بسم الله الرحمن الرحيم
{ محاضرة في العقيدة }
لصاحب الفضيلة الإمام العلامة عبدالعزيز بن عبدالله بن باز - رحمه الله -
الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد[1]:
فقد قال الله عز وجل في كتابه الكريم وهو أصدق القائلين: وَمَا
خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ
مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ
هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)[2]،
أوضح سبحانه في هذه الآية الكريمة، أنه خلق الثقلين، الجن والإنس ليعبدوه،
وهذه العبادة هي: توحيده وطاعته واتباع شريعته، وهي الإسلام والإيـمان
والهدى، وهي: البر والتقوى، وقد أمرهم الله بهذه العبادة، فقال سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[3].
وقال تعالى: وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا[4]، وقال سبحانه: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ[5]. ومعنى قضى يعني أمر ووصّى، وقال سبحانه: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء[6]. وقد أرسل الله الرسل بذلك، أرسل سبحانه الرسل بهذه العبادة، فقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ[7].
فالواجب
على جميع الثقلين: الجن والإنس، والعرب والعجم، والذكور والإناث،
والأغنياء والفقراء والملوك وغيرهم، الواجب على جميع الثقلين أن يعبدوه
وحده، وذلك بتوحيده والإخلاص له وتخصيصه بالعبادة، دون كل ما سواه، من صلاة
ودعاء وخوف ورجاء، وتوكل ورغبة ورهبة، وصوم وحج وغير هذا، هو المعبود وحده
سبحانه، بالحق لا معبود بالحق سواه، كما قال سبحانه:ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ[8].
ومن
العبادات: الصلاة والصوم والزكاة، والصدقات والحج والعمرة والجهاد، وغير
ذلك، فالواجب على جميع الثقلين، أن يعبدوه وحده، وأن يخصّوه بالعبادة،
يرجون رحمته ويخشون عقابه، سبحانه وتعالى، وعليهم التواصي بذلك والتناصح
بذلك، كما قال تعالى: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ[9]، وقال سبحانه: وَالْعَصْرِ
(1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا
بِالصَّبْرِ (3)[10].
أقسم سبحانه وهو الصادق، وإن لم يقسم أن الإنسان في خسران، إلا الذين
آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، هؤلاء هم الرابحون،
والله سبحانه يقسم من خلقه بما يشاء، لا أحد يتحجّر عليه جل وعلا، كما أقسم
بالذاريات والنجم، والطّور، والليل إذا يغشى، وغير ذلك، أمّا العبد فليس
له أن يحلف إلا بالله، العبد إنسان ليس له أن يحلف إلا بربه، كما قال النبي
الكريم عليه الصلاة والسلام، في الحديث الصحيح: ((من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت))[11] وقال عليه الصلاة والسلام: ((من حلف بشيء غير الله فقد أشرك))[12].
فلا
يجوز الحلف بغير الله، لا بالأنبياء ولا بغيرهم، ولكن يحلف بالله وحده، فلا
يجوز أن يقول بالنبي، ولا بالأمانة ولا بشرف فلان، ولا حياة فلان، هذا لا
يجوز.
أمّا
ربنا سبحانه فله أن يقسم بما يشاء سبحانه وتعالى، وهذه السورة العظيمة
القصيرة تدل على أن الناس في خسران، الرجال والنساء العرب والعجم، والجن
والإنس كلهم في خسران إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق
وتواصوا بالصبر، هؤلاء هم الرّابحون الذين آمنوا بالله ورسوله، آمنوا بأن
الله ربهم ومعبودهم الحق، وآمنوا بكل ما أمر الله به، في كتابه وبكل ما
أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، في الأحاديث الصحيحة، ثم عملوا، ووحدوا
الله، وخصّوه بالعبادة، وآمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وآمنوا بكل
ما خبّر الله به ورسوله، عملوا بذلك فأدّوا فرائض الله، وتركوا محارم
الله، ووقفوا عند حدود الله، وتواصوا بالصبر وتواصوا بالحق، فيما بينهم
وتناصحوا وتواصوا بأداء ما فرض الله، وترك ما حرم الله، وتواصوا بالصبر
أيضاً، هؤلاء هم الرّابحون هم السعداء، الذين جمعوا هذه الصفات الأربع، وهي
الإيـمان بالله ورسوله، عمّا كان وما يكون، ثم عملوا فأدوا فرائض الله،
وتركوا محارم الله، ووقفوا عند حدود الله، ثم تواصوا بالحق، تناصحوا فيما
بينهم وتواصوا، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وأمر رابع وهو الصبر،
هؤلاء هم الرّابحون هم السعداء، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم وسائر المسلمين
منهم، ونسأل الله أن يمنحنا وإياكم الفقه في دينه، والثبات عليه، ونسأل
الله أن يجعلنا وإياكم من عباده الصالحين، ومن حزبه المفلحين، إنه سبحانه
وتعالى جواد كريم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله
وأصحابه وأتباعه بإحسان.
ـــــــــــــــــــــــ
بتاريخ 20/8/1418هـ [2] سورة الذاريات، الآيات 56- 57.
[3] سورة البقرة، الآية 21.
[4] سورة النساء، الآية 36.
[5] سورة الإسراء، الآية 23.
[6] سورة البينة، الآية 5.
[7] سورة النحل، الآية 36.
[8] سورة الحج، الآية 62.
[9] سورة المائدة، الآية 2.
[10] سورة العصر.
[11] أخرجه البخاري في كتاب الشهادات، باب كيف يستحلف برقم 2679.
[12] أخرجه الإمام أحمد في مسند العشرة المبشرين بالجنة، أول مسند عمر بن الخطاب رضي لله عنه برقم 331.
المصدر