطردهم، وذهب إلى حائط- بستان- من حيطان المدينة، وذهب المتمردون من أهل الكوفة إلى الزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه، وطلبوا منه أن يكون أميرًا، ففعل معهم مثل ما فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذهب كذلك أهل البصرة إلى طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه وأرضاه وطلبوا أن يكون أميرًا، فرفض ذلك وردهم، وتحيّـر أهل الفتنة فيمن يتولّى خلافة المسلمين، وحتى هذه اللحظة لم يفكّر المتمردون في تولية أحدهم أميرًا على المسلمين، وإنما جعلوا الغافقي أميرهم أميرًا على المدينة إلى أن يتم اختيار الأمير، وكان يصلّى خلفه المتمردون، وأهل المدينة، واستمر الحال على هذا الأمر خمسة أيام.
وسارع الصحابةُ رضوان الله عليهم إلى علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه وقالوا له: أنت أحق الناس بهذا الأمر فامدد يدك نبايعك.
ورفض علي رضي الله عنه هذا الأمر، وازدادت حيرة أهل الفتنة، فذهبوا إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فرفض هذا الأمر تمامًا، فقالوا له: أنت ممن رضي عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي عنهم عمر.
ولكنه رضي الله عنه رفض، فذهبوا إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فرفض أيضًا، فرجعوا مرة أخرى إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال الصحابة رضوان الله عليهم لعلي رضي الله عنه: إن لم تكن أميرًا، فسوف يجعلون الأمير منهم.
يعني أهل الفتنة، فاجتمع على علي رضي الله عنه بعض الصحابة رضوان الله عليهم جميعًا، وبعض أهل الفتنة، وطلبوا منه أن يكون الأمير، وكان أول من بايعه الأشتر النخعي، وكان ممن خرج مع أهل الفتنة من الكوفة، وسبب خروجه مع أهل الفتنة شيئان متعارضان:
الأول: غلّوه في الدين، وظنه أن ما كان يُدّعى على عثمان رضي الله عنه يستوجب خلعه من الخلافة، وإلا قتله.
والشيء الثاني: أنه كان يحب الرئاسة والزعامة، وكان له كلمة على أهل الفتنة، وعلى أهل الكوفة، وله قوم، وعشيرة.
ومع هذا الضغط المتزايد على عليٍّ بن أبي طالب رضي الله عنه قَبِل بالأمر، لكنه اشترط أولًا أن يبايعه بدايةً طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام رضي الله عنهما؛ لأنه خشِي إن وُلّي الأمر أن ينقلب أهل الكوفة، أو البصرة، ويطلبون طلحة، أو الزبير رضي الله عنهما ليكون أميرًا، ويحدثون فتنة أخرى، فذهبوا إلى طلحة، والزبير رضي الله عنهما فقالا: دمُ عثمان أولًا.
وبعد جدال ونقاش وأنه لا بدّ من تولية أحد حتى لا تتسع الفتنة أكثر من ذلك فوافقا على البيعة، فذهب طلحة بن عبيد الله، وبايع عليًا رضي الله عنه، وهو ما زال على المنبر وكان في انتظار مبايعتهما، فبايع طلحة رضي الله عنه بيده اليمنى، وكانت شلّاء ويوجد رواية ضعيفة تشير إلى أن رجلًا ممن بالمسجد قام، فقال: والله إن هذا الأمر لا يتم أول يد تبايع يد شلّاء.
وإن صح هذا القول، فالمعنى فاسد؛ لأن هذه اليد هي من خير الأيدي الموجودة في المدينة المنورة، وقد شُلّت عندما كان يدافع صاحبها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، عندما أطلق مالك بن الربيع سهمًا على الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان لا يطلق سهمًا إلا أصابه، فأسرع طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه ووضع يد ليردّ بها السهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم فشُلّت يده، ودافع رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفاعًا شديدًا في هذه الغزوة حتى طُعن أكثر من أربع وعشرين طعنة، وكان الصديق أبو بكر رضي الله عنه كلما تذكر غزوة أحد يقول: والله هذا يوم طلحة.
هذه اليد التي بايعت عليًا رضي الله عنه وأرضاه، إنما هي يدٌ مباركة.
ثم جاء الزبير بن العوّام رضي الله عنه وأرضاه، وبايع عليًا رضي الله عنه، وما قيل أن الزبير رضي الله عنه قال: بايعت والسيف على رقبتي.
كلام باطل وهي رواية موضوعة، وليس لها أساس من الصحة.
ثم قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ووقف على المنبر وأعلن قبوله لأن يكون أميرًا للمؤمنين، وذلك في اليوم الخامس لاستشهاد عثمان رضي الله عنه، وخطب رضي الله عنه خطبة عصماء، ذكّر الناس فيها بالآخرة، وبغّضهم في الدنيا، ولعن من سعى في الأرض فسادًا.
إلى هذا الوقت، وإن كان عليًا رضي الله عنه قد أصبح خليفة للمسلمين، إلا أن الأمر لا زال بيد المتمردين الذين يحملون السلاح، وهم أكثر عددًا، وعدّة من أهل المدينة.
في هذا الوقت يذهب طلحة والزبير رضي الله عنهما إلى علي رضي الله عنه بوصفه خليفة المسلمين ويقولان له: دم عثمان.
فهما رضي الله عنهما يريدان منه رضي الله عنه أن يقتل من قتل عثمان رضي الله عنه.
فقال لهما: إن هؤلاء لهم مددٌ وعونٌ وأخشى إن فعلنا ذلك بهم الآن أن تنقلب علينا الدنيا.
كان تفكير علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن ينتظر حتى تهدأ الأمور ويتملك زمامها جيدًا، وبعدها يقتل قتلة عثمان بعد محاكمتهم بشكل عادل ويعزّر من يرى تعزيره، أما الآن، فهؤلاء القتلة لهم من القوة، والمنعة في المدينة، وفي أقوامهم في الكوفة، والبصرة، ومصر ما لو قتلهم لأحدث ذلك فتنة عظيمة، وانقلب كثير من الناس بقبَلِيَّتهم، وعصبيتهم على الدولة الإسلامية.
فلما سمع طلحة والزبير رضي الله عنهما ذلك من علي رضي الله عنه، قالا له:
ائذن لنا بالعمرة.
فأذن لهما، فتركا المدينة، وتوجها إلى مكة ومكثا فيها وقتًا.
بدأ الإمام علي رضي الله عنه في دراسة أحوال الدولة الإسلامية وكيفية درأ آثار الفتنة التي حدثت، وكان الأمر بيد المتمردين بشكل واضح، وكان لهم كلمة مسموعة حتى أن عليًا رضي الله عنه اضطُر- مع كراهته لهم جميعًا- أن يولّى بعضهم على بعض المهام في الدولة، كالأشتر النخعي، وذلك نظرًا لكلمتهم المسموعة، وسيطرتهم على الأمور.
كان على الكوفة وقت تولّي علي بن أبي طالب رضي الله عنه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، وعلى البصرة عبد الله بن عامر رضي الله عنه، وكان على مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح رضي الله عنه، ولكن في هذا الوقت كان قد تغلب عليها محمد بن أبي حذيفة، وكان أحد معاوني عبد الله بن سبأ، وكان يعمل من الباطن دون أن يظهر، وكان على الشام معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وعلى اليمن يعلى بن أمية التميمي.
رأى علي بن أبي طالب رضي الله عنه بدايةً تغيير هؤلاء الأمراء درءًا للفتنة التى زعم أهلها المطاعن على هؤلاء الأمراء، ورأى رضي الله عنه أن يولّى من يصلح للسيطرة على الأمور في هذا التوقيت.
موقف معاوية معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه - كما ذكرنا - وصله خبر قتل عثمان رضي الله عنه، ووصله القميص، وأصابع وكف السيدة نائلة، وقالت له السيدة نائلة رضي الله عنها في الرسالة التي بعثت بها إليه: إنك ولي عثمان.
وهو بالفعل وليه؛ لأنه من بني أمية، فلم يبايع معاوية رضي الله عنه عليًا رضي الله عنه، واشترط أن يأخذ بثأر عثمان رضي الله عنه، وأن يقتص من قاتليه، وأن من لم يفعل ذلك، فقد عطّل كتاب الله، ولا تجوز ولايته، فكان هذا اجتهاده رضي الله عنه، ووافقه على هذا الاجتهاد مجموعة من كبار الصحابة، منهم قاضي قضاة الشام أبو الدرداء رضي الله عنه، وعبادة بن الصامت وغيرهما.
وهذا الأمر، وإن كانوا اجتهادًا، إلا أنهم قد أخطأوا في هذا الاجتهاد، وكان الحق مع علي رضي الله عنه، وكان الصواب أن يبايعوه رضي الله عنه، ثم بعد ذلك يطالبوا بالثأر لعثمان رضي الله عنه بعد أن تهدأ الأمور، ويستطيع المسلمون السيطرة على الموقف، لكن معاوية رضي الله عنه كان على إصرار شديد على أن يأخذ الثأر أولًا قبل البيعة، وإن أخذ علي رضي الله عنه الثأر فلا بأس المهم أن يُقتلوا، وقال رضي الله عنه: إن قتلهم علي بايعناه.
وجاء عبد الله بن عباس رضي الله عنه ناصحًا لعلي رضي الله عنه ألا يغيّر أمراء الأمصار، حتى تهدأ الأمور نظرًا للفتنة القائمة، لكن عليًا رضي الله عنه أصرّ على رأيه بتغيير الولاة، فولّى عليٌّ عبد الله بن عباس على اليمن، وعثمان بن حنيف رضي الله عنه على البصرة، وعمارة بن شهاب رضي الله عنه على الكوفة، وسهل بن حنيف رضي الله عنه على الشام، وقيس بن سعد رضي الله عنه على مصر.
أما عبد الله بن عباس رضي الله عنه فقد ذهب إلى اليمن، وتولّى الإمارة بها، وذهب عثمان بن حنيف إلى البصرة، وفاجأ أهلها بصعود المنبر وأعلن رضي الله عنه أنه الأمير، فانقسم الناس منهم من وافقه، ومنهم من قال: لا نقبل إمارتك إلا بعد أخذ الثأر لعثمان رضي الله عنه.
لكن الأغلب كان معه وتمكنت له الأمور، واستطاع السيطرة على البصرة، أما عمارة بن شهاب فقد قابله طلحة بن خويلد على باب الكوفة، ومنعه من دخولها بالقوة، وردّه إلى علي رضي الله عنه، وتفاقم الأمر بالكوفة، ولما أرسل عليٌ رضي الله عنه يستوثق من الأمر جاءته رسالة من أبي موسى الشعري أن جل أهل الكوفة على الطاعة له، أي لعلي رضي الله عنه.
أما سهل بن حنيف رضي الله عنه المتوجه إلى الشام، فقد قابلته خيل معاوية رضي الله عنه على أطراف الشام، فقالوا له:
من أنت؟
فقال: سهل بن حنيف.
فقالوا له: ولِمَ جئت؟
قال: جئت أميرًا.
فقالوا له: إن كنت قد جئت من طرف عثمان فأهلًا، وإن كنت قد جئت من طرف علي فارجع، وإلا دخلت الشام على دمائنا.
ورجع رضي الله عنه إلى المدينة.
أما قيس بن سعد المتوجه إلى مصر فقد وصل إليها، وتمكن من الأمور، وقد انقسم أهل مصر إلى ثلاث طوائف، كان الأغلب منهم مبايعًا لقيس بن سعد، والبعض امتنع عن إبداء الرأي، والبعض قالوا:
إنهم مع من يطالب بدم عثمان بن عفان رضي الله عنه.
أرسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه يحثّه على مبايعته لئلا يكون خارجًا عليه، لكن معاوية رضي الله عنه يرى باجتهاده أن عدم الأخذ بثأر عثمان رضي الله عنه مخالفة لكتاب الله، وأن من خالف كتاب الله لا تجوز مبايعته، ولم يكن في تفكير معاوية رضي الله عنه خلافة، ولا إمارة كما يُشاع في كتب الشيعة، بل وفي كتب بعض أهل السنة الذين ينقلون دون تمحيص أو توثيق.
أرسل علي رضي الله عنه ثلاث رسائل إلى معاوية رضي الله عنه دون أن يرد معاوية، إلا أنه أرسل لعلي رضي الله عنه رسالة فارغة، حتى إذا فتحها أهل الفتنة في الطريق لا يقتلون حاملها، ودخل حامل الرسالة على علي رضي الله عنه مشيرًا بيده أنه رافض للبيعة، فقال لعلي رضي الله عنه: أعندك أمان؟
فأمّنه عليّ رضي الله عنه.
فقال له: إن معاوية يقول لك: إنه لن يبايع إلا بعد أخذ الثأر من قتلة عثمان، تأخذه أنت، وإن لم تستطع أخذناه نحن.
فرفض ذلك علي رضي الله عنه، وقال: إن معاوية خارجٌ عن الولاية، ومن خرج يُقاتَل بمن أطاع.
أي أنه رضي الله عنه رأى أن يستعين بمن أطاعه على من عصاه.
فقرر رضي الله عنه أن يجمع الجيوش، ويتوجه بها إلى الشام، وإن لم يبايع معاوية رضي الله عنه يُقاتَل، هذا الاجتهاد هو الصحيح في مثل هذه الموقف.
بدأ علي رضي الله عنه يستنصر بالمسلمين، فأرسل رسالة إلى أبي موسى الأشعري في الكوفة، وإلى عثمان بن حنيف في البصرة، وإلى قيس بن سعد في مصر، وإلى عبد الله بن عباس في اليمن يستمد منهم المدد لهذا الأمر، وخالفه في ذلك عبد الله بن عباس رضي الله عنه، لكن عليًا رضي الله عنه أصرّ وجاء إليه ابنه الحسن وقال له: يا أبتِ، دع هذا فإن فيه سفك دماء المسلمين، ووقوع الاختلاف بينهم.
فلم يقبل منه علي رضي الله عنه هذا الأمر، وأصرّ على القتال واستعد رضي الله عنه للخروج إلى الشام.
استخلف علي رضي الله عنه على المدينة ابن أخيه قثم بن عباس رضي الله عنه، وجهز الجيش للخروج، فكان على الميمنة عبد الله بن عباس رضي الله عنه، ولم يمنعه الخلاف معه في الرأي أن يخرج معه، وعلى الميسرة عمرو بن أبي سلمة، وعلى المقدمة أبو ليلى بن عمرو الجرّاح، وهو ابن أخي أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم وأرضاهم جميعًا.
وبينما علي رضي الله عنه خارج بجيشه من المدينة متوجهًا إلى الشام حدث في مكة أمر لم يكن متوقعًا فغيّر علي رضي الله عنه من خطته بالكلية.
كان بمكة السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وزوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين عدا السيدة أم حبيبة، فقد كانت بالمدينة، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم جميعًا، وأيضًا يعلى بن أمية التميمي الذي كان واليًا لعثمان رضي الله عنه على اليمن، ولما حدثت الفتنة جاء إلى مكة، ومعه ستمائة من الإبل، وستمائة ألف درهم من بيت مال اليمن، واجتمع كل هؤلاء الصحابة، وبدءوا في مدارسة الأمر وكان رأيهم جميعًا- وكانوا قد بايعوا عليًا رضي الله عنه- أن هناك أولوية لأخذ الثأر لعثمان رضي الله عنه، وأنه لا يصح أن يؤجل هذا الأمر بأي حال من الأحوال، وقد تزعّم هذا الأمر الصحابيان طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوّام رضي الله عنهما... وكان هذا الأمر مقدمةً لموقعة الجمل. [/size] | |
|
| |
التقييم : 3 نقاط : 360558 تاريخ التسجيل : 01/01/1970
| موضوع: رد: مقتل الخليفة عثمان بن عفان وبداية الفتنة ونتائجها الخميس مارس 07, 2013 10:29 pm | |
|
بدأت أحداث هذه الفتنة الكبرى قبل وفاة عثمان بن عفان ، بعد أن افترى أهل الفتنة المطاعن عليه ، وعلى ولاته، وقد أتى أهل الفتنة بأنفسهم إليه وجادلوه، وغلبهم ، وعلا عليهم في المجادلة، وبعد أن اتفقوا على الصلح، وتوجهوا إلى بلادهم، رجعوا مرةً أخرى بعد أن وصلتهم الخطابات المزورة، وحاصروا بيت عثمان وقتلوه، وذكرنا ملابسات هذا الأمر، وموقف الصحابة رضي الله عنهم منه.
وقفة مهمة هذه بعض النقاط المهمة التي تشير إلى هذا الأمر بشيء من التفصيل:
ربما نرى الآن الأمور واضحة، والحق مع فلان، وفلان على خطأ، وربما نتساءل: لماذا لم يأخذ فلان بهذا الرأي مع وضوحه في نظرنا أنه الصواب؟
لكن ما ينبغي أن يُقال في هذا المقام أن كلًّا من الصحابة كان له ثِقَلُهُ، ومكانته، وقدره في الإسلام، فعلي بن أبي طالب أفقه أهل الأرض في ذلك الوقت، والزبير بن العوام حواريّ رسول الله ، وطلحة بن عبيد الله الذي كان يُسمى طلحة الخير له قدره، ومكانته في الإسلام، والسيدة عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين كان لها مكانتها، ولها أيضًا رأيها، وهكذا نجد أن مجموعة من أعلم أهل الأرض، وفقهائها في كل العصور يقول كل منهم رأيه حسب اجتهاده، وما من شك أن هؤلاء رضي الله عنهم هم أتقى أهل الأرض في زمانهم.
ومع العلم، والفقه، والتقوى، وهذه الصفات الحميدة التي كانوا عليها، إلا أن رأي كل منهم بعد اجتهاده، وتدقيقه، وفقهه، وتقواه يختلف عن رأي صاحبه الذي يعاصره، فما بالنا نحن الذين نريد أن نحكم على الأحداث بعد ألف وأربعمائة عام من وقوعها مع الأخذ في الاعتبار أن الكثير من الحقائق قد شُوّهت إما عمدًا أو جهلًا.
وقد ذكرنا الكثير من كتب التاريخ التي تطعن في الصحابة رضي الله عنهم إما عمدًا، وإما جهلًا.
وقد بُني داخل الكثير منا، من خلال دراستنا للتاريخ في مدارسنا وجامعاتنا بصورة مشوهة وغير صحيحة، بُنيت بعض الأمور التي نظنّ أنها هي الحقيقة، بل نجادل من يقول بخلافها، وما نودّ أن نقوله هو:
لو حدث أنك لم تقتنع بشكل كافٍ بأمر من الأمور، فافترض أن بعض الأمور قد غابت عنك، ولكن لا تظن على الإطلاق أن أحد هؤلاء الأخيار قد تعمّد قيام مثل هذه الفتنة، وأن يقاتل هؤلاء رغبة في الملك، أو الإمارة، أو المال، أو أي أمر من أمور الدنيا، فهؤلاء قد توفي الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو راض عنهم ورضي الله عنهم، ويشير إلى ذلك الكثير من الآيات، والأحاديث، وهذا من عقائدنا، فلا يخالف أحد العقيدة بظنٍ قد يظنه بأحد هؤلاء الأخيار رضي الله عنهم جميعًا.
مما ينبغي الإشارة إليه أيضًا ضعف الاتصالات بين الصحابة، وبين كثير من الناس ممن يسكن الأمصار النائية، ويتأثرون بما يشيعه أهل الفتنة من افتراءات، وكذب، ورسائل مزورة ينسبونها إلى الصحابة رضي الله عنهم، ولو قدّر لهذا الأمر أن يحدث في العصر الحديث مع توافر وسائل الاتصال المختلفة من هاتف وتلفاز، ما كان للأمور أن تتفاقم بهذا الحجم، وذلك أن الأمور كان تسير بسوء من مدبري الفتنة دون أن يعلم الأمراء، ودون أن يعلم عثمان t إلا بعد أيام، بل شهور، وتصحيح فكر الناس يحتاج إلى وقت كبير ذهابًا وإيابًا، فضُلّل كثير من الناس.
وكان ما حدثَ من أمور إنما هو من قضاء الله عز وجل ومن ابتلائه لهم رضي الله عنهم جميعًا { وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:38].
ربما يتساءل البعض أيضًا: لماذا لم يسمح عثمان للصحابة رضوان الله عليهم أن يدافعوا عنه في هذه الأزمة؟
نقول: إن القاعدة الشرعية تقول:
إن على المرء أن يدفع أعظم الضررين، وأن يجلب أكبر المنفعتين قدر ما يستطيع، فإذا كان هناك ضرران من المحتّم أن يحدث أحدهم،فيتم اختيار أخفهما ضررًا منعًا لحدوث أكبرهما، وكذلك في المنافع ينبغي اختيار المنفعة الأكبر دون الأقل، وكذلك في قضية تغيير المنكر لا يصح أن يُغيّر بمنكرٍ أكبر منه.
وانطلاقًا من هذه القاعدة كان عثمان بن عفان t يقيس المنافع والأضرار، فرأى t- ومعه الحق في ذلك- أنه إذا وصل الأمر إلى قتله في مقابل أن لا يُقتل جميع الصحابة، فهذا أفضل للإسلام وللمسلمين، فقرر t أن يضحي بنفسه، وهي شجاعة نادرة، وليست سلبية، أو جنبًا، أو عجزًا عن أخذ الرأي، فقد ضحّى بنفسه t لئلا يجعل الصحابة رضوان الله عليهم يدخلون في قتال مع هؤلاء الخوارج، فيُقتل الصحابة في هذه الفتنة، وكان عدد أهل الفتنة- كما نعرف- أكبر بكثير من عدد الصحابة.
وأمر عثمان ، بل أقسم على من له حق عليه أن يضع سيفه في غمده، فلو دافعوا عنه لعَصَوه t، وعنهم جميعًا كما قال ذلك علي بن أبي طالب t عندما سأله أحد الناس بعد ذلك:
كيف وسِعَك أن تدع عثمان يُقتل؟
فقال : لو دافعنا عنه عصيناه، لأنه قال: من سلّ السيف فليس مني.
وقد قال عثمان لغلمانه: من أغمد سيفه فهو حرّ.
فهو يريد بذلك ألا تقع الفتنة بأي صورة من الصور.
ربما يقول البعض: ولكن الفتنة حدثت وسُفكت الدماء بعد ذلك في موقعة الجمل وصفين؟
نقول: إن كل هذا لم يكن في الحسبان، وإن التقدير المادي البشري الذي اتبعه عثمان t كان يشير إلى أن ما أقدم عليه من رأي يقمع الفتنة في بدايتها، ولكن الأمر تطور بعد ذلك على غير ما توقع الصحابة رضوان الله عليهم جميعًا {وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:38].
وينبغي عند الحكم في مثل هذه القضايا أن يكون للعقل دوره، وألا تتحكم العاطفة وحدها في الأمر كله، فموقف قتل عثمان بن عفان بهذه البشاعة، وبهذا الجرم الذي لم يحدث من قبل، تأخذ الحميّة البعض وينسون القاعدة الشرعية التي هي الأخذ بأخف الضررين، ودفع أكبرهما، ويطالبون بالثأر له قبل أي شيء، ولا شك أن هذه الأمور كلها كانت واضحة تمامًا عند علي بن أبي طالب يوم أن قرر أن يسكت عن قتلة عثمان بن عفان بصفة مؤقتة، فلم يكن قد مُكّن الأمر له في البلاد بعد، وعلينا أن نتخيل ما الذي كان من المتوقع أن يحدث لو فعل ما تمليه العاطفة، ونقدّر التوابع المترتبة على هذا الأمر، هل هي أكبر أم أقل منه، وعندها نستطيع أن نصدر الحكم الصحيح، مع الأخذ في الاعتبار أن عليًا من أفقه أهل الأرض في هذا الوقت إن لم يكن أفقههم جميعًا.
ربما قال البعض: لِمَ لَمْ يترك عثمان بن عفان الخلافة درءًا للفتنة؟
ذكرنا الحديث الصحيح عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا عُثْمَانُ، إِنْ وَلَّاكَ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ يَوْمًا، فَأَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تَخْلَعَ قَمِيصَكَ الَّذِي قَمَّصَكَ اللَّهُ فَلَا تَخْلَعْهُ، يَا عُثْمَانُ، إِنْ وَلَّاكَ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ يَوْمًا، فَأَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تَخْلَعَ قَمِيصَكَ الَّذِي قَمَّصَكَ اللَّهُ فَلَا تَخْلَعْهُ، يَا عُثْمَانُ، إِنْ وَلَّاكَ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ يَوْمًا، فَأَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تَخْلَعَ قَمِيصَكَ الَّذِي قَمَّصَكَ اللَّهُ فَلَا تَخْلَعْهُ".
وكرّر ذلك ثلاث مرات، وفي هذا دلالة واضحة على أن على عثمان أن يتمسك بهذا الأمر، وتركه الأمر لهؤلاء المنافقين حينئذٍ إنما هو مخالفة واضحة لنصّ حديث رسول صلى الله عليه وسلم، والذي رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد والحاكم.
ومن الأمور المهمة التي يجب الإشارة إليها في هذا الموضوع أن من عقيدة المسلمين الإيمان بما قاله الرسول ، وثبتت صحة نسبته إليه، حتى ولو لم يكن هناك دليل مادي على الأمور الغيبية التي أخبر بها الرسول ، ومن بين ما أخبر به الرسول هذا الحديث الذي يؤكد على عثمان بن عفان التمسك بالخلافة حال حدوث الفتنة، وعدم تركها للمنافقين.
فعثمان على يقين أن ما قاله الرسول هو الحق، وهو ما ينبغي أن يُتّبع، هو أمر صريح من رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباع عثمان لهذا الأمر إنما هو دليل على صدق إيمانه.
ربما لا يقتنع الماديون بالأمور الغيبية، ولكننا نخاطب المؤمنين الذين ذُكر من صفاتهم في القرآن الكريم: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة:3].
لا بد إذن من الإيمان اليقيني بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف عرف النبي أن هذه الفتنة سوف تحدث في عهد عثمان إلا أن يكون وحيًا من الله تعالى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النَّجم:4].
ذكرنا أيضًا أنه بعد مقتل عثمان بن عفان اجتمع كل الناس بمن فيهم الصحابة على عليٍّ ، فرفض هذا الأمر رفضًا تامًا، وبعد ضغوط كثيرة اضطر أن يقبل الخلافة، وكان ذلك بعد خمسة أيام من مقتل عثمان وبايعه أيضًا طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام رضي الله عنهما على خلاف في الروايات التي تقول: إنهما بايعا مكَرَهِين.
ثم بايعه بقية الناس، وتأخر بعض الناس في البيعة، لكنهم بايعوا بعد ذلك، وأرسل علي إلى كل الأمصار يخبرهم بهذا الأمر، وكان الواجب على كل الأمصار أن ترسل مبايعتها لعلي بهذه الخلافة.
كان أهل الفتنة في هذا الوقت يسيطرون على الأمور في المدينة بصفة عامة، ولهم من القوة والسلاح ما يؤهلهم لذلك، ولم يكن بيد علي بن أبي طالب في هذا الوقت من القوة ما يستطيع من خلاله أن يقتل قتلة عثمان دون أن تحدث فتنة عظيمة في الأمصار المختلفة، والتي سوف تثور لهؤلاء القتلة بدافع الحمية، والعصبية، فآثر أن يؤجل محاكمة هؤلاء القتلة إلى حين تثْبت أركان الدولة، ثم يتصرف التصرف الذي يراه مناسبًا مع كل من شارك في هذه الفتنة، فمنهم من يُقتل كرءوس الفتنة، والمحرّضين عليها، ومن شارك في القتل بيده، ومنهم من يُعزّر كالجهّال الذين يظنون أنهم يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر بهذا الفعل الشنيع، فكلٌ له حكمه، وكانت إقامة هذه المحاكمة في هذا التوقيت من الأمور الصعبة للغاية نظرًا لأن كثيرًا من الأمور لا زالت بأيدي هؤلاء المتمردين، وهناك الكثير من القبائل الملتفة حول هذه الرءوس التي أحدثت الفتنة، وهذه القبائل قد دخلت في الإسلام حديثًا، ولم يتعمق الإيمان في قلوبهم كما تعمق في قلوب الصحابة رضوان الله عليهم، فقد ظل الرسول ثلاثة عشر عامًا يربي المؤمنين في مكة، ولم ينزل التشريع إلا في المدينة بعد أن تمكن الإيمان من قلوب المهاجرين، والأنصار، وأعطاهم الله تعالى الملك، والإمارة بعد ذلك بسنين عديدة، ومن ثَمّ لم تحدث مخالفات، أما من لم يمر بهذه المرحلة من التربية، ثم كانت له الإمارة، أو الخلافة، فلا شك أنه سوف تنشأ من جهته أمور عظيمة، وفتن كثيرة، فهذه القبائل الملتفّة حول أهل الفتنة كان لديهم شيء من القبلية، ومن العصبية، ومن حب الدنيا، ومن حب الإمارة، ولم يكن علي يدري ما سوف تفعله تلك القبائل حال قتله لأهل الفتنة، فربما قاموا بتجميع الجيوش، وقاموا بالثورات في مختلف الأمصار في مصر، والكوفة، والبصرة، واليمن، ويستقل كل أمير بإمارته، وتتفتت الدولة الإسلامية، وهذا كله بسبب قتل قتلة عثمان .
فأيهما أشد في ميزان الإسلام؟!
أن تتفكك الدولة الإسلامية ويصبح كل أمير على مصر من الأمصار، كما هو حالنا اليوم، أم يصبر على قتل عثمان - والذي قُتل بالفعل- إلى أن تدين له كل أطراف الدولة الإسلامية، ويستقر الحكم، وتهدأ الفتن، ثم يعاقب كلًا بما يستحق.
وهذه الأمور كلها من الأمور الاجتهادية، والحق فيها ليس واضحًا لأيٍّ من الأطراف تمام الوضوح، وعلي عندما يأخذ قرارًا من القرارات يفكر كثيرًا قبل أن يصدره، ويستشير، ثم يخرج بالقرار في النهاية، وكانت الأمور في منتهى الغموض كما يقول من يصف الفتنة أنها "يبيت فيها الحليم حيرانًا" وقد تحيّر الصحابة رضوان الله عليهم كثيرًا في هذه الأمور، ولم يأخذوا قرارتهم إلا بعد تفكير عميق، وفكر ثاقب، واجتهدوا قدر استطاعتهم، فمن أصاب منهم فله أجران، ومن أخطأ فله أجر، وهم ليسوا بمعصومين، وهم جميعًا من أهل الاجتهاد حتى لا يقول أحد:
ولِمَ اجتهدوا في وجود علي ، وهو أفقههم وأعلمهم؟
إنهم جميعًا رضي الله عنهم من أهل الاجتهاد، فالسيدة عائشة رضي الله عنها من أهل الاجتهاد، والزبير بن العوّام من أهل الاجتهاد، وطلحة بن عبيد الله من أهل الاجتهاد، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما، والذي ترك الأمور واعتزل من أهل الاجتهاد، وسعد بن أبي وقاص من أهل الاجتهاد.
إذن فعليٌ رضي الله عنه وأرضاه، ومن حاربوه جميعًا مجتهدون، والمجتهد يحق له أن يجمع بين الأمور، وأن يأخذ ما يراه مناسبًا منها، وعلينا ألا نلّوث ألستنا، أو عقولنا بظنٍ سيئٍ فيهم، والأحداث لا تتضح إلا بعد انتهائها.
أرسل علي بن أبي طالب عثمان بن حنيف أميرًا على البصرة، فذهب إليها، واعتلى المنبر، وأخبرهم بأنه الأمير عليهم من قِبل علي بن أبي طالب ، أما أميرهم الأول عبد الله بن عامر، فقد كان ممن يطالبون بدم عثمان بن عفان وأرضاه، وذهب إلى مكة.
وولّي على مصر قيس بن سعد، ودان له أغلب أهلها، إلا فئة قليلة آثرت الاعتزال في إحدى القرى دون أن تبايع، ودون أن تقاتل مَنْ بايع عليًا
وأقرّ علي بن أبي طالب أبا موسى الأشعري على إمارة الكوفة.
أما الشام فذكرنا أن عليًا أرسل ثلاث رسائل إلى معاوية بن أبي سفيان يطالبه فيها بمبايعته، ولكن معاوية قال: دم عثمان قبل المبايعة.
ولم يطلب معاوية رضي الله عنه وأرضاه خلافة، ولا إمارة، ولا سيطرة على الدولة الإسلامية، وإنما يريد أن يُؤخذ بثأر عثمان مِن قَتَلتِهِ سواءً أخذ هذا الثأر علي ، أو أخذه هو بنفسه، المهم أن يتم أخذ الثأر من هؤلاء القتلة، وبعدها يبايع عليًا رضي الله عنه .
أما قبل أخذ الثأر من القتلة، فلن يبايع، وكان معه سبعون ألف رجل يبكون ليلًا ونهارًا تحت قميص عثمان بن عفان المعلّق على منبر المسجد بدمشق، ومع القميص أصابع السيدة نائلة بنت الفرافصة، وكفّها التي قُطعت، وهي تدافع عن زوجها رضي الله عنهما.
وفي آخر الأمر أرسل معاوية لعلي رسالة فارغة، حتى إذا فتحها أهل الفتنة في الطريق لا يقتلون حاملها، ودخل حامل الرسالة على علي مشيرًا بيده أنه رافض للبيعة، فقال لعلي:
أعندك أمان؟
فأمّنه عليٌّ .
فقال له: إن معاوية يقول لك: إنه لن يبايع إلا بعد أخذ الثأر من قتلة عثمان، تأخذه أنت، وإن لم تستطع أخذناه نحن.
وكاد أهل الفتنة أن يقتلوا الرسول، كما كان يخشى معاوية لكن عليًا قام بحمايته، حتى أوصله إلى خارج المدينة، ورجع الرسول إلى دمشق.
إذن فمعاوية بن أبي سفيان يرفض أن يبايع عليًا بعد أن تمت له البيعة الصحيحة، وبعد أن اجتمع أهل الحِلّ والعقد، وأهل بدر على اختيار علي بن أبي طالب خليفة للمسلمين، إذن فقد أصبح معاوية خارجًا على الخليفة، فقرّر الخليفة علي بن أبي طالب أن يجمع الجيوش، ويذهب إليه حتى يردّه عن هذا الخروج بالسِلْم وإلا قاتله، فأرسل علي لأمرائه بالأمصار أن يعدّوا الجيوش للذهاب إلى الشام لأجل هذا الأمر.
مقدمات موقعة الجمل كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في مكة تحج في الوقت الذي قُتِلَ فيه عثمان ، أما طلحة والزبير فإنهما بعد أن بايعا ورأيا سيطرة أهل الفتنة على المدينة خرجوا منها إلى مكة، وهناك قرَّر المجتمعون في مكة – وأبرزهم عائشة رضي الله عنها وطلحة والزبير رضي الله عنهم - أن يُجَهِّزوا جيشًا، ويذهبوا إلى المدينة المنورة لأخذ الثأر من قتلة عثمان لأن عليًّا لا يستطيع أن يُقاتلهم وحده، ووافقت السيدة عائشة رضي الله عنها على هذا الأمر، ووافقت جميع زوجات النبي على الخروج من مكة إلى المدينة؛ لأخذ الثأر لعثمان بن عفان .
وظهر رأي آخر يقول بالذهاب إلى الشام للاستعانة بمعاوية على هذا الأمر، فقال عبد الله بن عامر: إن معاوية قد كفاكم أمر الشام، وأشار عليهم بالذهاب إلى البصرة- وكان واليًا عليها قبل ذلك- للتزوُّد بالمدد والأعوان منها، وكان له فيها يدٌ ورأي، وقال لهم: إن لطلحة فيها كلمة ورأي، وقد كان واليًا عليها لفترة من الزمن وتأثَّرُوا به.
فكان رأي عبد الله بن عامر أن يذهبوا إلى البصرة، ويبدءوا بقتلة عثمان الموجودين في البصرة فيقتلونهم، ثم يذهبون بعد أن يتزوَّدوا بالعدد والعدَّة إلى المدينة فيأتون على باقي القتلة.
وأعجب هذا الرأي الجميع إلاَّ السيدة عائشة رضي الله عنها فقالوا لها: {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114]. وأن ما تفعلينه بهذا الخروج، إنما هو إصلاح بين الناس، وليس منافيًا لقول الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}[ الأحزاب: 33].
ورفضت سائر زوجات النبي رضي الله عنهم الخروج إلى البصرة إلاَّ السيدة حفصة بنت عمر رضي الله عنها، فقرَّرت الخروج مع السيدة عائشة رضي الله عنها إلى البصرة، إلاَّ أن أخاها عبد الله بن عمر قال لها: إن هذا زمن فتنة، وعليك أن تقرِّي في بيتك، ولا تخرجي. فلمَّا خاطبتها السيدة عائشة في عدم خروجها إلى البصرة قالت لها إن أخاها- أي عبد الله بن عمر- قد منعها، فقالت السيدة عائشة رضي الله عنها: غفر الله له.
ويتَّضح من هذا الموقف مدى قناعة السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها بأمر الخروج للبصرة، لدرجة أنها تَعُدُّ أمر عبد الله بن عمر في منعه للسيدة حفصة رضي الله عنها من الخروج ذنبًا تستغفر الله لعبد الله بن عمر منه.
كان موقف عبد الله بن عمرهو اعتزال الفتنة من أولها إلى آخرها، وكان يُصَوِّر الفتنة بأنها كغمامة جاءت على المسلمين، فلم يَعُدْ أحد يرى شيئًا، والكل يسير في طريق يُريد أن يصل إلى الصواب، فاجتهد فريق منهم في الطريق، فوصل فهذا علي ومن معه، واجتهد آخرون لكي يصلوا، ولكنهم أخطئوا الطريق؛ فمعاوية ومن معه، والبعض انتظر حتى تنقشع الغمامة ثم يرى الرأي، وكان هو من هذه الفئة، ثم يقول : والمجاهد أفضل.
أي علي بن أبي طالب أفضل، لكن الأمر فيه خطورة كبيرة، وفيها احتمالية الخطأ في الوصول، ولم يكن عليٌّ يُجبر أحدًا على الخروج معه في هذا الأمر، بل كان الأمر تطوُّعيًّا، ومَنِ اعتزل فلا شيء عليه، ولا يُجبَر على رأي من الآراء.
خرجت السيدة عائشة رضي الله عنها من مكة ومن معها من الناس؛ طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وابنه عبد الله، وأمَّرت السيدة عائشة رضي الله عنها عبد الله بن الزبير على الصلاة، وكانت ترى أنه أعلم الناس مع وجود أبيه، وجهَّز يعلى بن أمية البعير، وكانت ستمائة بعير بالمال الذي أتى به معه من اليمن عندما قدم إلى مكة.
وكان عددهم عند خروجهم من مكة تسعمائة، ثم بلغ عددهم بعد قليل ثلاثة آلاف في طريقهم إلى البصرة، واشتروا للسيدة عائشة رضي الله عنها جملاً، وركبت في الهودج فوق الجمل، وانطلقوا نحو البصرة.
عَلِمَ علي t بهذا الأمر كله، وكان حينها على نيَّة الخروج للشام، لكن مع هذه المستجدات قرَّر الانتظار حتى يرى ما تصير إليه الأمور.
رواية الحوأب: لما أقبلت عائشة - يعني في مسيرها إلى وقعة الجمل - وبلغت مياه بني عامر ليلاً، نبحت الكلاب، فقالت: أي ماء هذا؟ قالوا: ماء الحوأب. فقالت: ما أظنني إلا راجعة. فقال بعض من كان معها: بل تقدمين فيراك المسلمون فيصلح الله ذات بينهم. قالت: إن رسول الله r قال لنا ذات يوم: "كَيْفَ بِإِحْدَاكُنَّ تَنْبَحُ عَلَيْهَا كِلابُ الْحَوْأَبِ؟"[1] . وفي لفظ آخر قال r لنسائه: "لَيْتَ شِعْرِي أيَّتُكُنَّ صَاحِبَةُ الْجَمَلِ الأَدْبَبِ[2] ، تَخْرُجُ فَيَنْبَحُهَا كِلابُ الْحَوْأَبِ يُقْتَلُ عَنْ يَمِينِهَا وَعَنْ يَسَارِهَا قَتْلَى كَثِيرٌ ثُمَّ تَنْجُو بَعْدَ مَا كَادَتْ".
فقال لها الزبير: ترجعين؟! عسى الله أن يُصلح بك بين الناس.
فهذه نِيَّة عائشة رضي الله عنها عند خروجها، فما خرجت لقتال علي ، بل خرجت للإصلاح، فلو عَلِمَ أي مسلم أن فريقين من المسلمين سيقتتلان، وأنَّ خروجه سيحقن دماءهم لما تردَّد في الخروج، فكيف بعائشة رضي الله عنها؟! كما أن الحديث ليس فيه نهي عن شيء، أو أمر بشيء تفعله عائشة رضي الله عنها.
ولقد دلُّ هذا الحديث على أن النبي كان يعلم أن عائشة رضي الله عنها ستخرج.
إن التوقُّف أمام المشهد بشيء من الرويَّة وإحسان الظنِّ يجعله أكثر وضوحًا؛ إن الزمان زمان فتنة، الفتنة التي لا يتَّضح فيها الحقُّ واضحًا جليًّا؛ حتى إنَّ كبار العقول تحتار فيه، ولقد حدث أن اعتزل بعض الصحابة هذه الفتنة كلها؛ لما يبدو من غيام على الحقِّ، وإنَّ مِنْ فضل الله ونعمته على هذه الأُمَّة وجود النصوص الصحيحة التي تُبَيِّن وجه الحقِّ في هذه الفتن، إننا نعلم الآن من خلال هذه النصوص أيَّ الفئات كانت على الحقِّ، وأيَّها كانت المخطئة أو الباغية، فرواية الحوأب هذه وكذلك ما صحَّ عن النبي من أن عمار بن ياسر تقتله الفئة الباغية هي الروايات التي تُظهر الحقَّ للأجيال القادمة لكي يستفيدوا من التجربة، إلاَّ أنه في زمن الفتنة قد يقع الخطأ والتأويل غير السديد لمثل هذه النصوص.
فأُمُّ المؤمنين عائشة -وهي العالمة الفقيهة التي تملك أدوات الاجتهاد- كانت مدفوعة بعاطفتها؛ عاطفتها تجاه عثمان بن عفان الخليفة الذي قُتل ظلمًا بأيدي عدد من الرعاع والغوغاء، في مدينة رسول الله وفي الشهر الحرام، كذلك عاطفتها تجاه المسلمين الذين انقسموا فئتين؛ فئة علي التي تُطالب بالبيعة، وفئة معاوية التي تُصِرُّ على أخذ القصاص من قتلة عثمان قبل البيعة، وما كان يمنع الإصلاح بين هذين الفريقين إلاَّ أن يُقتل قتلة عثمان ، فكانت ترى في خروجها إلى البصرة واستكثارها من الأنصار استقواءً وامتلاكًا للقدرة على تنفيذ القصاص من قتلة عثمان؛ فيتمُّ الإصلاح بين الفريقين المتخاصمين من المسلمين.
ولا شَكَّ أنها رضي الله عنها لما سمعت نباح الكلاب وعلمتْ أنها كلاب الحوأب اهتزَّ موقفها، وتردَّدت وخشيتْ أن تكون المعنيَّة بالحديث، إلاَّ أن توقُّعَاتها القوية بأن الأمر لن يكون فيه قتال، وأن غرضها ما هو إلاَّ الإصلاح تأوَّلت المعنى، وربما ظنَّت أنها امرأة أخرى في موقف آخر فيه قتال وقتل كثير.
قد تُسيطر "فكرة ما" على الذهن فتقوم فيه مقام الحقِّ الذي لا حقَّ غيره، فيتمُّ تأويل النصوص لتُوَافق الحقَّ المظنون، ولقد كان الأولى بأم المؤمنين رضي الله عنها وَمَنْ معها أن يعودوا، إلاَّ أنَّ الله شاء غير هذا، قال الشيخ الألباني: "ليس كلُّ ما يقع من الكمل يكون لائقًا بهم؛ إذ لا عصمة إلاَّ لله وحده، والسُّنِّيّ لا ينبغي له أن يُغالي فيمن يحترمه حتى يرفعه إلى مصاف الأئمة الشيعة المعصومين! ولا نشكُّ أن خروج أم المؤمنين كان خطأ من أصله؛ ولذلك همَّت بالرجوع حين علمت بتحقُّق نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم عند الحوأب، ولكن الزبيرأقنعها بترك الرجوع بقوله: عسى الله أن يُصلح بك بين الناس. ولا نشكُّ أنه كان مخطئًا في ذلك أيضًا، والعقل يقطع بأنه لا مناص من القول بتخطئة إحدى الطائفتين المتقاتلتين، اللتين وقع فيهما مئات القتلى، ولا شكُّ أن عائشة رضي الله عنها المخطئة لأسباب كثيرة وأدلَّة واضحة؛ ومنها ندمها على خروجها، وذلك هو اللائق بفضلها وكمالها"[3].
قدِم الجيش الذي خرج من مكة وفيه السيدة عائشة رضي الله عنها إلى البصرة، وقبل دخولهم أرسلوا رسائل إلى عثمان بن حنيف والي البصرة من قِبَل علي بن أبي طالب أن يُخلي البصرة لجيش السيدة عائشة رضي الله عنها؛ لأخذ المدد، والأخذ على يد مَنْ قتل عثمان بن عفان وأرضاه، ولم يكن عثمان بن حنيف يعلم مَنْ قتل عثمان من أهل البصرة، ولا يعلم -أيضًا- مَنْ وافق من أهلها على القتل، ومَنْ لم يوافق، ولكن مما يُذكر أن حكيم بن جبلة وهو أحد رءوس الفتنة كان قد هرب من المدينة إلى البصرة بعد قتل عثمان ، وكان مختبئًا في مكان لا يعلم به أحد، وهو من رءوس قومه، ومن إحدى القبائل الكبيرة.
ثم كان الحوار عن طريق الرُّسل بين السيدة عائشة ومعها طلحة، والزبير، وبين عثمان بن حنيف والي البصرة رضي الله عنهم وأرضاهم جميعًا.
فأرسل إليهم عثمان بن حنيف: ما الذي أتى بكم؟
فقالت السيدة عائشة: إن نريد إلاَّ الإصلاح.
أي إنه ما أتى بهم إلى البصرة، إلا لأنهم يُريدون أن يجمعوا كلمة المسلمين، وأنهم يَرَوْنَ أنه لن تجتمع كلمة المسلمين إلاَّ بعد أن يُقتل مَنْ قتل عثمان بن عفان .
فوقف عثمان بن حنيف على المنبر يستشير الناسَ في هذا الأمر، فقام رجل يُسمَّى الأسود بن سَرِيع[4]، وأشار بأنه لا بأس بأن يضع أهل البصرة يدهم في يد هذا الجيش القادم من مكة لقتل قتلة عثمان، ما دام لا يوجد أحد منهم في البصرة، فلما قال ذلك حُصب بالحجارة، فعلم عثمان بن حنيف أن لقتلة عثمان أعوانًا في البصرة، وكاد أن يحدث ما يخشاه علي بن أبي طالب إن قتل قتلة عثمان في هذا التوقيت.
ومن ثَمَّ رفض عثمان بن حنيف والي البصرة دخول جيش السيدة عائشة رضي الله عنها إلى البصرة، فلما هدَّدوه أنهم سوف يدخلون بالقوَّة أخذ جيشه ووقف على حدود البصرة، فقام طلحة بن عبيد الله، وخطب في الناس وذكَّرهم بدم عثمان، ثم قام الزبير بن العوام، وخطب في الناس خطبة، وبقي الحال على ما هو عليه، ثم قامت السيدة عائشة رضي الله عنها، وخطبت في الناس خطبة عصماء بليغة، ورقَّقت قلوب الناس لدم عثمان ، فانقسم جيش عثمان بن حنيف إلى فئتين فئة مع السيدة عائشة وجيشها، وفئة ظلَّت معه، وقويت شوكة جيش السيدة عائشة رضي الله عنها، وضعفت شوكة جيش عثمان بن حنيف ومَنْ معه من الموالين لعلي بن أبي طالب ، وفيهم الكثير من المؤيدين لقتل عثمان بن عفان ، والقبائل التي منها مَن قتل عثمان، ولو لم تشترك هي في القتل، لكنهم يُريدون أن يكون لهم الأمر، فلما كان هذا الأمر بدأ عثمان بن حنيف يُفَكِّر فيما سيفعله؛ هل يُصالحهم درءًا لهذه الفتنة، أم يُرسل إلى عليٍّ ؟
وخاف أهل الفتنة من أمر الصلح؛ لأنه لن يكون في مصلحتهم على الإطلاق، فأتى حكيم بن جبلة في هذا الوقت، ومعه قوَّة من قبيلته، وأنشب القتال مع جيش السيدة عائشة، وبدأ يرميهم بالسهام ويردُّوا عليه، ودارت الحرب بين الفريقين، وكثر القتلى وكثرت الجراح، وفي النهاية أسفرت المعارك عن مقتل حكيم بن جبلة ومعه ستمائة من أهل البصرة، وأُسر عثمان بن حنيف، ولم يُقتل، ثم أطلقوه.
فلما عَلِمَ عليٌّ بهذا الأمر، خرج من المدينة ومعه تسعمائة إلى البصرة، وتوجَّه بهم إلى (ذي قار)، فقابله رجل يُسمَّى ابن أبي رفاعة بن رافع، وقال له: يا أمير المؤمنين؛ أي شيءٍ تُريد، وأين تذهب بنا؟ فقال له علي : أما الذي نُريد وننوي فالإصلاح إن قبلوا منا وأجابوا إليه. قال: فإن لم يرضوا؟ قال: ندَعهم بعذرهم، ونعطهم الحقَّ ونصبر. قال: فإن لم يرضوا؟ قال: ندَعهم ما تركونا. قال: فإن لم يتركونا؟ قال: امتنعنا منهم. أي بالسيف. قال: فنعم إذًا. وخرج معهم.
وقام إليه الحجاج بن غَزِّيَّة الأنصاري، فقال: لأرضينك بالفعل كما أرضيتني بالقول، والله لينصرنا الله كما سمانا أنصارًا.
وقبل أن يصل إلى (ذي قار) قابله عثمان بن حنيف، وأخبره بما حدث في البصرة ومقتل الستمائة وغيرهم، فقال علي : إنا لله وإنا إليه راجعون. وأرسل ابنه الحسن، والقعقاع بن عمرو، وعمار بن ياسر رضي الله عنهم جميعًا إلى الكوفة لأخذ المدد منها.
كان في الكوفة أبو موسى الأشعري وكان ممن يرى رأي عبد الله بن عمر من اعتزال الفتنة كليةً، وأنه لا يصحُّ أن يقتتل المسلمون بالسيوف، فقام الحسن والقعقاع وعمَّار رضي الله عنهم جميعًا في المسجد، وأخذوا يُقنعون الناس بالخروج معهم، بينما كان أبو موسى الأشعري قد كلَّم الناس بأنه يجب اعتزال الفتنة، وعدم الخروج مع أيٍّ من الفريقين، فقام أحد رعاع الناس محاولاً إرضاء الحسن والقعقاع وعمار رضي الله عنهم، وسبَّ السيدة عائشة ظنًّا منه أن هذا يرضيهم.
فقال له عمار بن ياسر: اسكت مقبوحًا منبوحًا. وقال : إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا، والآخرة، ولكن الله ابتلاكم لتتبعوه، أو إياها.
وقام حجر بن عدي[5] فقال للناس: انفروا إلى أمير المؤمنين خفافًا وثقالاً، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون.
وبدأ الناس يميلون إلى رأي القعقاع وعمار والحسن رضي الله عنهم جميعًا، وخرج معهم اثنا عشر ألفًا، وأتى لعلي أناس من قبيلة طيِّئ وقيل له: إن منهم مَنْ يُريد الخروج معك، ومنهم مَنْ جاء ليسلم عليك. فقال : جزى الله كلاًّ خيرًا. ثم قال: {وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 95].
وفي الطريق إلى (ذي قار) قابلهم المستشار الأول لعلي بن أبي طالب، وهو عبد الله بن عباس، فقال للقوم: يا أهل الكوفة؛ أنتم لقيتم ملوك العجم -أي الفرس- ففضضتم جموعهم، وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة، فإن يرجعوا فذاك الذي نُريده، وإن أبوا داويناهم بالرفق، حتى يبدءونا بالظلم، ولن ندع أمرًا فيه صلاح إلاَّ آثرناه على ما فيه الفساد، إن شاء الله تعالى. فاجتمع الناس على ذلك.
وبعد أن اجتمع الجيش في (ذي قار) تَوَجَّهُوا نحو البصرة، وفي هذا الوقت كان الناس بين مؤيِّد لعلي ينضمُّ إلى صفه؛ وبين مُؤَيِّد لما عليه السيدة عائشة فينضمُّ إلى صفِّها، فوصل تعداد جيش علي إلى عشرين ألفًا، بينما وصل تعداد جيش السيدة عائشة رضي الله عنها إلى ثلاثين ألفًا، واقترب الجيشان من البصرة، وكلاهما لا يُريد قتالاً، فأرسل عليٌّ القعقاع بن عمرو ليتفاوض، ويتحدَّث في أمر الصلح مع السيدة عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم جميعًا، فقال القعقاع للسيدة عائشة رضي الله عنها: أي أُمَّاه - فهي ، أمه وأم جميع المؤمنين - ما أقدمك هذه البلد؟
فقالت رضي الله عنها: أي بني؛ الإصلاح بين الناس.
فسألها أن تبعث لطلحة والزبير أن يحضرا عندها، فأرسلت إليهما فجاءا.
فقال القعقاع: إني سألت أم المؤمنين ما أقدمها؟ فقالت: إني جئت للإصلاح بين الناس.
فقالا: ونحن كذلك.
فقال: وما وجه الإصلاح، وعلى أي شيء يكون؟ فوالله! لئن عرفناه لنصطلحنَّ، ولئن أنكرناه لا نصطلحن.
فقالا: قتلة عثمان، فإن هذا إن تُرك، كان تركًا للقرآن.
فقال القعقاع: قتلتما قتلته من أهل البصرة، وأنتما قبل قتلهم أقرب منكم إلى الاستقامة منكم اليوم، قتلتم ستمائة رجل، فغضب لهم ستة آلاف، فاعتزلوكم، وخرجوا من بين أظهركم، وطلبتم حرقوص بن زهير، فمنعه ستة آلاف، فإن تركتموهم وقعتم فيما تقولون، وإن قاتلتموهم، فأُديلوا عليكم[6] كان الذي حذرتم، وفرَّقتم من هذا الأمر أعظم مما أراكم تدفعون، وتجمعون منه.
يعني أن الذي تُريدونه من قتل قتلة عثمان مصلحة، ولكنه يترتَّب عليه مفسدة هي أربى منها، وكما أنكم عجزتم عن الأخذ بثأر عثمان من حرقوص بن زهير، لقيام ستة آلاف في منعه ممن يُريد قتله، فعليٌّ أعذر في تركه الآن قتل قتلة عثمان، وإنما أخَّر قتل قتلة عثمان إلى أن يتمكَّن منهم، فإن الكلمة في جميع الأمصار مختلفة، ثم أعلمهم أن خلقًا من ربيعة ومضر قد اجتمعوا لحربهم بسبب هذا الأمر الذي وقع.
وبدأ القوم يتأثَّرون بقوله.
فقالت له عائشة أم المؤمنين: فماذا تقول أنت؟
قال: أقول: إن هذا الأمر الذي وقع دواؤه التسكين، فإذا سكن اختلجوا، فإن أنتم بايعتمونا فعلامة خير، وتباشير رحمة، وإدراك الثأر، وإن أنتم أبيتم إلاَّ مكابرة هذا الأمر، كانت علامة شرٍّ، وذهاب هذا الملك، فآثروا العافية تُرزقوها، وكونوا مفاتيح خير كما كنتم أولاً، ولا تُعَرِّضونا للبلاء، فتتعرَّضوا له، فيصرعنا الله وإياكم، وايم الله! إني لأقول قولي هذا، وأدعوكم إليه، وإني لخائف أن لا يتمَّ حتى يأخذ الله حاجته من هذه الأُمَّة التي قلَّ متاعها، ونزل بها ما نزل، فإن هذا الأمر الذي قد حدث أمر عظيم، وليس كقتل الرجل الرجل، ولا النفر الرجل، ولا القبيلة القبيلة.
فقالوا: قد أصبت وأحسنت فارجع، فإن قدم عليٌّ، وهو على مثل رأيك صَلُح الأمر.
فرجع إلى عليٍّ، فأخبره فأعجبه ذلك، واتفق القوم على الصلح، وكره ذلك مَنْ كرهه، ورضيه من رضيه، وأرسلت عائشة إلى عليٍّ تُعلمه، أنها إنما جاءت للصلح، ففرح هؤلاء وهؤلاء، وقام عليٌّ في الناس خطيبًا، فذكر الجاهلية وشقاءها وأعمالها، وذكر الإسلام وسعادة أهله بالألفة والجماعة.
وقال عليٌّ: إني متوجِّه بقومي إليهم للمصالحة، فمَنْ كانت له يد في قتل عثمان بن عفان فلا يتبعنا. فقاموا معه إلاَّ ألفين وخمسمائة، وهم مَنْ شاركوا ورضوا بقتل عثمان ويُعلنون ذلك صراحة.
بدأ هؤلاء القتلة يشعرون بتحييد علي بن أبي طالب لهم، فخافوا على أنفسهم، وذهب عليٌّ بمَنْ معه من القوم إلى السيدة عائشة ومَنْ معها، وجاء الليل وبات الفريقان خير ليلة مرَّت على المسلمين منذ أمد بعيد، ونام أهل الفتنة في شرِّ ليلة يُفكِّرون كيف سيتخلَّصون من هذا الصلح الذي سيكون ثمنه هو رقابهم جميعًا، وخطَّطوا من جديد لإحداث الفتنة التي كانت نتيجتها موقعة الجمل.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] رواه أحمد (24299) وابن حبان (6732)، وقال شعيب الأرناءوط في التعليق عليهما: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين. وأبو يعلى (4868)، وقال حسين سليم أسد في التعليق عليه: إسناده صحيح. ورواه الحاكم في المستدرك (4613)، وابن أبي شيبة في مصنفه (38926)، وعبد الرزاق في المصنف (20753)، وقال ابن كثير في إسناد آخر للقصة: وهذا إسناد على شرط الصحيحين ولم يخرجوه. انظر: ابن كثير: البداية والنهاية 6/236، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه البزار ورجاله ثقات. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (474)، وقال: وإسناده صحيح جدًّا. ونقل تصحيح الأئمة له: الحاكم وابن حجر والذهبي. أما زيادة: "إِيَّاكِ أَنْ تَكُونِي يَا حُمَيْرَاءُ". فلا تَصِحُّ.
[2] الأدبب: الأدَبّ: وهو الكثيرُ وبَرِ الوجه. الجزري: النهاية في غريب الحديث والأثر 2/203.
[3] الألباني: السلسلة الصحيحة (474).
[4] الأسود بن سريع: هو الأسود بن سريع بن حمير التميمي السعدي، من بني منقر، صحابي غزا مع النبي r وروى عنه، ونزل البصرة، وهو أول من قصَّ بها، وروى عنه الأحنف بن قيس والحسن البصري وعبد الرحمن بن أبي بكرة، شهد معركة الجمل، وتوفي سنة 42هـ=622م. ابن الأثير: أسد الغابة 1/132، وابن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة 1/74.
[5] حُجْر بن عدي (ت 51 هـ = 671م): هو حجر بن عدي بن جبلة الكندي، ويسمى حجر الخير، وفد على رسول الله r وشهد القادسية، ثم كان من أصحاب علي t وشهد معه وقعتي الجمل وصفين، وسكن الكوفة وكان شريفًا، أميرًا مطاعًا، ذا صلاح وتعبد. ابن سعد: الطبقات الكبرى 6/217، والذهبي: سير أعلام النبلاء 3/462-467.
[6] أُدِيل عليكم؛ أي: نُصِروا علكهم وكانت الدَّوْلة لهم، والدَّوْلة الانتقال من حال الشدَّة إلى الرَّخاء. ابن منظور: لسان العرب، مادة دول 11/252. | |
|
| |
التقييم : 3 نقاط : 360558 تاريخ التسجيل : 01/01/1970
| |
| |
التقييم : 3 نقاط : 360558 تاريخ التسجيل : 01/01/1970
| |
| |
التقييم : 3 نقاط : 360558 تاريخ التسجيل : 01/01/1970
| موضوع: رد: مقتل الخليفة عثمان بن عفان وبداية الفتنة ونتائجها الخميس مارس 07, 2013 10:33 pm | |
|
بعد قتل عمار بن ياسر ، حدثت هزّة شديدة في الجيشين، أما جيش علي بن أبي طالب فيقدّرون عمارًا أشد التقدير، فهو أحد شيوخ الصحابة، وقد تجاوز التسعين سنة، ومن أوائل من أسلم، وقد عاصر بدايات الإسلام، وعُذّب هو وأهله كثيرًا في سبيل الله، وله في الإسلام مكانته وقدره، فعن أنس قال: قال رسول الله: "اشْتَاقَتِ الْجَنَّةُ إِلَى ثَلاَثَةٍ: عَلِيٍّ وَعَمَّارٍ وَسَلْمَانَ". قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
فكان قتل عمّار شديدًا على جيش علي بن أبي طالب لكنه كان أشد على جيش الشام؛ لأن الرسولقد أخبر أن عمارًا تقتله الفئة الباغية، وها هو قد قُتل على أيديهم فهم إذن الفئة الباغية، وليسوا على الحقّ.
أبو عبد الرحمن السلمي، وهو من جيش علي بن أبي طالب ، وقد شهد مقتل عمار بن ياسر , تسلل في هذه الليلة إلى معسكر الشاميين، وسمع حوارًا يدور بين أربعة من قادة الشاميين هم: معاوية بن أبي سفيان ، وعمرو بن العاص، وابنه عبد الله رضي الله عنهما، وأبو الأعور السلمي.
فقال عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو من كبار الصحابة وأعلمهم، وله القدر العظيم بين الصحابة جميعًا، وهو أحد العبادلة الفقهاء الأربعة عبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، فكان أحد كبار الفقهاء العُبّاد قال :
يا أباه، قتلتم هذا الرجل في يومكم هذا، وقد قال فيه رسول اللهما قال؟
فقال عمرو بن العاص t: وما قال؟
فقال: ألم يكن معنا ونحن نبني المسجد، والناس ينقلون حجرًا حجرًا، ولبنة لبنة، وعمار ينقل حجرين حجرين، ولبنتين لبنتين، فأتاه رسول اللهيمسح التراب عن وجهه ويقول: "وَيْحَكَ يَا ابْنَ سُمَيَّةَ تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ".
فلما سمع عمرو بن العاص هذا الكلام من ابنه عبد الله ذهب إلى معاوية وقال له: يا معاوية أما تسمع ما يقول عبد الله؟
فقال: وما يقول؟
فقال: يقول كذا وكذا وأخبره الخبر.
فقال معاوية: إنك شيخ أخرق، أَوَ نحن قتلنا عمارًا، إنما قتل عمارًا من جاء به.
ومن الواضح أن معاوية بن أبي سفيان كان على قناعة تامة بأنه ليس من البغاة، وأنه إنما يقاتل لإقامة حد من حدود الله تعالى قد عطّله علي بن أبي طالب حين لم يقتل قتلة عثمان ، وكان هذا الرأي بعد اجتهاد من معاوية ، لكن اجتهاد علي بن أبي طالب في تأخير قتلهم إلى أن يستقر حال الأمة، وتهدأ الفتن هو الأصوب، ولكلٍّ أجره؛ من أصاب أجران، ومن أخطأ أجر واحد.
والفئة الباغية في نظر معاوية ، هم من جاءوا بعمار بن ياسر معهم، فكانوا سببًا في قتله، وخاصة أنه لم يخرج لمحاربتهم، وإنما هم الذين جاءوا.
فلما سمع الناس قول معاوية أخذوا يتحدثون بما قاله، يقول أبو عبد الرحمن السلمي: فلا أدري أهم أعجب أم هو؟
يقول محبّ الدين الخطيب، وهو أحد العلماء الأبرار الذين درسوا تاريخ الفتنة جيدًا، وتايخ الشيعة، يقول في تعليقه على كتاب العواصم من القواصم: الفئة الباغية التي قتلت عمار بن ياسر ليست إلا قتلة عثمان بن عفان، وهي التي يقع على عاتقها هذه الدماء الكثيرة التي سُفكت قبل موقعة الجمل، وفي أثناء موقعة الجمل، وفي موقعة صفين وبعدها، وكل ما جاء من مصائب وكوارث على الأمة بسبب ما فعله أهل الفتنة يعود إثمه عليهم.
لم يهدأ القتال في اليوم الذي قُتِل فيه عمار بن ياسر بل استمر القتال ليلاً، وإلى الصباح، واستمر إلى ظهر اليوم التالي، وصلى المسلمون من الفريقين المغرب، والعشاء، والفجر، إيماءً، وهم على الخيول، أو الجمال، أو وهم يمشون، وسميت هذه الليلة بليلة الهرير، وهذا الاسم سميت به آخر ليلة من ليالي موقعة القادسية التي دارت بين المسلمين والفرس، وشتان بين موقعة يقاتل فيها المسلمون أعداء الله تعالى وينتصرون، ويدخلون البلاد ليفتحوها لدين الله تعالى، وبين هذه الموقعة التي تتقاتل فيها هذه الأعداد الغفيرة من المسلمين.
واستمرّ القتال على أشدّه طوال الليل، وبدأت الكفّة ترجح بشدة لصالح الجيش العراقي، وبدأت الهزيمة تدبّ في جيش معاوية، وكان النصر وشيكًا لجيش علي بن أبي طالب
حيلة رفع المصاحف: في هذه اللحظات أشار عمرو بن العاص على معاوية بن أبي سفيان برأي ينقذ به جيش الشام من الهلكة المحققة له علي أيدي الجيش العراقي، وهم حتى هذه اللحظة على يقين أنهم على الحق، وأنهم يجاهدون في سبيل الحق، وأنهم يجب أن يستمروا في مواجهة من آوى قتلة عثمان بن عفان .
فقال عمرو بن العاص لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما: إني قد رأيت أمرًا لا يزيدنا هذه الساعة إلا اجتماعًا، ولا يزيدهم إلا فرقة، أرى أن نرفع المصاحف، وندعوهم إليها، فإن أجابوا كلهم إلى ذلك برد القتال، وإن اختلفوا فيما بينهم فمِن قائل: نجيبهم. وقائل: لا نجيبهم. فإذا فعلوا ذلك فشلوا وذهب ريحهم.
فأُعجب معاوية بن أبي سفيان بهذا الرأي، ونادى على بعض أفراد الجيش، وأمرهم برفع المصاحف فرفعوها، وقالوا:
يا أهل العراق هذا بيننا وبينكم، قد فني الناس، فمن للثغور، ومن لجهاد المشركين والكفار؟
وعندها سمع جيش علي بن أبي طالب حدث فيه انقسام، فقال بعضهم نحكّم كتاب الله تعالى، وقال آخرون:
بل نحن على الحق، ويجب أن نستمرّ في القتال.
وفي مثل هذه الأحداث تكثر روايات الشيعة الضالة المكذوبة التي تصوّر علي بن أبي طالب بأنه شتم أهل الشام، وسبّهم، ورفض هذا الأمر.
وذكر أبو مخنف لوط بن يحيى الشيعي الذي يضع الروايات، ويفتريها كذبًا وزورًا قال: إن عليًّا قال: عباد الله، امضوا إلى حقكم، وصدقكم، وقتال عدوكم، فإن معاوية، وعمرو بن العاص، وابن أبي معيط، وحبيب بن مسلمة وابن أبي سرح، والضحاك بن قيس ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، وأنا أعرف بهم منكم، صحبتهم أطفالاً، وصحبتهم رجالاً، فكانوا شر أطفال، وشر رجال، ويحكم، والله إنهم يقرءونها، ولا يعلمون ما فيها، وما رفعوها إلا خديعة، ودهاءً، ومكيدة.
وهذا الكلام لم يحدث على الإطلاق، ولم يصدر من علي بن أبي طالب مثل هذا الكلام، وإنما هو من وضع هذا الشيعي الكذاب الوضّاع أبي مخنف لوط بن يحيى.
وكان علي بن أبي طالب من الراغبين في التحكيم، ووافق على هذه الفكرة التي طرحها جيش الشام، وبدأ يفكر فيمن سيخرج في هذه القضية، قضية التحكيم بينه وبين معاوية
حول موقعة صفين: بدأت هذه الموقعة -كما ذكرنا- في بداية شهر ذي الحجة سنة 36 هـ، واستمرت حتى 10 من شهر صفر 37 هـ، وبهذا تكون المعركة قد استمرّت حوالي سبعين يومًا، وكان شهر محرم مهادنة بين الفريقين، وتقول بعض الروايات أن المعركة كانت110يومًا، بينما تقول روايات أخرى: إن هذه المعركة استمرت سبعة شهور، أو أكثر، وكانت أشد أيام القتال هي الأيام التسعة الأخيرة، وأشدها آخر ثلاثة أيام، لا سيما بعد مقتل عمار بن ياسر وفي الليلة التي سُمّيت بليلة الهرير.
كم عدد القتلى والشهداء في هذه الموقعة بعد هذا القتال المرير الذي استمرّ هذه الفترة الطويلة؟ قُتل من جيش علي بن أبي طالب t خمسة وعشرين ألفًا، وقُتل من جيش معاوية بن أبي سفيان خمسة وأربعين ألفًا, أي نصف الجيش، فكان مجموع القتلى والشهداء سبعون ألفًا من كلا الطرفين، لم يجتمع للمسلمين قط منذ بداية الدعوة، ونزول الرسالة حتى هذه اللحظة، لم يجتمع لهم جيش قوامه سبعون ألفًا، وهو عدد القتلى والشهداء في هذه الموقعة، وكانت خسارة فادحة للمسلمين لم يتوقعها أحد على الإطلاق ممن شارك في القتال، سواء من طرف علي، أو معاوية رضي الله عنهما، ولكن رحى الحرب قد دارت، وكان من الصعب على الجميع التوصل إلى حل لهذا الموقف.
ورسول الله قد تنبّأ بهذه الحرب العظيمة التي دارت بين فئتين عظيمتين من المسلمين فقد روى البخاري بسنده عن أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ النَّبِيِّقَالَ: "لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَقْتَتِلَ فِئَتَانِ، فَيَكُونَ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ دَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ". أي أن كلاً من الفئتين يطلبان رضا الله تعالى، ويجاهدان في سبيله، وكلٌّ مجتهد في رأيه، وغالب الفقهاء، وأهل الحديث على أن المقصود بهذا الحديث: هذه المقتلة العظيمة التي وقعت في تلك المعركة.
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عِنْدَ فُرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَقْتُلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ".
والمقصود بالمارقة: الخوارج، والذي قتلهم هو علي بن أبي طالب والفئة التي معه، مما يدل على أنهم الذين على الحق.
وروى الإمام مسلم بسنده, عن عامر بن سعد، عن أبيه، أن رسول اللهأقبل ذات يوم من العالية، حتى إذا مر بمسجد بني معاوية دخل، فركع فيه ركعتين، وصلينا معه، ودعا ربه طويلا، ثم انصرف إلينا، فقال: "سَأَلْتُ رَبِّي ثَلاَثًا، فَأَعْطَانِي ثِنْتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً، سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لاَ يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ، فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لاَ يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ، فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لاَ يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ، فَمَنَعْنِيهَا".
وفي البخاري بسنده, عَنْ جَابِرٍ t قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام:65].
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " أَعُوذُ بِوَجْهِكَ".
قَالَ: {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}[الأنعام:65]، قَالَ: "أَعُوذُ بِوَجْهِكَ".
{أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65]
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "هَذَا أَهْوَنُ أَوْ هَذَا أَيْسَرُ".
والله عز وجل يقول: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ * إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10,9].
ومن هذه الآيات تظهر لنا بعض الدلالات منها:
أن القتال بين طائفتين من المؤمنين أمر وارد، كما تذكر الآية، ويكون الحلّ الأول حينئذ الإصلاح {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9]. أما في حالة تعدّي، وبغْي إحدى الطائفتين على الأخرى {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات:9], فيجتمع كل المسلمين لمقاتلة هذه الفئة التي خرجت على الإمام {حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} [الحجرات:9], ويذكر الله عز وجل بعد ذلك: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]
فلم ينزع الله تعالى عنهم صفة الإيمان، ولم ينزع عنهم صفة الأخوة حتى بعد القتال، وبعد أن سمّاهم بغاة.
وكلا الطرفين في هذه المعركة كان يظن أن الطرف الآخر هو الطرف الباغي المخالف للحق، والمتعدي على الحق، ومن ثَمّ يجوز قتاله لردّه إلى الحق، وكلٌّ مجتهد.
فبعض الصحابة اجتهد، فعلم أن الحق مع علي بن أبي طالب ، ومع هذا اعتزلوا القتال، وبعض الصحابة لم يعلم مع أي الطرفين الحق، فاعتزل القتال، وبعضهم اجتهد، فعلم أن الحق مع علي فقاتل معه، وبعضهم اجتهد، فعلم أن الحق مع معاوية فقاتل معه.
فكان الأمر من الصعوبة بمكان، وكان فيه اجتهاد كبير، وكان ممن اعتزل الفتنة، ولم يقاتل مع أحد الطرفين أعلام كبار من صحابة النبي، كعبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فقد عاصر هذه الأحداث، ولم يشارك مع أيٍّ من الطرفين، وكذلك سعد بن أبي وقاص وأسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة ، وعمران بن حصين ، وكان ينهى عن بيع السلاح لأحد الطرفين.
بل إن الفقهاء والعلماء الذين جاءوا بعد ذلك بفترة طويلة، ونظروا للأمور نظرة عامة تحيّروا في هذا الأمر، ولم يكن الأمر واضحًا لهم بشكل كامل.
الإمام ابن تيمية -رحمه الله- كان يرى أن الحق مع علي بن أبي طالب ، ولكنه كان يقول: إن معاوية لم يكن ممن اختار الحرب ابتداءً، بل كان من أشد الناس حرصًا على ألا يكون هناك قتال، ولولا تحرّك علي بن أبي طالب بالجيش من الكوفة إلى صفين لما حدث قتال.
أما الفقهاء الأربعة فيرون جميعًا أن علي بن أبي طالب كان مجتهدًا مصيبًا فله أجران، وأن معاوية كان مجتهدًا مخطئًا، فله أجر، وليس عليه وزر، وأضاف الإمام أحمد بن حنبل مع قناعته بكَون علي على الحق أن القتال قتال فتنة، وأنه كان من الأصوب ألا يتم، وأن القتال في هذا الوقت ليس بواجب، ولا مستحب.
وكثير من أصحاب الإمام أحمد، والشافعي، وأبي حنيفة قالوا : بأن كلا الطرفين كان مجتهدًا مصيبًا، وأن أمر الله تعالى كان قدرًا مقدورًا.
وبصفة عامة لم يختلف أحد في أن عليًّا كان مصيبًا في اجتهاده بأنه يجب أن يُبايَع من المسلمين جميعًا، قبل قتل قتلة عثمان .
ومن خلال هذا كله نستطيع أن نقول:
إن الفئة الباغية لم تكن واضحة تمام الوضوح في ذلك الوقت في أعين الصحابة المشاركين في القتال، ولم يكن أحد يعلم يقينًا أي الطائفتين على الحق الكامل.
ربما نرى الأمور الآن واضحة، وأن الحقّ في صف علي بن أبي طالب وأن غالب الدولة الإسلامية كان معه ضد معاوية ولكن يجب أيضًا أن ننظر إلى وجهة نظر معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، والصحابة الأبرار جميعًا، والتابعين الذين كانوا في جيش معاوية فقد كانوا جميعًا معاصرين لعثمان بن عفان ، ويعرفون-كالمسلمين جميعًا- مكانته وفضله، وقدره، ومنزلته العالية في الإسلام، وأنه أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأن الرسولزوّجه ابنتيه الواحدة تلو الأخرى، فكان من الصعب على معاوية ومن معه من الصحابة جميعًا والتابعين، من الصعب على نفوسهم أن يروا هذا الصحابي العظيم، والشيخ الكبير الطاعن في السن أمير المؤمنين يُقتَل هذه القتلة البشعة على أيدي أُناس لا يحفظون حق الله عز وجل، ويريدون إشعال الفتن، وتقويض دعائم الدولة الإسلامية..
ومع هذا كله يرون هؤلاء القتلة الذين ارتكبوا هذه الجريمة البشعة يقاتلون في جيش علي بن أبي طالب ضدهم، فكان لهذا الأمر ألمًا كبيرًا، وجرحًا عظيمًا في نفوسهم، وإن كان عليهم أن يجاهدوا أنفسهم، ويطيعوا أمير المؤمنين، ويبايعوه أولاً؛ لتهدأ الفتن، ثم يحاكم هؤلاء القتلة بعد أن تستقر له الأمور، ويمسك بزمام الدولة، ويكون له من القوة والمنعة ما يستطيع به أن يحاسبهم دون أن تثور عليه قبائلهم الكبيرة وأقوامهم الغفيرة.
لكن كانت تلك وجهة نظر معاوية ، ومن معه، ويجب أن تُؤخذ في الاعتبار، ويُحكم عليهم من خلالها، وإن كان على المسلم-كما ذكرنا- أن يزن المضار والمنافع، فإذا وجد مضرّتين، ولا بد أن يختار إحداهما فعليه أن يختار أخف الضررين، وكان أخفّ الضررين أن يُؤجّل قتل قتلة عثمان إلى أن تستقر الدولة، وتهدأ الأمور، ثم يحاكمهم أمير المؤمنين.
وينبغي أن نذكر في هذا المجال أن الصحابة جميعًا لم يكونوا يصدرون آرائهم على عجل، وتسرّع، بل كانوا يجتهدون، ويستشيرون قبل تنفيذ ما يرونه من رأي، وإذا نظرنا إلى واقعنا وجدنا أننا نطلق الأحكام دون علم، بل ربما على علم ضال خاصة، في هذه القضية -قضية الفتنة الكبرى- التي التصق بها الكثير من الروايات الشيعية المكذوبة والباطلة، والروايات الأخرى التي روّجها المستشرقون والمستغربون، وقد درسناها نحن على أنها حقائق ثابتة، وهي في الواقع أباطيل كاذبة.
وكان عمر بن الخطاب يتعجب من أناس على عهده ويقول لهم: والله إنكم تقولون رأيًا في أمور كنا نجمع لها أهل بدر.
ويعلّق الإمام ابن تيمية تعليقًا لطيفًا على هذه الأحداث فيقول:
كان أمر الله قدرًا مقدورًا، ووقعت الفتنة، ولا يدري أحد أي خير وراء هذا الأمر، وهناك أمور من الفقه لم نكن لنعلمها لولا وقوع هذه الفتنة.
وربما كانت ستظل علامات استفهام لفترات طويلة أمام العلماء، ولكنها وضحت من خلال تعامل الصحابة مع معطيات الأحداث في تلك الفترة.
أولاً: لم نكن لنعرف الفرق بين البغاة، والمحاربين لولا وقوع هذه الأحداث العظيمة، ولم يكن هناك فئة حتى هذه اللحظة منذ بعثة رسول اللهينطبق عليهم لفظ البغاة، ومن ثَمّ لا يعرف أحد ما هو حكم البغاة، وهذا ما حدث بالفعل في جيش علي بن أبي طالب t، فقد اختلفوا فيمن يقاتلونهم، فأوضح لهم علي بن أبي طالب ومن معه من كبار الصحابة، كمستشاره الأول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أوضحوا للناس حكم البغاة.
نحن نريد أن نفرق بين البغاة، والمحاربين وذلك؛ لأن البغاة لفظ أخف كثيرًا وأسهل وأيسر من لفظ المحاربين، لأن المحاربين أعداء لله ورسوله، وسنفصل في أمرهم لاحقًا إن شاء الله.
من هم البغاة؟1- هم الخارجون عن طاعة الإمام العادل التي أوجبها الله تعالى على المؤمنين جميعًا لأولياء أمورهم في غير معصية، فلا يطلق اسم البغاة إلا على قوم خرجوا عن طاعة الإمام العادل الذي يحكم بما أنزل الله، وأمرهم بأمر ليس فيه معصية، فإن خرجوا عليه بعد هذا فقد تحقق فيهم أحد شروط البغاة، أما الحاكم الظالم الذي يأمر بالمعصية، فلا يسمى الخارجون عنه بغاة.
وفي أحداث الفتنة كان معاوية بن أبي سفيان يرى باجتهاده أن علي بن أبي طالب قد أمرهم بأمر فيه معصية، ولا يجب أن يطيعه في معصية، وهو أمر تأجيل قتل قتلة عثمان ، وكان معاوية يرى أن يُؤخذ القصاص من قتلة عثمان في العاجل؛ لأن معاوية هو ولي عثمان ، وهو ابن عمه، ولم يعف عن القتلة حتى يسقط القصاص، فكان يرى أن عليًّا قد عطّل حدًّا من حدود الله تعالى ومن ثم فلا طاعة له.
2 - أن يكون الخروج من جماعة قوية لها من الشوكة، والقوة ما يحتاج الحاكم معه إلى قوة وعتاد ومال لردّها، وليست مجرد فئة صغيرة ليس لها سلاح، وخرجت تعترض على الحاكم في أمر من الأمور فهؤلاء لا يُسمّون بغاة.
3- أن يكون لهم تأويلاً سائغًا وحجة واضحة مقبولة في خروجهم على الحاكم، وإن كانت حجّة الإمام أقوى، أما إن كانوا خارجين دون تأويل منازعة للإمام، ورغبة في الإمارة، وحرصًا على الدنيا، ويريدون السيطرة فقط، فهم حينئذ المحاربون.
4- أن يكون لهم أمير مطاع له في الكلمة والرأي ويسمعون له ويطيعون.
فهذه هي الشروط الأربعة التي يجب توافرها في أي فئة حتى يُقال عنهم أنهم بغاة.
وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب على قناعة تامة، وعلى يقين خالص أن معاوية ومن معه فئة باغية يجب محاربتها، وقد استوفت هذه الشروط الأربعة التي ذكرناها آنفًا.
وحكم البغاة في الشرع يختلف كليةً عن حكم المحاربين في الدنيا، والأمر موكول إلى الله تعالى، ويجب أن يكون واضحًا أن من يقاتل معتقدًا أنه يدافع عن حق، ويقيم حدًّا من حدود الله تعالى يختلف تمامًا عن من يقاتل رغبة في الدنيا، ومتاعها، وحرصًا على الرئاسة والوجاهة بين الناس.
أحكام البغاة في الإسلام: 1- أن مدبرهم في الحرب لا يقتل؛ وذلك لأنه مؤمن، والله عز وجل حين ذكر البغاة لم ينزع عنهم صفة الإيمان، بل قال عز وجل:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9].
2- جريحهم لا يُقتل، بل يُترك أو يُداوى.
3- لا يُقتل أسيرهم، بخلاف أسرى المحاربين، أو الكفار فيجوز قتلهم.
وقضية أسرى المحاربين، والكفار متروكة لإمام المسلمين، فإما أن يعفو عنهم منًّا بغير فداء، وإما أن يفديهم بمال، أو يفديهم بأسرى، أو بتعليم كما فعل النبيفي غزوة بدر، أو بأي فداء يقرره إمام المسلمين، وإما أن يقتلهم.
فإذا كان المسلمون في قوة ومنعة وسيطرة على أعدائهم فللإمام أن يطلق الأسرى منًّا بغير فداء، كما فعل الرسولمع أهل مكة وفي ذلك تأليف للقلوب، وأملاً في إسلامهم.
ويمكن تبادل الأسرى، أو فداؤهم بمال، وإذا كان لدى الجيش المعادي علمًا ليس عندك، فتستطيع أن تجعل فداء الأسرى أن يعلموا المسلمين العلم الذي ليس عندهم.
أما إذا كانت قوة المسلمين أضعف من قوة الجيش المعادي الذي يفوقهم في العدد والعدة، فيُقتل الأسير ليُرهب به عدو الله وعدو المسلمين، ولأنه ليس لدى المسلمين القدرة، أو الطاقة على حماية هؤلاء الأسرى، أو إطعامهم، أو السيطرة عليهم.
وإذا نظرنا مثلاً إلى جيشٍ كجيش خالد بن الوليد في معركة أُليس، كان قوام الجيش الإسلامي ثمانية عشر ألفًا من المسلمين، والجيش المقابل له مائة ألف, أسر منهم خالد بن الوليد سبعين ألفًا، فمن يحمي هؤلاء السبعين ألفًا، إن الجيش الإسلامي بكامله لا يستطيعون حمايتهم، أو السيطرة عليهم، بل إنهم يمثلون خطورة بالغة على المسلمين، ولا يتحقق استكمال الفتح إلا بقتلهم.
ومع هذا العدد الذي وصل إليه الجيش الإسلامي في قواته إلا أنه وكما نرى لدى الفرس من الأعداد ما لا يُحصى.
فقد قُتل من الفرس في معركة (الفراد) مائة ألف.
وفي (أُليس) سبعون ألفًا.
وفي (الأنبار) أكثر من عشرة الآف.
وفي (عين التمر) ثلاثون ألفًا.
وفي (دومة الجندل) خمسون ألفًا.
وفي (البويب) خمسون ألفًا...
وأعداد لا تنتهي من الفرس كلما قُتل منهم جيش جاء جيش آخر، فقد كانت قوة فارس هي والروم أكبر القوى على الأرض، وكانت حدود فارس من غرب العراق، حتى شرق الصين، وهي مساحة شاسعة جدًّا فلديهم أعداد كبيرة جدًّا من البشر، وكما نرى من الصعب جدًّا الاحتفاظ بالأسرى؛ لأنهم يشكلون خطرًا كبيرًا على الجيش المسلم، ومن ثَمّ أمر عمر بن الخطاب بقتلهم حتى يفتّ هذا القتل في عضد فارس، ويوفّر على المسلمين الطاقة التي ستُبذل في حمايتهم.
ومن هنا يجوز لولي الأمر أن يقتل أسرى المحاربين، إذا رأى مصلحة المسلمين في ذلك، ولا يكون قتلهم تشفيًا، أو حبًّا في القتل، وإنما هو قتل للمصلحة العامة للمسلمين.
أما أسرى البغاة فلا يجوز قتلهم، ولا تُعدّ أموالهم غنيمة، وهذا علي بن أبي طالب بعد موقعة الجمل، وقد أخذ المسلمون الذين كانوا مع علي بن أبي طالب أموالاً كثيرة من جيش السيدة عائشة رضي الله عنها، فأمر علي بوضعها في مسجد البصرة، وقال: من كانت له حاجة يعرفها فليأت فليأخذها.
ولم تُحتسب هذه الأشياء غنائم؛ لأن كلا الفريقين من المسلمين، فقال بعض الجيش الذي معه:
كيف نستحل أرواحهم ولا نستحلّ أموالهم؟!
ومع إصرار أهل الفتنة على رأيهم، قال لهم علي :
فلنقسّم الغنائم ففي سهم مَن تكون السيدة عائشة؟!
فبهتهم بهذا القول، فتركوه، وانصرفوا.
ولا يُضمّنون-أي البغاة- ما أتلفوا من مال، أو نفس أثناء القتال، وقتيلهم من المؤمنين يُغسّل، ويُكفّن، ويصلّى عليه، ويُدفن، وهذا فرق جوهري بين قتلى الفئة الباغية، ومن يقتل من الفئة العادلة، فقتلى الفئة العادلة شهداء لا يغسلون، ولا يُكفنون، ولا يُصلّى عليهم.
وهذه الأحكام كلها لم تعرف إلا بعد أحداث الفتنة.
أما المحاربون الذين خرجوا على الإمام دون أن يكون لهم تأويل صحيح ودون أن يكون لهم مسوغ يستندون إليه في خروجهم, فيكفي أن نقرأ قول الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:33،34].
إذن فللإمام في أمر المحاربين الذين قد قُدِر عليهم قبل توبتهم أحد أربعة أمور:
1- القتل.
2- الصلب.
3- أن يقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف.
4- أن ينفيهم من الأرض.
فهذا ردٌّ شديد وقاسٍ؛ لأن هؤلاء المحاربين إنما يحاربون الله ورسوله، ويسعون في الأرض فسادًا.
ولم يكن علي بن أبي طالب يرى أن معاوية بن أبي سفيان من المحاربين، بل كان يراه من البغاة، وفي أثناء القتال في صفين كان كل فريق مع حلول الليل يدخل معسكر الفريق الآخر دون أن يُصاب بأي أذى، ويأخذ قتلاه، وجرحاه، ولم يكن معاوية ، ومن معه يصلون على قتلاهم، بل كانوا يحتسبونهم-باجتهادهم- شهداء؛ لأنه كان على يقين أنه على الحق، وأن فريق علي هم البغاة.
| |
|
| |
التقييم : 3 نقاط : 360558 تاريخ التسجيل : 01/01/1970
| موضوع: رد: مقتل الخليفة عثمان بن عفان وبداية الفتنة ونتائجها الخميس مارس 07, 2013 10:35 pm | |
| بعد معركة صفين، والتي راح ضحيتها الكثير من القتلى والشهداء، والذين بلغ عددهم سبعين ألفًا من المسلمين على يد إخوانهم من المسلمين، وجد الصحابي الجليل سهل بن حنيف رضي الله عنه وأرضاه وهو أحد صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وجد أن في قلوب بعض الناس شيئًا من القتال الذي حدث بينهم، فبعض الناس مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ورغم قناعتهم بكونه أمير المؤمنين، وتجب البيعة له والطاعة التامة إلا أن في قلوبهم وأنفسهم حرج من قتلهم لإخوانهم من المسلمين، وكذلك من كان مع معاوية رضي الله عنه، فقال لهم سهل بن حنيف رضي الله عنه كلامًا في غاية الأهمية وينبغي أن ينتفع به المسلمون إلى يوم القيامة قال لهم:
يا أيها الناس اتّهموا الرأي على الدين.
فهو يقصد أن بعض الناس ربما يكون لهم من الرأي ما يخالف الشرع، وتظن أن هذا الرأي هو الصائب، وهو السليم، ويحاول أهل الشرع إقناعهم بالرأي السليم، لكنهم لا يقتنعون بسهولة، أو ربما لا يقتنعون مطلقًا، يقول: فلقد رأيتُني يوم أبي جندل.
يقصد رضي الله عنه يوم الحديبية، حين عقد الرسول صلى الله عليه وسلم الصلح مع كفار مكة، وكان من بنود هذا الصلح أن من أتى من قريش، أو ممَن حالفهم مسلمًا ردّه المسلمون إلى قومه، ومَن أتى من المسلمين إلى قريش مرتدًا لا يردّوه إلى قومه، بل يقبلوه بينهم، فكان هذا شرطًا جائرًا، في نظر أغلب الصحابة، إذ كيف يعطون الدنية في دينهم، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان الكثير منهم يعتقد أن الصواب في غير ذلك، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم متمسكًا بهذا الأمر، وكان هذا وحيًا من الله تعالى له صلى الله عليه وسلم، واضطر المسلمون، مع عدم قناعتهم بهذا الرأي في قبول هذا الشرط المجحف- إلى الطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والقبول بما رضي به صلى الله عليه وسلم، واشتد على المسلمين يوم آخر، والذي يسميه سهل بن حنيف رضي الله عنه يوم أبي جندل، فبعد أن عُقد الصلح وتمّ، وكان الذي باشر عقد هذا الصلح من طرف المشركين حينئذ سهيل بن عمرو، والذي أسلم بعد ذلك، فجاء أحد المشركين، وأراد أن يدخل في الإسلام، وكان اسمه أبا جندل، وهو ابن سهيل بن عمرو، فقال سهيل بن عمرو: هذا أول ما نبدأ به، ردّوه علينا.
فأعاده الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن أعلن إسلامه إلى الكفار، فقال أبو جندل: يا رسول الله تردني إليهم يفتنوني في ديني؟!
وكان هذا الأمر صعبًا على المسلمين جميعًا من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ سيفه، وأعطاه لأبي جندل وقال له: إنما أنت رجل وهو رجل.
يحرّضه على قتل أبيه.
ومع هذا كله كانت تلك الشروط، وهذه الأمور سببًا للفتح العظيم للمسلمين، فبعد صلح الحديبية بعام واحد دخل في الإسلام أعداد كبيرة كانت ضعف العدد الذي دخل في الإسلام قبل ذلك، وتضاعفت أعداد المسلمين بعد ذلك.
فيقول سهل بن حنيف رضي الله عنه:
يا أيها الناس اتّهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتُني يوم أبي جندل، ولو أقدر لرددت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمره، ووالله ما حملنا سيوفنا على عواتقنا منذ أسلمنا لأمر يقطعنا إلا أسهل بنا إلى أمرٍ نعرفه، غير أمرنا هذا فإننا لا نسد منه خصمًا، إلا انفتح لنا غيره لا ندري كيف نبالي له.
فهذا سهل بن حنيف رضي الله عنه مع كل هذا التاريخ العظيم في الإسلام يخبر رضي الله عنه أنه منذ أسلم ما رفع سيفه لقتال إلا أوضح الله له أين الحق إلا هذا الأمر، فلم يتبين فيه الحق بوضوح، وكلٌّ يجتهد حسب ما يرى من الأمور، فكانت فتنة النائم فيها خير من اليقظان، واليقظان فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الساعي، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة.
وهذا عمار بن ياسر رضي الله عنه سُئل يوم صفين عن القتال: أهذا عهدٌ عهده رسول الله إليكم أم هو الرأي؟
فقال رضي الله عنه: لم يعهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا هذا وأشار إلى القرآن.
فالقضية كلها تدخل في مجال الاجتهاد، فمن الصحابة رضي الله عنهم جميعًا من اجتهد فأصاب، فله أجران كعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومن معه، ومنهم من اجتهد فأخطأ كمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، ومن معه..
وهؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم جميعًا، قد توفي الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ.
[size=21]التحكيم استمرّ القتال على أشدّه طوال الليل، وبدأت الكفّة ترجح بشدة لصالح الجيش العراقي، وبدأت الهزيمة تدبّ في جيش معاوية، وكان النصر وشيكًا لجيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
في هذه اللحظات أشار عمرو بن العاص رضي الله عنه على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه برأي ينقذ به جيش الشام من الهلكة المحققة له علي أيدي الجيش العراقي، وهم حتى هذه اللحظة على يقين أنهم على الحق، وأنهم يجاهدون في سبيل الحق، وأنهم يجب أن يستمروا في مواجهة من آوى قتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقال عمرو بن العاص لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما:
إني قد رأيت أمرًا لا يزيدنا هذه الساعة إلا اجتماعًا، ولا يزيدهم إلا فرقة، أرى أن نرفع المصاحف، وندعوهم إليها، فإن أجابوا كلهم إلى ذلك برد القتال، وإن اختلفوا فيما بينهم فمِن قائل: نجيبهم. وقائل: لا نجيبهم.
فإذا فعلوا ذلك، فشلوا وذهب ريحهم.
فأُعجب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بهذا الرأي ونادى على بعض أفراد الجيش، وأمرهم برفع المصاحف، فرفعوها وقالوا:
يا أهل العراق، هذا بيننا وبينكم، قد فني الناس، فمن للثغور؟ ومن لجهاد المشركين والكفار؟
وعندها سمع جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه وافق غالب الجيش بمن فيهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه على التحكيم، لكن اعترض قلّة من الجيش على أمر التحكيم، ولم يكن لهم صوتٌ عالٍ في هذا التوقيت، لكن عموم الفريقين اتفقوا على هذا الأمر.
وبدأ كل فريق يختار من يخرج لهذ المهمة، ولم يكن في جيش معاوية رضي الله عنه أي اختلاف على من يتولّى أمر التحكيم، فاختاروا عمرو بن العاص رضي الله عنه، والذي كان بمثابة الوزير الأول لمعاوية رضي الله عنه في كل هذه الأحداث، وكان عمره رضي الله عنه في هذا التوقيت سبعة وثمانين سنة، فكان شيخًا كبيرًا من شيوخ صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو رضي الله عنه، إن كان قد اشتهر بشدة الذكاء، والحيلة فقد اشتهر أيضًا بالورع والتقوى، وكان رضي الله عنه كثير المحاسبة لنفسه، وهذا الأمر يخفيه الكثير من الكتاب المغرضين، ويظهرون عمرو بن العاص رضي الله عنه في صورة صاحب المكر، والخداع، والدهاء، ويكفيه فخرًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عنه: أَسْلَمَ النَّاسُ وَآمَنَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ.
وفي الحديث الصحيح أيضًا: عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مِنْ صَالِحِي قُرَيْشٍ. صححهما الألباني.
أما جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه فلما عُرض عليهم أن يخرج للتحكيم عبد الله بن عباس رفض القوم، وطالبوا بأن يخرج عنهم أبو موسى الأشعري، وذلك لأنه رفض الدخول في القتال من بداية الأمر مع يقينه أن عليًا رضي الله عنه على الاجتهاد، وكان رضي الله عنه قاضيًا للكوفة، واعتزل القتال، ولم يكرهه علي بن أبي طالب رضي الله عنه على الخروج معه، وكان أبو موسي رضي الله عنه رجلًا تقيًا ورعًا فقيهًا عالمًا، وقد أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليمن مع معاذ بن جبل رضي الله عنهم جميعًا لتعليم الناس أمور الإسلام، وكان مقربًا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وولّاه أمر البصرة، وكان هذا أمرًا عظيمًا ذلك؛ لأن البصرة كانت تدير عمليات الفتوح في جنوب ووسط فارس، وظل رضي الله عنه فيها فترة كبيرة، وكان رضي الله عنه قائدًا لمعركة (تستر) الشهيرة التي حوصرت سنة ونصف، فهو رجل فقيه عالم قاض محنّك، غير ما أُشيع في الكتب من سذاجة، وبساطة، وسوء رأي نُسبَ إليه ليلصقوا به ما زعموه من كذب وزور في قضية التحكيم، وهو من هذا كله براء.
وتولّى رضي الله عنه في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه ولاية الكوفة فترة طويلة، وكذلك في عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ذهب إليه القوم في قريته التي كان معتزلًا فيه وقالوا له: إن الناس قد اصطلحوا.
فقال: الحمد لله.
فقالوا له: وقد جُعلت حكمًا.
فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون.
وذلك لأن هذا الأمر أمر صعب، وشاق عسير أن يحكم بين طائفتين اقتتلا هذا القتال الشديد فترة كبيرة، ووافق رضي الله عنه على الذهاب معهم، حتى يتم التحكيم في هذه القضية الشائكة.
والتقى أبو موسى الأشعري، وعمرو بن العاص رضي الله عنهما في مكان (صفين)، وبدآ يفكران في كيفية إيجاد حلٍ لهذه المعضلة التي ألمّت بالمسلمين، فاتفقا ابتداءً على كتابة كتابٍ مبدئي يضع أسس التحكيم، ولن يكون هو الكتاب النهائي.
فبدأ أبو موسى يملِى الكتاب وعمرو بن العاص يسمع:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما قاضي عليه علي بن أبي طالب أمير المؤمنين.
فقاطعه عمرو بن العاص قائلًا: اكتب اسمه، واسم أبيه، هو أميركم، وليس بأميرنا.
فقال الأحنف بن قيس: لا نكتب إلا أمير المؤمنين.
فذهبوا إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذكروا ذلك له، فقال رضي الله عنه: امح أمير المؤمنين، واكتب: هذا ما قاضى عليه علي بن أبي طالب.
وعمرو بن العاص رضي الله عنه باجتهاده مقتنع بعدم ولاية علي بن أبي طالب رضي الله عنه للمؤمنين، وإلا ما قاتله، وكان ذلك خروجًا منه على طاعته، ولكن لم يبايعه، وكذلك أهل الشام، وفي اجتهاده أنه ليس أميرًا للمؤمنين.
وقبل علي بن أبي طالب رضي الله عنه بهذا الأمر؛ حرصًا على جمع الكلمة، ووحدة الصف، وسعة صدرٍ منه رضي الله عنه وأرضاه.
فكتبوا: هذا ما تقاضي عليه علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان أننا نزل عند حكم الله، وكتابه، ونحيي ما أحيا الله، ونميت ما أمات الله، فما وجد الحكمان في كتاب الله عملا به، وما لم يجدا في كتاب الله، فالسنة العادلة الجامعة غير المتفرقة.
ثم ذهب كل من الحكمين إلى كل فريق على حدة، وأخذا منهما العهود والمواثيق أنهما أي الحكمان آمنان على أنفسهما، وعلى أهليهما، وأن الأمة كلها عونٌ لهما على ما يريان، وأن على الجميع أن يطيع على ما في هذه الصحيفة.
فأعطاهم القوم العهود والمواثيق على ذلك، فجلسا سويًا، واتفقا على أنهما يجلسان للحكم في رمضان من نفس العام، وكان حينئذ في شهر صفر سنة 37 هـ، وذلك حتى تهدأ نفوس الفريقين ويستطيع كل فريق أن يتقبل الحكم أيًا كان.
وشهد هذا الاجتماع عشرة من كل فريق، وممن شهد هذا الاجتماع عبد الله بن عباس، وأبو الأعور السلمي، وحبيب بن مسلمة، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد.
وخرج الأشعث بن قيس، والأحنف بن قيس رضي الله عنهما، وهما من فريق علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقرأ الأشعث بن قيس الكتاب على الفريقين، فوافق الجميع على هذا الأمر، وبدءوا في دفن الشهداء، والقتلى.
ويقول الزهري: كان يُدفن في كل قبر خمسون نفسًا لكثرة عدد القتلى والشهداء.
وبعد ذك بدأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه يتوجه بجيشه إلى الكوفة، وكان في يده بعض الأسرى من الشاميين فأطلقهم، وكذلك فعل معاوية رضي الله عنه وأرضاه حيث كان في يده بعض الأسرى من العراقيين فأطلقهم، وعاد كلٌّ إلى بلده.
تحكيم الرجال في دين الله كان الأشعث بن قيس رضي الله عنه عندما قرأ الكتاب على جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه مرّ على فريق من بني تميم، وبعد أن قرأ الكتاب خرج له رجل يُسمّى عروة بن جرير من بني ربيعة من تميم، وقال للأشعث بن قيس رضي الله عنه: أتحكمون في دين الله الرجال؟!
فكان هذا الرجل يرى أن حكم الله واضح تمام الوضوح وأنه يجب أن يُقاتل فريق معاوية رضي الله عنه حتى النهاية، ويستنكر تحكيم عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري في أمرٍ واضح كهذا، ثم ضرب بسيفه عجز دابة الأشعث بن قيس، فغضب الأشعث بن قيس رضي الله عنه من هذا التصرف، وكاد أن يحدث الشقاق والخلاف، لولا أن تدخل الأحنف بن قيس وكبار القوم وأنهوا الأمر.
ومرّ الموقف في تلك اللحظة، لكن طائفة من جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه أخذت هذه الكلمة، وبدأت تتحدث بها وظنّتها صوابًا، وكان الكثير ممن ردد هذا الأمر من حفاظ القرآن الكريم، وشديدي الورع والتقوى، وممن يكثرون الصلاة بالليل والنوافل، فأخذوا هذه الكلمة وقالوا: أتحكمون في دين الله الرجال؟
وغضبوا لأمر التحكيم وقالوا: لا حكم إلا لله.
واستمرّ مسير علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حتى وصل الكوفة، فسمع رجلًا يقول: ذهب علي ورجع في غير شيء.
وفي هذا لوم له رضي الله عنه على أمر التحكيم.
فقال علي رضي الله عنه: لَلَذين فارقناهم خير من هؤلاء، ثم أنشأ يقول:
أَخُوكَ الَّذِي إِنْ أَحْرَجَتْكَ مُلِمَّةٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَبْرَحْ لِبَثِّكَ رَاحِمًا
وَلَيْسَ أَخُوكَ بِالَّذِي إِنْ تَشَعَبَتْ عَلَيْكَ أُمُورٌ ظَلَّ يَلْحَاكَ لَائِمًا
كلمة حق أريد بها باطل عند وصول علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى الكوفة، كان عدد من يقول بهذه الكلمة: لا نحكّم الرجال في دين الله، ولا حكم إلا لله.
وصل عددهم إلى اثني عشر ألف رجل، فكان شيئًا صعبًا عليه رضي الله عنه، وكان من بين هذا العدد ثمانية آلاف يحفظون القرآن، وهؤلاء الحفظة كانوا طائفة في جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه يُقال لهم: القرّاء؛ لأنهم كانوا يكثرون من قراءة القرآن الكريم، ومن القيام والصيام، وكان أكثر من خرجوا مع هذه الطائفة من قرية تُسمّى (حروراء) وهم الذين عُرفوا في التاريخ بعد ذلك باسم الخوارج؛ لأنهم خرجوا عن طاعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وقد تنبّأ بهذه الطائفة الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم، وهذا من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، فعند الإمام مسلم بسنده عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عِنْدَ فُرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَقْتُلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ.
وعند البخاري بسنده عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه،ُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَخْرُجُ نَاسٌ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ فِيهِ حَتَّى يَعُودَ السَّهْمُ إِلَى فُوقِهِ.
قِيلَ: مَا سِيمَاهُمْ؟
قَالَ: سِيمَاهُمْ التَّحْلِيقُ.
أَوْ قَالَ: التَّسْبِيدُ.
وفي البخاري ومسلم قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا، فَوَاللَّهِ لَأَنْ أَخِرَّ مِنْ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكْذِبَ عَلَيْهِ، وَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فَإِنَّ الْحَرْبَ خِدْعَةٌ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، لَا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ،َ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ، فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
والأحاديث في شأنهم كثيرة.
بعد ذلك ذهب إليهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه ليحاورهم، ويجادلهم، ويردّهم بالتي هي أحسن فقال لهم: ماذا تأخذون علينا؟
فقالوا: انسلخت من اسم سماك الله به - يقصدون اسم أمير المؤمنين - ثم انطلقت، فحكّمت الرجال في دين الله، ولا حكم إلا لله.
بداية اسم أمير المؤمنين هذا لم يسمّه الله تعالى به، وكان أول من سُمّي بهذا الاسم هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكان اعتراضهم أنه قَبِل أن يُقال من علي بن أبي طالب في أثناء كتابة صحيفة التحكيم، دون ذكر أمير المؤمنين، واعتراضهم الثاني على قبوله تحكيم الرجال في أمر الله تعالى، وأنه كان يجب أن يستمرّ القتال؛ لأن هذا هو أمر الله، ولا يصح على الإطلاق أن يقف القتال بناءً على رأي الحكمين.
فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لا يدخل علي إلا من حمل القرآن.
فدخل عليه ثمانية آلاف، فأمسك بالمصحف، وأخذ يهزّه، فقالوا له: ماذا تفعل؟
فقال: إني أسأله.
فقالوا له: إنما هو مداد في ورق.
وعلي رضي الله عنه يشير بهذا الفعل إلى أن القرآن لن يقوم بذاته في فعل الأمور، ويقرر الأحكام، وينفذها، بل يقوم بذلك رجال قرءوا القرآن، واستوعبوه جيدًا، وبنوا آرائهم على حكمه.
وقال لهم علي رضي الله عنه:
قال الله تعالى في كتابه في امراة ورجل: ]وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا] {النساء:35}.
ثم قال لهم رضي الله عنه: فأمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من رجل وامرأة.
ثم قال لهم: أتنقمون عَلَيَّ أن محوت أمير المؤمنين، وكتبت علي بن أبي طالب، فإنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءنا سهيل بن عمرو حين صالح قومه قريشًا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب.
فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا باسم الله الرحمن الرحيم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ.
ثم قال: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ.
فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَاللَّهِ إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ، وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي، اكْتُبْ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ.
فقد رأى الرسول صلى الله عليه وسلم أن الأنسب في هذا الوقت أن يتم الصلح، وإذا لم يتم الصلح إلا بهذا الأمر فلا بأس، وكذلك فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ثم قال علي رضي الله عنه:
ويقول الله تعالى في كتابه: ]لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا] {الأحزاب:21}.
ومع هذا كله لم يرتدع القوم، ولم يرتدوا عن ما هم عليه، فأرسل لهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه حبرَ الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، والذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ.
ومن علماء المسلمين، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستشيره في الملمات، وهي الأمور الصعبة العسيرة، وذهب رضي الله عنه إلى القوم ليحاجهم، فلما دخل عليهم، وكان يرتدي حُلّة جديدة، فناظروه فيها، وقالوا له: ترتدي حلة عظيمة وجديدة؟!
فقال لهم: ]قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ] {الأعراف:32}. فقام رجل منهم يُسمّى ابن الكوى، وهو متحدث فصيح، وقال: يا حملة القرآن، هذا عبد الله بن عباس، فمن لم يكن يعرفه، فأنا أعرفه؛ هو ممن يخاصم في كتاب الله بما لا يعرف، وهو ممن نزل فيه، وفي قومه قوله تعالى: ]بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ] {الزُّخرف:58} فرُدّوهُ إلى صاحبكم، ولا تواضعوه كتاب الله.
فقال بعضهم: والله لنواضعنه، فإن جاء بحقٍ نعرفه تبعناه، وإن جاء بباطل لنكبتنّه بباطله.
فمكث فيهم عبد الله بن عباس رضي الله عنه وأرضاه ثلاثة أيام، يجادلهم ويجادلونه، ويحاورهم ويحاورنه.
وبعد جدال وحوار طويل وعميق قالوا: إنهم يأخذون على علي بن أبي طالب ثلاث نقاط.
1- أنه محا اسمه من الإمرة.
2- أنه حكّم الرجال في كتاب الله.
3- أنه يوم الجمل بعد أن استحلّ الأنفس، ورفض أن يوزع السبي والأموال.
أجاب عبد الله بن عباس رضي الله عنه عن الأولى بما أجاب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأجاب عن الثانية، وهي قولهم أنه حكّم الرجال في كتاب الله بآيتين من القرآن، وقال لهم: إن ذلك في القرآن.
فقالوا: وأين هو؟
قال الآية الأولى التي استشهد بها الإمام علي رضي الله عنه: ]وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا] {النساء:35}.
والآية الثانية قول الله تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ] {المائدة:95}.
فلم يقرر الله عز وجل المقدار الذي يضحي به الرجل نظير قتله للصيد، وهو حُرُم، ولكنه ترك الأمر ليحكم به ذوو العدل من المسلمين، ويقررون الحكم لهذا الرجل.
وأجاب رضي الله عن النقطة الثالثة وهي قضية: أنه يوم الجمل بعد أن استحلّ الأنفس رفض أن يوزع السبي والأموال.
فقال عبد الله بن عباس رضي الله عنه مجاراةً لهم: قد كان من السبي أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فإن قلتم أنها ليست بأم لكم فقد كفرتم، وإن استحللتم سبي أمهاتكم فقد كفرتم.
فلما دار هذا الحوار بين عبد الله بن عباس رضي الله عنه وبينهم على مدار ثلاثة أيام، رجع منهم أربعة آلاف، وتابوا على يديه، وكان منهم ابن الكوى هذا الرجل الذي ذكرناه قبل ذلك، وكان يحذّرهم من عبد الله بن عباس رضي الله عنه، ولكن الله هداه وتاب عليه، وعاد من تاب معه إلى الكوفة، فكانوا مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه...
أما الباقون الذين عاندوا ولم يرجعوا عن ما هم عليه فقد ظلوا يترددون على الكوفة، ويتردد عليهم رسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه لإقناعهم، ولكن دون جدوى، ومع مرور الوقت، وقرب عقد المجلس الذي سوف يتم فيه التحكيم، بدأ هؤلاء يتعرضون لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه بما لا يليق، وخرجوا عن دائرة النقاش المهذب، وبدءوا بالسباب، والشتائم، وعلي رضي الله عنه يصبر عليهم، ويردّ عليهم بالتي هي أحسن تجنبًا للفتن، واستمرّ الوضع هكذا يزداد يومًا بعد يوم، حتى قام له رجل منهم، وهو يخطب فقال له: يا علي أشركت الرجال في دين الله، ولا حكم إلا لله.
وتنادوا من كل جانب: لا حكم إلا لله.
فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: هذه كلمة حق أًريد بها باطل.
ثم قال: إن لكم علينا ألا نمنعكم فيئًا ما دامت أيديكم معنا، وألا نمنعكم مساجد الله، وألا نبدأكم بقتال حتى تبدءونا.
ثم بدءوا يعرّضون بتكفير علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقابله رجلٌ منهم يومًا وقال له: يا علي لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين.
فجعلوا أن تحكيم أبي موسى وعمرو بن العاص رضي الله عنهما في هذه القضية إشراكًا بالله.
فقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه قول الله تعالى: ]فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ] {الرُّوم:60}.
ثم اعتزل هؤلاء القوم الكوفة بالكلية، ولجئوا إلى مكان يُسمّى النهروان، ومكثوا فيه، ولم يدخلوا الكوفة بعد ذلك، فلما رأي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن أمرهم بدأ يزيد، ويشكل خطورة على المسلمين بعث إليهم يقول لهم: قد كان من أمرنا وأمر الناس ما قد رأيتم، فقفوا حيث شئتم حتى تجتمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وبيننا وبينكم ألا تسفكوا دمًا حرامًا، أو تقطعوا سبيلًا أو تظلموا ذميًّا - يهوديًا أو نصرانيًا - فإنكم إن فعلتم فقد نبذنا إليكم الحرب على سواء، إن الله لا يحب الخائنين.
ومكث الخوارج في النهروان بعيدًا عن الكوفة، وفي هذا التوقيت كان جيش الشام مستقرًا دون خلاف مع معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه.
وجاء شهر رمضان سنة 37 هـ، فأرسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى دومة الجندل أربعمائة فارس، معهم أبو موسى الأشعري، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وأمّر عبد الله بن عباس على الصلاة.
وأرسل معاوية رضي الله عنه أربعمائة فارس إلى أرض دومة الجندل معهم عمرو بن العاص رضي الله عنه، وكان معهم من رءوس الناس عبد الله بن الزبير بن العوام رضي الله عنهما، والمغيرة بن شعبة رضي الله عنه، وكان معهم أيضًا عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما، ولم يكن مع معاوية في القتال، ولكنه كان ممن اعتزل الفتنة، وإن كان يرى أن عليًا رضي الله عنه على الحق، وإنما كان حينئذٍ في الشام، فجاء مع الوفد الذي أرسله معاوية رضي الله عنه للتحكيم.
وقد تمّ اختيار دومة الجندل للتحكيم لأنها تقع في مسافة متوسطة بين الكوفة، والشام فهي على بعد تسع مراحل من كلٍ منهما.
وفي غالب الأمر لم يحضر سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه هذا الاجتماع.
الحقيقة الغائبة في أمر التحكيم من الأمور المحزنة التي يندى لها الجبين أن الذي اشتهر في أمر التحكيم تلك الرواية الشيعية الموضوعة المكذوبة المفتراة التي عمّت بها البلوى، وقد انتشرت تلك الرواية انتشارًا كبيرًا بعد انتهاء عصر الدولة الأموية، واشتداد شوكة الشيعة في عصر الدولة العباسية، بل ظلت هذه الرواية هي المنتشرة في كتبنا حتى الوقت المعاصر.
هذه الرواية الشيعية في هذا الأمر وضعها أبو مخنف لوط بن يحيى، والذي قال عنه الإمام ابن حجر العسقلاني: لوط بن يحيى أبو مخنف إخباري تالف لا يوثق به. وقال عنه الدارقطني: ضعيف. وقال عنه يحيى بن معين: ليس بثقة. وقال مرة: ليس بشيء. وقال ابن عدي: شيعي محترق.
تقول الرواية: عن أبي مخنف أن عمرو بن العاص قال: إن هذا الأمر لا يصلحه إلا رجل له ضرس يأكل ويطعم، وكان ابن عمر فيه غفلة؛ فقال له ابن الزبير: افطن وانتبه. أي قل شيئًا حتى تأخذ الإمارة، فقال ابن عمر: لا والله لا أرشوا عليها شيئًا أبدًا. أي أنه أبى الإمارة.
فقال أبو موسى الأشعري: يا ابن العاص إن العرب قد أسندت إليك أمرها بعد ما تقارعت بالسيوف، وتشاكت بالرماح، فلا تردنّهم في فتنة مثلها، أو أشد منها.
ويكمل أبو مخنّف كذبه فيقول:
ثم إن عمرو بن العاص حاور أبا موسى أن يقرّ معاوية وحده على الناس، فأبى عليه، ثم حاوره ليكون ابنه عبد الله بن عمرو، هو الخليفة فأبى أيضًا، وطلب أبو موسى من عمرو أن يكون عبد الله بن عمر، هو الخليفة فامتنع عمرو أيضًا، ثم اصطلحا على أن يخلعا معاوية، وعليًا ويتركا الأمر شورى بين الناس يتفقوا على من يختارونه لأنفسهم، ثم جاء إلى المجمع الذي فيه الناس، وكان عمرو بن العاص لا يتقدم بين يدي أبي موسى، بل يقدّمه في كلّ الأمور أدبًا وإجلالًا.
فقال له: يا أبا موسى قمْ فأعلم الناس بما اتفقنا عليه، فخطب أبو موسى الناس، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم صلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال:
أيها الناس، إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة، فلم نر أمرًا أصلح لها، ولا ألم لشعثها من رأي اتفقت أنا وعمرو عليه، وهو أن نخلع عليًا ومعاوية، ونترك الأمر شورى، وتستقبل الأمة هذا الأمر، فيولى عليهم من أحبوه، وإني قد خلعت عليًا، ومعاوية ثم تنحى.
وهناك روايات أكثر كذبًا تقول أنه قال: خلعته كما أخلع خاتمي من إصبعي، أو سيفي من عاتقي.
وجاء عمرو بن العاص فقام مقامه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
إن هذا- يقصد أبا موسى الأشعري- قد قال ما سمعتم، وإنه قد خلع صاحبه، وإني قد خلعته كما خلعه، وأثبتُّ معاوية بن أبي سفيان، فإنه ولي عثمان بن عفان، والطالب بدمه، وهو أحق الناس بمقامه.
وتكمل الرواية الشيعية الكاذبة:
فلما حدث هذا وثب شريح بن هانئ من جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه فضربه بالسوط، فقام إليه ابنُ عمرو بن العاص، وضربه بالسوط، وتفرّق الناس في كل وجه إلى بلادهم.
فذكر أبو مخنف عن أبي حباب الكلبي أن عليًا لما بلغه ما فعل عمرو بن العاص كان يلعن في قنوته معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وأبا الأعور السلمي، وحبيب بن مسلمة، والضحاك بن قيس، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، والوليد بن عقبة، فلما بلغ ذلك معاوية كان يلعن في قنوته عليًا، وحسنًا، وحسينًا، وعبد الله بن عباس، والأشتر النخعي.
وهذا كله كذب، وافتراء من أبي مخنف على صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول ابن كثير في البداية والنهاية: ولا يصح هذا.
هذه الرواية غير موافقةٍ للنقل، وغير موافقة للعقل.
أما النقل أو علم الرجال فيقول:
إن لوط بن يحيى هذا شيعي كاذب ضال يضع الأحاديث والروايات، ويفتري على الصحابة ما لم يحدث، فكل ما يأتي من قبله إن لم يوافق الحق، فهو كذب، وباطل.
أما أن هذه الرواية غير موافقة للعقل، فإن سياق الكلام لا يستقيم، لأن الحكمين كما جاء في تلك الرواية، اتفقا على خلع علي ومعاوية.
فمن أي شيءٍ يُخلَع معاوية، وهو رضي الله عنه لم يَدّع أنه خليفة للمسلمين، ولم يدّع أنه أمير المؤمنين، ولم يكن القتال على إمرة، ولم يقل أحد من الطرفين أن معاوية رضي الله عنه في هذا الوقت أمير المؤمنين.
الأمر الثاني: سياق القصة يؤكد كذب عمرو بن العاص رضي الله عنه، ولا يُعدّ هذا خداعَ حربٍ، بل هو كذبٌ بيّن، ولا يصح هذا في حق عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، فقد يُتهم المؤمن بالجبن، وبالبخل، أما الكذب فلا، وخاصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شهد له بالإيمان فقال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: أَسْلَمَ النَّاسُ وَآمَنَ عَمرُو بْنُ الْعَاصِ.
فلا يصح على الإطلاق أن نقول عن رجل شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالإيمان أنه كاذب كما في هذه الرواية.
الأمر الثالث: أن المسلمين ليسوا في منتهى البلاهة، والعجز حتى تنطوي عليهم هذه اللعبة الصبيانة المزعومة من عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، وهو منها براء، ولو صح لوقف أبو موسى الأشعري وقال:
إن هذا الكلام كذب حتى لا يتم الاتفاق.
الأمر الرابع: اتفق الجميع على أن هذا الأمر الذي تمّ بين الحكمين كان مشهودًا من مجموعة من رءوس الناس، وأعيانهم منهم عبد الله بن عمر، و عبد الله بن العباس، وعبد الله بن الزبير، والمغيرة بن شعبة، والأحنف بن قيس، وهؤلاء جميعًا من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، فأين هم إذن بعد أن قام عمرو بن العاص- كما يزعم الكذابون- وقال ما ينسبونه إليه.
بين الحَكَمَيْن بعد مشاورات كثيرة، ومحاورات، واختلاف في الرأي على أساس القضية، فكان أبو موسى الأشعري يؤيد علي بن أبي طالب رضي الله عنه في أنه تجب له البيعة من معاوية، ومن معه، وبعد أن تستقر الأمور يُؤخذ الثأر من قتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه، ولكن عمرو بن العاص طالب بقتلهم أولًا، أو تسليمهم إليهم ليقتلوهم، وبعدها يبايعون، فلما تحدثا في هذا الأمر كثيرًا، ولم يصلا إلى شيءٍ، اتفقا على يُترك أمر تحديد الخلافة إلى مجموعة من الصحابة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ، وهم أعيان وكبار الصحابة، وفيهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ لأنه من السابقين الأولين، ولا يكون فيهم معاوية بن أبي سفيان، ولا عمرو بن العاص رضي الله عنهما؛ لأنهما ليسا من السابقين، ويُستعان برأيهما إن رأى القوم أن يستعينوا برأيهما، وإن لم يروا فلا يستعينوا برأيهما.
واتفقوا بحضور الشهود على أن يكون هذا الاجتماع في العام المقبل في دومة الجندل، وذلك بعد أن يذهب هؤلاء الأعيان، ويتباحثون في الأمر ويرون الأولى به، وقد يكون الأولى به علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو الأقرب إلى الاحتمال، خاصة، وأن هذه المجموعة هي التي اختارت عليًا رضي الله عنه ابتداءً، وليس عندهم اعتراض على شخصيته، ولكن عمرو بن العاص رأى أنه ربما تغيّرت الآراء بعد ما جرى من أحداث.
وإلى أن يحين موعد هذا الاجتماع يحكم كلٌ من علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ما تحت يده في الدولة الإسلامية، وبعد تعيين الخليفة الجديد على الجميع أن يطيع الخليفة الجديد سواءً رأى قتل قتلة عثمان أولًا أو رأى تأخير ذلك.
ومن الواضح أن الحكم في ظاهره لصالح علي بن أبي طالب رضي الله عنه، خاصة وأن معاوية وعمرو بن العاص قد خرجا من الأمر تمامًا، ولم يكن لهما رأي في اختيار الخليفة الجديد.
وتفرق المسلمون على هذا الأمر، وهم راضون تمامًا حتى يجتمع كبار الصحابة لتحديد الخليفة، ولما وصل الأمر إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه رضي به، وكذلك عندما وصل إلى معاوية رضي الله عنه.
لكن الرواية الشيعية الكاذبة تقول: إن عليًا لما بلغه هذا الأمر غضب، وجهّز الجيوش لمحاربة معاوية ومن معه، وهذا ما لم يحدث على الإطلاق. [/size] | |
|
| |
التقييم : 3 نقاط : 360558 تاريخ التسجيل : 01/01/1970
| موضوع: رد: مقتل الخليفة عثمان بن عفان وبداية الفتنة ونتائجها الخميس مارس 07, 2013 10:38 pm | |
| بعد أن تم أمر التحكيم اشتد أمر الخوارج، وأرسلوا رجلين منهم فقالا له: يا علي لا حكم إلا لله.
فقال: نعم، لا حكم إلا لله.
وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه قبل ذلك: إن هذه كلمة حق أُريد بها باطل، فالخوارج يؤولونها على غير ما يراد بها.
فقال له هذان الرجلان من الخوارج: تب من خطيئتك، واذهب بنا إليهم نقاتلهم حتى نلقى ربنا.
فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: قد كتبنا بيننا وبين القوم عهودًا، وقد قال الله تعالى: ]وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ ] {النحل:91} .
فقال أحدهما: أما والله يا علي لئن لم تدع تحكيم الرجال في كتاب الله، لأقاتلنك، أطلب بذلك رحمة الله ورضوانه.
فقال علي رضي الله عنه: تبًا لك، ما أشقاك، كأني بك قتيلًا تسفي عليك الريح.
فقال الرجل: وددت أن قد كان ذلك.
فقال علي: إنك لو كنت محقًا كان في الموت تعزية لك عن الدنيا، ولكن الشيطان استهواكم.
فخرجا من عنده يحرّضان الناس تحريضًا على الخروج على علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وأعلنوا صراحة تكفيرهم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وتكفيرهم لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وعمرو بن العاص، وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهم جميعًا، وكفّروا كل من رضي بالتحكيم،
ومن كفر وجب قتله، لأنه أصبح مرتدًا، وبهذا استباحوا دماء من رضي بالتحكيم، واجتمعوا في بيت عبد الله بن وهب الراسبي، وهو أحد زعمائهم، فخطبهم خطبة بليغة زهّدهم في الدنيا، ورغبهم في الآخرة والجنة، وحثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم قال لهم:
فاخرجوا بنا من هذه القرية الظالم أهلها إلى جانب هذا السواد.
[size=21]الخوارج ويوم النهروان اجتمعوا هؤلاء جميعًا في مكان يُسمّى النهروان، وبدءوا يدعون من على شاكلتهم من الطوائف الأخرى، وقالوا: يجب أن نخرج منكرين لهذا التحكيم.
ثم قام زعيم آخر من زعمائهم وقال: إن المتاع بهذه الدنيا قليل، وإن الفراق لها وشيك، فلا يدعونكم زينتها أو بهجتها إلى المقام بها، ولا تلتفت بكم عن طلب الحق، وإنكار الظلم، إن الله مع الذين اتقوا، والذين هم محسنون.
وقام لهم زيد بن حصن الطائي، وتلا عليهم آيات كثيرة من القرآن الكريم منها: ]يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الحِسَابِ] {ص:26}.
وهو يقصد بهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وقال أيضًا: قال الله تعالى: ]وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ] {المائدة:44}.
وكفّر عليًّا ومن معه، ومعاوية ومن معه، وأخذوا يئولون الآيات حسب ما يريدون، ثم قام آخر فحثّهم على الجهاد في سبيل الله، فبكى منهم رجل يُقال أنه عبد الله بن سخبرة السلمي تأثرًا بهذه الكلمات، وحثّ الناس على الخروج لقتل هؤلاء الكفار، وقال: اخرجوا، اضربوا في وجوههم، وجباههم بالسيوف، حتى يُطاع الرحمن الرحيم، فإن أنتم ظفرتم، وأُطيع الله كما أردتم، أنابكم ثواب المطيعين له العاملين بأمره، وإن قُتلتم فأي شيءٍ أفضل من المصير إلى رضوان الله وجنته.
وبدءوا يحمّسون أنفسهم، والناس على الخروج على المسلمين الذين هم في نظرهم كفارًا.
ويعلّق ابن كثير على مواقفهم هذه فيقول: إن هؤلاء الخوارج من أغرب بني آدم، فسبحان مَنْ نَوّع خَلْقَهُ كما أراد.
وقال فيهم الكثير من العلماء إنهم ممن ينطبق عليهم قول الله تعالى: ]قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا(103)الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا(104)أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَزْنًا] {الكهف:103، 104،105}.
فجمّعوا قواهم، وقرروا الخروج إلى المدائن في شمال شرق الكوفة، لكنهم غيّروا وجهتهم لقوة المدائن ومنعتها واتجهوا إلى مكان آخر قريب من الكوفة، وبدءوا يقطعون الطرق، ويقتلون المسلمين بحجة أن من رضي بالتحكيم فهو كافر مرتد يجب قتله، وقتلوا عبد الله بن خباب بن الأرت، وقتلوا زوجته رغم أنها كانت حاملًا.
فلما زاد فحشهم وكثرت جرائمهم قرر علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يقاتلهم، فخرج لهم بجيش كبير اختلف الرواة في تقدير عدده، ولكنه على أي حال كان يزيد كثيرًا عن جيش الخوارج.
وقبل أن يدخل معهم في قتال أراد رضي الله عنه أن يجنّب المسلمين شر القتال بعد ما حدث في موقعتي الجمل وصفين، وقُتلت الأعداد الكبيرة من المسلمين، فبعث إليهم من يقول لهم: عودوا إلى طاعة أميركم، يحكم بينكم فيقتل مَنْ قتل أحدًا من المسلمين، ويعفو عن من لم يقتل.
فاجتمعوا وقالوا: كلنا قتل إخوانكم، وقد استحللنا دمائهم ودمائكم.
خرج إليهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بنفسه، وبدأ في وعظهم، فقال لهم: ارجعوا إلى ما خرجتم منه، ولا ترتكبوا محارم الله، فإنكم قد سولّت لكم أنفسكم أمرًا تقتلون عليه المسلمين، والله لو قتلتم عليه دجاجة لكان عظيمًا عند الله سبحانه وتعالى، فكيف بدماء المسلمين؟
فلم يكن لهم جواب إلا أن تنادوا بينهم: لا تخاطبوهم، ولا تكلموهم، وتهيأوا للقاء الرب عز وجل، الرواح الرواح إلى الجنة، وكان هذا شعارهم.
رتّب علي بن أبي طالب رضي الله عنه جيشه، وجعلت راية أمان مع الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، وقال: من ذهب إلى هذه الراية فهو آمن. أملًا في تقليل عدد من يُقتل.
وذكرنا قبل ذلك أن عدد الخوارج في البداية كان اثنا عشر ألفًا، ولما حاورهم عبد الله بن العباس رضي الله عنه تاب منهم أربعة آلاف، ورجعوا معه إلى علي رضي الله عنه، وبعد المحاورات والمناقشات الأخيرة رجع أربعة آلاف آخرون، وبقي أربعة آلاف على رأيهم.
والتقى الجيشان فكانوا على أهبة الاستعداد للقتال، فعاد علي بن أبي طالب رضي الله عنه من جديد وقال لهم: هذه راية أمان مع أبي أيوب الأنصاري، من توجه إليها فهو آمن، ومن عاد إلى الكوفة فهو آمن، ومن ذهب إلى المدائن فهو آمن.
فبدأ البعض منهم بالانسحاب إما مكرًا وخديعة؛ ليخرج بعد ذلك، وإما خوفًا، فمنهم من توجه إلى راية الأمان مع أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه، ومنهم من توجه إلى الكوفة أو المدائن، وتركهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما وعدهم، وبقي منهم ألف صامدون لقتال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجيشه - الذي قيل في روايات كثيرة إن قوامه كان ما بين الستين والثمانية وستين ألفًا - فقرر علي بن أبي طالب رضي الله عنه قتلهم.
ونذكر في هذا الشأن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تنبأ بظهور هذه الطائفة العجيبة، فقد روى الإمام مسلم عن زَيْد بْنِ وَهْبٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ كَانَ فِي الْجَيْشِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الَّذِينَ سَارُوا إِلَى الْخَوَارِجِ، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إِلَى قِرَاءَتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلَا صَلَاتُكُمْ إِلَى صَلَاتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلَا صِيَامُكُمْ إِلَى صِيَامِهِمْ بِشَيْءٍ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَحْسِبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ، وَهُوَ عَلَيْهِمْ، لَا تُجَاوِزُ صَلَاتُهُمْ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، لَوْ يَعْلَمُ الْجَيْشُ الَّذِينَ يُصِيبُونَهُمْ مَا قُضِيَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَاتَّكَلُوا عَنِ الْعَمَلِ، وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّ فِيهِمْ رَجُلًا لَهُ عَضُدٌ، وَلَيْسَ لَهُ ذِرَاعٌ عَلَى رَأْسِ عَضُدِهِ مِثْلُ حَلَمَةِ الثَّدْيِ، عَلَيْهِ شَعَرَاتٌ بِيضٌ.
وفي البخاري ومسلم قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا، فَوَاللَّهِ لَأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكْذِبَ عَلَيْهِ، وَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، فَإِنَّ الْحَرْبَ خِدْعَةٌ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، لَا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ، فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وعند الإمام أحمد عَنْ طَارِقِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ عَلِيٍّ إِلَى الْخَوَارِجِ، فَقَتَلَهُمْ ثُمَّ قَالَ: انْظُرُوا فَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
إِنَّهُ سَيَخْرُجُ قَوْمٌ يَتَكَلَّمُونَ بِالْحَقِّ، لَا يُجَاوِزُ حَلْقَهُمْ، يَخْرُجُونَ مِنْ الْحَقِّ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، سِيمَاهُمْ أَنَّ مِنْهُمْ رَجُلًا أَسْوَدَ مُخْدَجَ الْيَدِ فِي يَدِهِ شَعَرَاتٌ سُودٌ، إِنْ كَانَ هُوَ فَقَدْ قَتَلْتُمْ شَرَّ النَّاسِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ فَقَدْ قَتَلْتُمْ خَيْرَ النَّاسِ.
فَبَكَيْنَا.
وعند أبي داود عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي اخْتِلَافٌ، وَفُرْقَةٌ، قَوْمٌ يُحْسِنُونَ الْقِيلَ، وَيُسِيئُونَ الْفِعْلَ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، لَا يَرْجِعُونَ حَتَّى يَرْتَدَّ عَلَى فُوقِهِ، هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ، طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ وَقَتَلُوهُ، يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ، وَلَيْسُوا مِنْهُ فِي شَيْءٍ، مَنْ قَاتَلَهُمْ كَانَ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْهُمْ.
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا سِيمَاهُمْ؟
قَالَ: التَّحْلِيقُ.
وورد مثل هذه الأحاديث عن كثير من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من دلالات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى الإمام أحمد عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ يَقُولُ: كُنَّا جُلُوسًا نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَرَجَ عَلَيْنَا مِنْ بَعْضِ بُيُوتِ نِسَائِهِ. قَالَ: فَقُمْنَا مَعَهُ، فَانْقَطَعَتْ نَعْلُهُ فَتَخَلَّفَ عَلَيْهَا عَلِيٌّ يَخْصِفُهَا، فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَضَيْنَا مَعَهُ، ثُمَّ قَامَ يَنْتَظِرُهُ، وَقُمْنَا مَعَهُ، فَقَالَ: إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ يُقَاتِلُ عَلَى تَأْوِيلِ هَذَا الْقُرْآنِ، كَمَا قَاتَلْتُ عَلَى تَنْزِيلِهِ.
فَاسْتَشْرَفْنَا وَفِينَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَقَالَ: لَا وَلَكِنَّهُ خَاصِفُ النَّعْلِ.
قَالَ: فَجِئْنَا نُبَشِّرُهُ.
قَالَ: وَكَأَنَّهُ قَدْ سَمِعَهُ. صححه الألباني.
فكانت هذه الأحاديث بشارات بالجنة، وبالثواب الجزيل لمن يقتل هؤلاء، وخطب علي بن أبي طالب رضي الله عنه في جيشه يحفزّهم على القتال، وبدأ القتال بين الفريقينن، وثبتوا ثباتًا عجيبًا حتى قُتل منهم ستمائة، وجُرح أربعمائة.
قال أبو أيوب الأنصاري: طعنت رجلًا من الخوارج بالرمح فأنفذته في ظهره، فأيقن أنه ميت، فقلت: أبشر يا عدو الله بالنار.
فقال: ستعلم أينا أولى بها صليًا.
فهو إلى آخر لحظةٍ في حياته مُصِرّ على ما هو عليه.
بعد انتهاء المعركة سريعًا، سلّم علي بن أبي طالب رضي الله عنه الأربعمائة إلى ذويهم ليداووهم، وردّ أسلابهم، وأعطاهم فرصة أخرى للتوبة، وسميت هذه المعركة معركة النهروان.
ولكن يبقى الدليل الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أنه علامة هؤلاء القوم، وهو الرجل ذو الثدية، فأرسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه أناس من جيشه ليبحثوا عنه، فلم يجدوه، فرجعوا إليه، وأخبروه بذلك، فقال رضي الله عنه في منتهى الثقة: والله ما كَذبتُ وما كُذبتُ، لئن أخرّ من السماء أحب إلي من أن أكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، عودوا إليهم فستجدوه.
فعادوا، فلم يجدوه، فأخبروه رضي الله عنه، فأعاد عليهم ما قاله لهم قبل ذلك فعادوا للمرة الثالثة، فوجدوه تحت مجموعة من القتلى على ضفاف النهر، فأخرجوه وكان أسودًا شديد السواد، منتن الريح، ووجدوا فيه العلامة.
فلما أُخبر علي بن أبي طالب رضي الله عنه بذلك سجد لله شكرًا، وسجد معه القوم سجدة طويلة يشكرون الله تعالى على أن وفقهم لهذا الخير من قتل هؤلاء الخوارج.
وكان قتال هؤلاء الخوارج أواخر سنة 37 هـ، أو أوائل سنة 38 هـ، وهو الأصح.
أما الخوارج الذين رجعوا عن قتال جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذهبوا إلى راية الأمان عند أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، أو ذهبوا إلى البلاد القريبة، فلم يرجعوا عن اقتناع منهم بأنهم على الباطل، وإنما كان رجوعهم إما خوفًا، وإما تَقِيَّة، وإما استعدادًا وترتيبًا لقتال آخر في وقت لاحق، وظلّوا طوال هذا العام يخرجون على عليٍّ رضي الله عنه واحدًا تلو الآخر، فبعد موقعة النهروان التي قُتل فيها ستمائة وجُرح أربعمائة خرج عليه رضي الله عنه رجل يُسمّى الحارث بن راشد الناجي مع مجموعة من قومه وردد نفس المقولة: لا حكم إلا لله. وقاتلهم علي رضي الله عنه، وقتل منهم الكثير، كما خرج عليه أيضًا الأشهب بن بشر البجلي، وغيره كثير، وقاتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه جميعًا، فكان أمر الخوارج هذا يقلّب الأمور على علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الكوفة، ولم يكن جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه لينًا سهلًا في يده يسمع له ويطيع كما ينبغي، فكان دائم الانقلاب عليه، وكثير الاعتراض على كثير من الأمور التي يراها عليّ رضي الله عنه مع أنه خير أهل الأرض في ذلك الوقت.
أما الموقف في الشام فكان جيش معاوية رضي الله عنه يطيعه تمامًا، ولم يكن هناك أي حالة خروج عليه رضي الله عنه.
فكان هذا ابتلاء من الله تعالى لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه.
الموقف في مصر كانت مصر بعيدة عن ساحات القتال، كان يتولّى أمر مصر في هذا الوقت محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه من قِبل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولكن محمد بن أبي بكر رضي الله عنه لم يستطع السيطرة على الأمور بشكل كامل في مصر، وخاصة بعد وقعة صفين، وبعد خروج الخوارج على علي رضي الله عنه، وبدأت تقوى شوكة مَنْ هم على رأي معاوية، وعمرو بن العاص رضي الله عنهما من وجوب أخذ الثأر من قتلة عثمان رضي الله عنه قبل مبايعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهذا لسببين:
الأول: أن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه كان صغير السن، فلم يكن عمره يتجاوز 26 سنة عندما تولّى الأمور في مصر.
السبب الثاني: أن تولية محمد بن أبي بكر رضي الله عنهما لأمر مصر أثار حفيظة هؤلاء الذين يرون وجوب قتل من قتل عثمان رضي الله عنه أولًا قبل المبايعة، وذلك لأن محمد بن أي بكر رضي الله عنهما كان ممن شارك في حصار عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكان من أهل الفتنة ابتداءً، وهو الصحابي الوحيد الذي شارك في هذا الأمر، ولكننا ذكرنا أنه رجع عن هذا الأمر، وتاب بين يدي عثمان رضي الله عنه لمّا ذكّره بأبيه أبي بكر رضي الله عنه، فبكى، وندم، وأخذ يدافع عنه، ويرد عنه أهل الفتنة، ولكن القوم غلبوه، ودخلوا على عثمان رضي الله عنه، وقتلوه، وشهدت بذلك السيدة نائلة بنت الفرافصة زوجة عثمان بن عفان رضي الله عنه.
وبدأ القوم يفكرون في القيام بثورة على محمد بن أبي بكر، وازدادت شوكتهم، وبدأت يد محمد بن أبي بكر رضي الله عنه تضعف على مصر، فلما علم بذلك معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وكانت مصر أقرب إليه منها لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان يتزعم العثمانيين كما سموا أنفسهم في مصر معاوية بن حديج السكوني، والذي كان على مقدمة الجيش الذي كان قادمًا لنصرة عثمان بن عفان رضي الله عنه قبل مقتله، ثم عاد مرة أخرى لما علموا بمقتله رضي الله عنه.
وأرسل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه جيشًا قوامه ستة آلاف للسيطرة على الأمور في مصر بقيادة عمرو بن العاص رضي الله عنه، وكان رضي الله عنه خبيرًا بمصر قبل ذلك، فقد كان هو أول من فتحها، وتولّى إمارتها فترة طويلة في عهد عمر وعثمان بن عفان رضي الله عنهما، حتى تولّى الأمور عبد الله بن سعد بن أبي سرح.
وانضم الستة الآف الذين معه إلى عشرة الآف أخرى كانت مع معاوية بن حديج في مصر، فصاروا ستة عشر ألفًا، وتعاونا معًا، واستنفر محمد بن أبي بكر رضي الله عنه أهل مصر للخروج معه، وكان الكثير منهم من أهل اليمن ممن يسكنون مصر، فأبوا عليه، ورفضوا، فحثهم على الجهاد في سبيل الله فخرج معه على أكبر تقدير ألفان من المسلمين، وعلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بهذا الأمر، فأرسل قوة كان فيها الأشتر النخعي لمساندة محمد بن أبي بكر ومن معه، ولما وصل الأشتر النخعي إلى مصر وفي منطقة تُسمى (القلزم) استقبله أحد الناس، وأعطاه شربة عسل، فلما شربها مات فقد كانت مسمومة، فقيل أن الذي أشار على الرجل إعطاء الأشتر النخعي تلك الشربة المسمومة هو معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وهذا الرواية فيها نظر وفيها ضعف، وإن صحت ففيها حجة قوية لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه؛ لأنه يستحل دماء كل من شارك في قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، وما كل هذه الحروب والمعارك إلا لهذا الأمر، وكان الأشتر النخعي ممن حاصر عثمان بن عفان رضي الله عنه وممن شجّع الناس على هذا الأمر.
فلما مات الأشتر النخعي ضعفت قوة وبأس فريق محمد بن أبي بكر رضي الله عنه؛ لأن الأشتر كان صاحب كلمة ورأي، وكان علمًا من أعلام القتال، ولما علم معاوية، وعمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه مات بهذه الطريقة قالا: سبحان الله، إن لله جنودًا من عسل.
كان عمرو بن العاص رضي الله عنه يريد أن تسير الأمور دون قتال، أرسل رسالة إلى محمد بن أبي بكر رضي الله عنه يقول له: إني لا أحب أن يصيبك مني ظفر، فإن الناس قد اجتمعوا في هذه البلاد على خلافك، ورفض أمرك، وندموا على اتباعك، فهم مسلموك إن التقينا، فاخرج منها، فإني لك لمن الناصحين والسلام.
لكن محمد بن أبي بكر رضي الله عنه لم يسمع لهذه الكلمات، وتقاتل الفريقان، فكان النصر في جانب عمرو بن العاص رضي الله عنه وهُزمت القلّة القليلة التي كانت مع محمد بن أبي بكر، وقُتل رضي الله عنه أثناء القتال، وقيل تبِعه بعض أهل الشام بعد القتال، فقتلوه في خِربة قريبة من موقع المعركة التي دارت بين الفريقين.
وقد حزن علي بن أبي طالب رضي الله عنه على قتله، فقد تربى محمد بن أبي بكر رضي الله عنه في حجره رضي الله عنه، فقد تزوّج عليٌّ رضي الله عنه السيدة أسماء بنت عميس رضي الله عنها بعد وفاة زوجها أبي بكر رضي الله عنه، وانقضاء عدتها، وربّى محمد بن أبي بكر رضي الله عنهما.
كما حزنت السيدة عائشة رضي الله عنها حزنًا شديدًا لقتله وضمّت إليها أولاده لرعايتهم.
تمّت السيطرة بالفعل لعمرو بن العاص على مصر وأصبح واليًا عليها من قبل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وأصبحت الشام، ومصر تحت سيطرة معاوية بن سفيان رضي الله عنه.
أما على الساحة العراقية، فقد كان القوم ينقلبون على عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يومًا بعد يوم، حتى غضب عليهم غضبًا شديدًا، وخطب فيهم خطبة طويلة قال فيها: المغرور والله من غررتموه، ولَمَن فارقكم فاز بالسهم الأصيب، لا أحرار عند النداء، ولا إخوان ثقة عند النجاة، إنا لله وإنا إليه راجعون، ماذا منيت به منكم، عمي لا تبصرون، وبكم لا تنطقون، وصم لا تسمعون، إنا لله وإنا إليه راجعون.
يعلّق ابن كثير رحمه الله على هذا الأمر فيقول:وكلما ازداد أهل الشام قوة ضعف جأش أهل العرق، هذا وأميرهم علي بن أبي طالب خير أهل الأرض في ذلك الزمان؛ أعبدهم، وأزهدهم، وأعلمهم، وأخشاهم لله عز وجل، ومع هذا كله خذلوه حتى كره الحياة، وتمنى الموت، وذلك لكثرة الفتن وظهور المحن، فكان يكثر أن يقول:
ما يحبس أشقاها؟! أي ما الذي يجعل أشقاها ينتظر؟
وأشقاها هو مَنْ يقتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، فهو رضي الله عنه يريد أن يستريح من عناء هؤلاء القوم الذين يجادلونه، ولا يطيعون له أمرًا، ويتمنّى الموت حتى يفارقهم، وقد ورد في هذا أحاديث منها ما رواه الإمام أحمد بسنده عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: قَدِمَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مِنْ الْخَوَارِجِ فِيهِمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْجَعْدُ بْنُ بَعْجَةَ، فَقَالَ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ يَا عَلِيُّ، فَإِنَّكَ مَيِّتٌ.
فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بَلْ مَقْتُولٌ ضَرْبَةٌ عَلَى هَذَا تَخْضِبُ هَذِهِ- يَعْنِي لِحْيَتَهُ مِنْ رَأْسِهِ- عَهْدٌ مَعْهُودٌ، وَقَضَاءٌ مَقْضِيٌّ، وَقَدْ خَابَ مَنْ افْتَرَى.
وعن عثمان بن صهيب، عن أبيه، قال علي: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَشْقَى الْأَوَّلِينَ؟
قلت: عاقر الناقة.
قال: صَدَقْتَ، فَمَنْ أَشْقَى الْآخِرِينَ؟
قلت: لا علم لي.
قال: الَّذِي يَضْرِبُكَ عَلَى هَذَا، وَأَشَارَ إِلَى يَافُوخِهِ.
وكان يقول: وددت لو أنه قد انبعث أشقاكم، فخضب هذه من هذه، يعني لحيته من دم رأسه.
المؤامرة الثلاثية ومقتل رابع الخلفاء الراشدين كان الخوارج لا يبرحون، كل مدّة يخرجون على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فيقتل منهم الكثير، ثم يخرج عليه مرات ومرات، واستمرّت الأوضاع على هذا الاضطراب في العراق، بينما كانت الأوضاع هادئة في الشام، فقد كان أهلها يسمعون، ويطيعون لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه.
وكان آخر ما فعله الخوارج في هذا التوقيت أن اجتمع ثلاثة منهم؛ عبد الرحمن بن ملجم الكندي، وكان في وجهه علامة السجود من كثرة العبادة، وكان معروفًا بها، وآخر اسمه البرك بن عبد الله التميمي، وآخر اسمه عمرو بن بكر التميمي، وتشاوروا فيما ينبغي أن يفعلوه، فهم غير راضين بأمر التحكيم، ويكفرون عليًا، ومعاوية ،وعمرو بن العاص رضي الله عنهم جميعًا، ويكفرون كذلك كل من رضي بالتحكيم، وأخذوا يترحمون على إخوانهم الذين قتلوا في النهروان، وفي المعارك التي تلتها وقالوا:
ماذا نفعل بالبقاء بعدهم، إنهم والله كانوا لا يخافون في الله لومة لائم.
ثم قالوا: فلو شرينا أنفسنا من هذه الدنيا، فأتينا أئمة الضلال فقتلناهم، فأرحنا منهم البلاد، وأخذنا منهم ثأر إخواننا.
فقال ابن ملجم: أنا أكفيكم أمر علي بن أبي طالب.
وقال البرك: وأنا أكفيكم معاوية.
وقال عمرو بن بكر: وأنا أكفيكم عمرو بن العاص.
فتعاهدوا على ذلك، واتفقوا على ألا ينقض أحد عهده، وأنهم سوف يذهبون لقتلهم، أو يموتون، وتواعدوا أن يقتلوهم في شهر رمضان، وكتموا الأمر عن الناس جميعًا إلا القليل، ومن هؤلاء القليل من تاب وحدّث بهذا الأمر.
ومما يُروى - ويصل إلى درجة الصحيح - أن امرأة تُسمّى قطام بنت الشجنة كانت فائقة الجمال، وقُتل أبوها وأخوها في يوم النهروان، جاءت إلى عبد الرحمن بن ملجم، وهو يتحدث مع بعض الناس في أمر قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فلما رآها أراد أن يخطبها، فشرطت عليه أن يدفع ثلاثة آلاف درهم، وخادمًا، وجارية، وأن يقتل علي بن أبي طالب فقال: والله ما أتيت هذه البلدة - الكوفة - إلا لهذا الأمر.
فشجعته على هذا الأمر وتزوجها، فتجمّعت عليه النيّات.
وذهب عبد الرحمن بن ملجم لرجل آخر يُسمّى شبيب بن نجدة الشجعي، وقال له: هل لك في شرف الدنيا والآخرة؟
فقال شبيب: وما ذاك؟
قال: قتل علي.
فقال: ثكلتك أمك، لقد جئت شيئًا إدًّا، كيف تقدر عليه؟
فهو يستنكر عليه أن يفكر في قتل علي رضي الله عنه؛ لأنه كان قويًا شجاعًا يهابه الرجال، وله مواقف عظيمة في الحروب، وبطولات رائعة في القتال، ثم هو أمير المؤمنين.
فقال: أكمن له في المسجد، فإذا خرج لصلاة الغداة- الفجر - شددنا عليه فقتلناه، فإن نجونا شفينا أنفسنا، وأدركنا ثأرنا، وإن قُتلنا فما عند الله خير.
فقال: ويحك، لو كان غير علي لكان أهون علي، قد عرفت سابقته في الإسلام، وقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أجدني أنشرح صدرًا لقتله.
فقال: أما تعلم أنه قتل أهل النهروان؟ نقتله بهم.
وأخذ يحفزه، فوافقه على أن يساعده في هذا الأمر.
وتواعد عبد الرحمن بن ملجم، والبرك بن عبد الله، وعمرو بن بكر على يوم واحد يقتلون فيه الثلاثة عليًا، ومعاوية، وعمرو بن العاص، ويخلّصون الأمة من أئمة الضلال في زعمهم.
فتواعدوا أن يقتلوا الثلاثة يوم السابع عشر من شهر رمضان، فتوجه البرك إلى دمشق حيث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وتوجه عمرو بن بكر إلى الفسطاط بمصر حيث عمرو بن العاص رضي الله عنه، وكان عبد الرحمن بن ملجم بالكوفة حيث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
مقتل الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه
انتظر عبد الرحمن بن ملجم في فجر هذا اليوم حتى خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه من بيته لصلاة الفجر، وأخذ يمرّ على الناس يوقظهم للصلاة، وكان لا يصطحب معه حراسًا، حتى اقترب من المسجد فضربه شبيب بن نجدة ضربة وقع منها على الأرض، لكنه لم يمت منها، فأمسك به ابن ملجم، وضربه بالسيف المسموم على رأسه، فسالت الدماء على لحيته، كما وصف الرسول صلى الله عليه وسلم مشهد قتله قبل ذلك.
ولما فعل ذلك عبد الرحمن بن ملجم قال: يا علي الحكم ليس لك ولا حكم إلا لله.
وأخذ يتلو قول الله تعالى: ]وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ] {البقرة:207} .
ونادي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: عليكم به.
فأمسكوا بعبد الرحمن بن ملجم، وفر شبيب في البلاد.
وقدم علي رضي الله عنه جعدة بن هبيرة رضي الله عنه ليصلّى بالناس صلاة الفجر، وحمله الناس إلى بيته، وعلم رضي الله عنه أن هذا السيف مسموم، وأنه ميّت لا محالة، وخاصّة أن هذه الضرية وقعت كما وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم، فاستدعى عبد الرحمن بن ملجم، وكان مكتوف الأيدي، فقال له علي رضي الله عنه: أي عدو الله ألم أحسن إليك؟
قال: بلى.
قال: فما حملك على هذا؟
قال: شحذته - أي السيف - أربعين صباحًا، وسألت الله أن يُقتل به شر خلقه.
فقال له علي: والله ما أراك إلا مقتولًا، وقد استجاب الله لك.
ثم قال علي رضي الله عنه: إن مت فاقتلوه، وإن عشت فأنا أعلم ماذا أفعل به.
فقال جندب بن عبد الله: يا أمير المؤمنين، إن متَّ نبايع الحسن؟
فقال رضي الله عنه: لا آمركم ولا أنهاكم.
ولما احتضر رضي الله عنه جعل يكثر من قول لا إله إلا الله حتى تكون آخر كلامه، ثم أوصى الحسن والحسين بوصيته وكتباها:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما أوصى به علي بن أبي طالب أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى، ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون ]قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ(162)لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ] {الأنعام:162،163} أوصيك يا حسن وجميع ولدي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ربكم، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعًا، ولا تفرقوا، فإني سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: إِنَّ صَلَاحَ ذَاتَ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ.
انظروا إلى ذوي أرحامكم، فصِلُوا؛ ليهون الله عليكم الحساب، الله الله في الأيتام، فلا تعفو أفواههم ولا يضيعن بحضرتكم، والله الله في جيرانكم فإنهم وصية نبيكم، ما زال يوصي بهم حتى ظننا أنه سيورثهم، والله الله في القرآن فلا يسبقنكم إلى العمل به غيركم، والله الله في الصلاة فإنها عمود دينكم، والله الله في بيت ربكم فلا يخلون منكم ما بقيتم، فإنه إن ترك لم تناظروا، والله الله في شهر رمضان فإن صيامه جنة من النار، والله الله في الجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم، والله الله في الزكاة، فإنها تطفئ غضب الرب، والله الله في ذمة نبيكم لا تظلمن بين ظهرانيكم، والله الله في أصحاب نبيكم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بهم، والله الله في الفقراء والمساكين فأشركوهم في معاشكم، والله الله فيما ملكت أيمانكم فإن آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: أُوصِيكُمْ بِالضَّعِيفَيْنِ نِسَائِكُمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ.
الصلاة الصلاة، لا تخافن في الله لومة لائم يكفكم من أرادكم وبغى عليكم، وقولوا للناس حسنا كما أمركم الله، ولا تتركوا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فيولي الأمر شراركم، ثم تدعون فلا يستجاب لكم، وعليكم بالتواصل والتباذل، وإياكم والتدابر، والتقاطع، والتفرق، وتعاونوا على البر، والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واتقوا الله، إن الله شديد العقاب، حفظكم الله من أهل بيت، وحفظ عليكم نبيكم، أستودعكم الله، وأقرأ عليكم السلام، ورحمة الله.
ثم لم ينطق رضي الله عنه بعد ذلك إلا بلا إله إلا الله حتى كانت آخر لحظة في حياته رضي الله عنه وأرضاه قرأ: ]فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ(7)وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ] {الزَّلزلة:7،8} .
ولقي ربه شهيدًا رضي الله عنه وأرضاه أحد العشرة المبشرين بالجنة، وزوج ابنة رسول الله صلى اله عليه وسلم، وابن عمه.
وغسّله ابناه الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وصلّى عليه ابنه الحسن رضي الله عنه، ثم جاءوا بعبد الرحمن بن ملجم وأقاموا عليه الحدّ فقتلوه بسيفه.
محاولة قتل معاوية رضي الله عنه
أما معاوية رضي الله عنه، فقد انتظره البرك بن عبد الله الذي تعهد بقتله في نفس التوقيت، وضربه بالسيف المسموم فتجنّبه معاوية رضي الله عنه فأصاب فخذه، فحمله الناس إلى بيته، وقبضوا على البرك بن عبد الله، وداوى الناس معاوية رضي الله عنه فشفاه الله، ولم يمت من هذه الضربة.
أراد عمرًا وأراد الله خارجة
أما عمرو بن العاص، فذهب إليه عمرو بن بكر المتعهد بقتله، وانتظر خروجه لصلاة الصبح، ولكنه- سبحان الله - كان مريضًا في هذا اليوم، فعهد بالصلاة إلى نائبه خارجة، فما خرج إلى الصلاة ظنّه الرجل عمرو بن العاص، فذهب إليه وقتله، فأمسكوا به وقتلوه به، ونجّى الله عمرو بن العاص منه، وقال الناس: أراد عمرًا وأراد الله خارجة.
فصارت مثلًا لمن أراد شيئًا وأراد الله شيئًا آخر.
بعد مقتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه أصبح المسلمون بلا خليفة، وبدأ المسلمون يفكرون في اختيار خليفة لهم.
الحسن بن علي رضي الله عنهما وعام الجماعة في هذا التوقيت كانت إمارة الشام على وفاق مع معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وكانت إمارة كبيرة وضخمة وقوية وحصينة، فكانوا يشعرون بقوة بأسهم، ولما استشهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه اجتمع أهل العراق، وبايعوا الحسن بن علي رضي الله عنه وأرضاه؛ ليكون خليفةً للمسلمين، وهو اختيار موفَّق فالحسن رضي الله عنه كان ورعًا تقيًا عالمًا مجاهدًا، وهو ريحانة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم أنه "سيّد" وكان يُلقّب بسيّد المسلمين، والأحاديث التي تدل على مكانة الحسن والحسين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبه لهما كثيرة.
فاجتمع أهل العراق على مبايعته، وجاء قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنه وكان تحت إمرته على أذربيجان أربعون ألف مقاتل كلهم قد بايع عليًا رضي الله عنه على الموت قبل استشهاده، فجاء رضي الله عنه، يقول للحسن رضي الله عنه: امدد يدك نبايعك.
فلم يردّ عليه الحسن، ولم يرض بهذا الأمر، ولم يكن يريده؛ لأنه يعلم أن وراءه الدماء الكثيرة، ولكن مع إصرار قيس بن سعد بن عبادة قَبِل رضي الله عنه البيعة، وكان هذا يوم 17 رمضان سنة 40 هـ، وهو يوم وفاة علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
بويع الحسن رضي الله عنه في العراق، وكانت العراق تدير مساحة شاسعة من الدولة الإسلامية وبلاد فارس التي فُتحت.
أما أهل الشام فبعد استشهاد علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يجدوا بديلًا لخلافة المسلمين غير معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، ومما ينبغي أن نشير إليه في هذا المجال أنه طوال فترة خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومع عدم مبايعتهم له، لم يطالبوا بالخلافة، ولم يطالب معاوية رضي الله عنه بالخلافة، بل إنهم قالوا:
إن أخذ علي بن أبي طالب الثأر من قتلة عثمان، فسوف نبايعه أميرًا على المسلمين، ولم يكن الأمر كما أُشيع في كتب الشيعة، والمستشرقين ومن تربى على أيديهم من المسلمين أن هذه المعارك الضخمة والحروب الكثيرة والدماء التي سفكت، إنما كانت لأجل الإمارة، والحكم، وهذا من الافتراء على صحابة النبي صلى الله عليه وسلم الذين ما قاتلوا إلا بعد اجتهادهم، ويقين كل من الفريقين أنه على الحق، وأنه بهذا القتال يرضي الله سبحانه وتعالى.
فبويع معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بالخلافة من قِبل أهل الشام، وأصبح للمسلمين، ولأول مرة خليفتان، أحدهما في الشام، والآخر في العراق، وهذا لا يستقيم شرعًا، ولا يصح في الإسلام، بل ينبغي أن يكون للمسلمين خليفة واحد يسمع له الجميع ويطيع.
وكان الحسن بن علي رضي الله عنه لا يحب القتال، وهو ممن حاول أن يمنع أباه عليًّا رضي الله عنه من الذهاب إلى صفين، لولا أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أقنعه بأنه إنما يقيم شرع الله بمقاتلة من خرج على بيعة الإمام، فلما تولّى الحسن رضي الله عنه الخلافة رغِب في الكفّ عن القتال، وحفْظ الدماء، وعدم الدخول في مشاحنات، أو معارك بين المسلمين، لكن أهل لعراق أصرّوا على قتال أهل الشام وعلى رَدّ الإمرة إلى العراق، وثاروا كعادتهم عليه رضي الله عنه، واجتمعت الألوف المؤلّفة على أمر قتال أهل الشام، والقتال وإن كان له تأويل شرعي، إلا أن فيه مخالفة للإمام ،وقد خشِي الحسن رضي الله عنه من فتنة مخالفة كل هذه الجموع، فخرج رضي الله عنه على رأس جيش لقتال أهل الشام وهو كارهٌ لهذا الأمر، وعلم معاوية رضي الله عنه بخروجه فخرج له بجيشه.
وعند اقتراب الجيشين كان الصراع شديدًا في داخل نفس الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فهو غير راغب في القتال، ويريد أن يحقن دماء المسلمين، فأرسل رسائل إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه يطلب منه أن يرجع عن رأيه، ويدخل في جماعة المسلمين ويبايعه على الخلافة، لكن معاوية رضي الله عنه كان يرى أن تلك هي فرصته التي ربما لا تتكرر لأخذ الثأر من قتلة عثمان رضي الله عنه بعد أن يكون أميرًا على جميع المسلمين، وكان جيش العراق القادم مع الحسن بن علي رضي الله عنه جيشًا ضخمًا كبيرًا، وخاصة بعد أن قُتل النصف من جيش معاوية رضي الله عنه في موقعة صفين، وكانوا راغبين في القتال، وقد بايعوا الحسن رضي الله عنه على الموت.
يقول الحسن البصري: استقبل والله الحسن بن علي معاوية بن أبي سفيان بكتائب أمثال الجبال.
ولما رآهم عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: إني لأرى كتائب لا تولّى حتى تقتل أقرانها.
فقال معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه: إن قُتل هؤلاء وهؤلاء من لي بأمور الناس، من لي بضعفتهم، من لي بنسائهم، من لي بصبيانهم؟
وكان رضي الله عنه يكره القتال، وكان كما يقول الإمام ابن تيمية: أشد الناس بعدًا عن القتال.
فقرر رضي الله عنه أن يرسل رسولين إلى الحسن بن علي رضي الله عنه للمحاورة والمشاورة، فأرسل إليه عبد الرحمن بن سمرة، وعبد الله بن عامر فذهبا إليه وجلسا معه.
فقال الحسن رضي الله عنه: إن هذه الأمة قد عاثت في دمائها.
فقال له الرسولان: إنه يعرض عليك كذا وكذا ويطلب إليك ويسالمك.
فقال الحسن رضي الله عنه: فمن لي بهذا؟
فقالا له: نحن لك بهذا، فسُرّ بذلك الحسن وكان يرغب في هذا الأمر.
فقرر الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يقوم بخطوة من أخطر الخطوات في تاريخ الأمة الإسلامية، وهي خطوة جريئة لا يقدم عليها إلا رجل ذو نفس طاهرة طيبة كالحسن رضي الله عنه وأرضاه ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قرر رضي الله عنه أن يتنازل عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وهو راضٍ تمامًا، وهو في غاية القوة، فقد كان يفوق جيش الشام كثيرًا جدًا، وكان باستطاعته أن يبيد جيش الشام عن آخره ويبقى جيشه كبيرًا، ولكنه أراد أن يحقن الدماء بتنازله رضي الله عنه عن الخلافة لمعاوية رضي الله عنه.
وأرسل الحسن رضي الله عنه رسالة إلى معاوية رضي الله عنه بتنازله عن الخلافة على أن تُحقن دماء المسلمين، وعلى أن ترجع الجيوش دون قتال ودون حرب.
وبهذا أصبح معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه رضي الله عنه أمير المؤمنين الشرعي بعد الحسن بن علي رضي الله عنه الذي ظل أميرًا شرعيًا للمسلمين لمدة ستة أشهر.
وتنازل الحسن رضي الله عنه وإصلاحه بين المسلمين بتنازله هذا من دلائل نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم ففي البخاري أن أبا بكرة كان يقول: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً وَعَلَيْهِ أُخْرَى وَيَقُولُ: إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وكان الحسن رضي الله عنه هو سبب الإصلاح بين فريقي العراق والشام، وسُمّي هذا العام (41 هـ) بعام الجماعة، وكان عامًا سعيدًا على المسلمين، لاجتماع الكلمة ووحدة الصف.
ولكن أهل العراق الذين تعودوا على الثورات على أمرائهم وعدم الطاعة لهم وعلى الخلاف والشقاق لم يرضوا بهذا الأمر، وغضبوا غضبًا شديدًا، وبعد عودة الحسن رضي الله عنه إلى الكوفة كانوا يقابلونه فيقولون له: السلام عليك يا مذل المؤمنين.
بعدما كانوا يقولون له: السلام عليك يا أمير المؤمنين.
وكان رضي الله عنه يقول لهم: لا تقولوا هذا، لستُ بمذلّ المؤمنين، ولكني كرهت أن أقتلهم على الملك، وكان يقول: في يدي رقاب المسلمين.
وفي مسند الإمام أحمد عَنْ سَفِينَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: الْخِلَافَةُ ثَلَاثُونَ عَامًا، ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ الْمُلْكُ.
قَالَ سَفِينَةُ: أَمْسِكْ خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَنَتَيْنِ، وَخِلَافَةَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَشْرَ سِنِينَ، وَخِلَافَةَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اثْنَيْ عَشْرَ سَنَةً، وَخِلَافَةَ عَلِيٍّ سِتَّ سِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
فكانت الستة أشهر التي حكمها الحسن بن علي رضي الله عنه هي إكمال الخلافة الراشدة، وبداية إمارة معاوية رضي الله عنه هي بداية الملك الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، ويعلق الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية على هذا الأمر فيقول: وقد انقضت الثلاثون بخلافة الحسن بن علي، فأيام معاوية أول الملك، فهو أول ملوك الإسلام وخيارهم.
فقد كان رضي الله عنه كاتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يسمونه خال المؤمنين؛ لأنه أخو السيدة أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان أم المؤمنين رضي الله عنها وعن أبيها وأخيها وصلى وسلم على زوجها صلى الله عليه وسلم.
وللمرة الأولى منذ ست سنوات يهدأ القتال، وتُجمع الأمة الإسلامية على خليفة واحد. [/size]
والله تعالى اعلم | |
|
| |
| مقتل الخليفة عثمان بن عفان وبداية الفتنة ونتائجها | |
|