يحيط
بابن آدم أعداء كثيرون يحسِّنون له القبيح ، ويقبحون له الحسن ، ويدعونه
إلى الشهوات ، ويقودونه إلى مهاوي الردى ، لينحدر في موبقات الذنوب
والمعاصي ، ومع وقوعه في الذنب ، وولوغه في الخطئية ، فقد يصاحب ذلك ضيق
وحرج ، وتوصد أمامه أبواب الأمل ، ويدخل في دائرة اليأس من روح الله ،
والقنوط من رحمة الله ، ولكن الله بلطفه ورحمته فتح لعباده أبواب التوبة ،
وجعل فيها ملاذاً مكيناً ، وملجأ حصيناً ، يَلِجُه المذنب معترفا بذنبه ،
مؤملاً في ربه ، نادماً على فعله ، غير مصرٍ على خطيئته ، ليكفر الله عنه
سيئاته ، ويرفع من درجاته .
[center]والقصة
عن النبي صلى الله عليه وسلم ، و رواها الإمام مسلم في صحيحه .. تحكي هذه
القصة عن رجل أسرف على نفسه بارتكاب الذنوب والموبقات ، حتى قتل مائة نفس ،
وأي ذنب بعد الشرك أعظم من قتل النفس بغير حق ؟!
وكان
هذا العالم مربيا حكيما ، حيث لم يكتف بإجابته عن سؤاله وبيان أن باب
التوبة مفتوح ، بل دله على الطريق الموصل إليها ، وهو أن يغير منهج حياته ،
ويفارق البيئة التي تذكره بالمعصية وتحثه عليها ، ويترك رفقة السوء التي
تعينه على الفساد ، وتزين له الشر ، ويهاجر إلى أرض أخرى فيها أقوام صالحون
يعبدون الله تعالى ،
وكان
الرجل صادقا في طلب التوبة فلم يتردد لحظة ، وخرج قاصدا تلك الأرض ، ولما
وصل إلى منتصف الطريق حضره أجله ، ولشدة رغبته في التوبة نأى بصدره جهة
الأرض الطيبة وهو في النزع الأخير ،
فاختصمت
فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ،كل منهم يريد أن يقبض روحه ، فقالت
ملائكة العذاب : إنه قتل مائة نفس ولم يعمل خيراً أبدا ، وقالت ملائكة
الرحمة إنه قد تاب وأناب وجاء مقبلا على الله ، فأرسل الله لهم ملكا في
صورة إنسان ، وأمرهم أن يقيسوا ما بين الأرضين ، الأرض التي جاء منها ،
والأرض التي هاجر إليها ، فأمر الله أرض الخير والصلاح أن تتقارب ، وأرض
الشر والفساد أن تتباعد ، فوجدوه أقرب إلى أرض الصالحين بشبر ، فتولت أمره
ملائكة الرحمة ، وغفر الله له ذنوبه كلها .
قال الله : {قل يا عبادي
الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا
إنه هو الغفور الرحيم }( الزمر 53) ،ومن ظن أن ذنباً لا يتسع لعفو الله ومغفرته ، فقد ظن بربه ظن السوء ، وكما
أن الأمن من مكر الله من أعظم الذنوب ، فكذلك القنوط من رحمة الله ،
قال عز وجل : { ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون } (يوسف: 87)
ولكن لا بد من صدق النية في طلب التوبة ، وسلوك الطرق والوسائل المؤدية
إليها والمعينة عليها ، وهو ما فعله هذا الرجل ، حيث سأل وبحث ولم ييأس ،
وضحى بسكنه وقريته وأصحابه في مقابل توبته ، وحتى وهو في النزع الأخير حين
حضره الأجل نجده ينأى بصدره جهة القرية المشار إليها مما يدل على صدقه
وإخلاصه .
وهذه القصة تبين كذلك أن استعظام الذنب هو أول طريق التوبة ، وكلما صَغُرَ الذنب في عين العبد كلما عَظُمَ عند الله ،
يقول
ابن مسعود رضي الله عنه : " إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن
يقع عليه ، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه قال به هكذا فطار " ،
وهذا
الرجل لولا أنه كان معظماً لذنبه ، خائفاً من معصيته لما كان منه ما كان
.والقصة أيضاً تعطي منهجاً للدعاة بألا ييأسوا من إنسان مهما بلغت ذنوبه
وخطاياه ، فقد تكون هناك بذرة خير في نفسه تحتاج إلى من ينميها ويسقيها
بماء الرجاء في عفو الله والأمل في مغفرته ، وألا يكتفوا بحثِّ العاصين على
التوبة والإنابة ، بل يضيفوا إلى ذلك تقديم البدائل والأعمال التي ترسخ
الإيمان في قلوب التائبين ، وتجعلهم يثبتون على الطريق ، ولا يبالون بما
يعترضهم فيه بعد ذلك .
وفي القصة بيان لأثر البيئة التي يعيش فيها الإنسان
والأصحاب الذين يخالطهم على سلوكه وأخلاقه ، وأن من أعظم الأسباب التي تعين
الإنسان على التوبة والاستقامة هجر كل ما يذكر بالمعصية ويغري بالعودة
إليها ، وصحبة أهل الصلاح والخير الذين يذكرونه إذا نسي ، وينبهونه إذا غفل
، ويردعونه إذا زاغ .وفيها كذلك أهمية العلم وشرف أهله ، وفضل العالم على
العابد فالعلماء هم ورثة الأنبياء جعلهم الله بمنزلة النجوم يُهتدى بها في
ظلمات البر والبحر [/center]