الدرر في بيان سورة الكوثر
الدرر في بيان سورة الكوثر
قال الله تعالى: ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ(1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ(2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ(3)﴾ [الكوثر :1-3]
لقد اشتملت هذه السورة على درر من البلاغة والبيان نوجزها فيما يلي:
1- سورة، ما أجلها من
سورة ! وأغزر فوائدها -على اختصارها- وحقيقة معناها تعلم من آخرها، فإنه
-سبحانه وتعالى- بتر شانئ رسوله من كل خير، فيبتر ذكره وأهله وماله فيخسر
ذلك في الآخرة، ويبتر حياته فلا ينتفع بها، ولا يتزود فيها صالحًا لمعاده،
ويبتر قلبه فلا يَعِي الخير، ولا يؤهله لمعرفته ومحبته، والإيمان برسله،
ويبتر أعماله فلا يستعمله في طاعة، ويبتره من الأنصار فلا يجد له ناصرًا،
ولا عونًا، ويبتره من جميع القُرب والأعمال الصالحة، فلا يذوق لها طعمًا،
ولا يجد لها حلاوة - وإن باشرها بظاهره- فقلبه شارد عنها.
2- وقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ [الكوثر: 1]، تدل هذه الآية على عطية كثيرة صادرة عن معطٍ كبير غني واسع. وأنه ـ تعالى ـ وملائكته وجنده معه.
- و صدر الآية «بإنَّ» الدالة على التأكيد، وتحقيق الخبر.
- وجاء الفعل بلفظ الماضي
الدال عن التحقيق، وأنه أمر ثابت واقع، ولا يدفعه ما فيه من الإيذان، بأن
إعطاء الكوثر سابق في القدر الأول حين قُدِّرت مقادير الخلائق، قبل أن
يخلقهم بخمسين ألف سنة.
- وحذف موصوف الكوثر ليكون أبلغ في العموم؛ لما فيه من عدم التعيين، وأتي بالصفة، أي: أنه سبحانه وتعالى قال: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾،
فوصفه بالكوثر، والكوثر المعروف إنما هو نهر في الجنة، كما قد وردت به
الأحاديث الصحيحة الصريحة. وقال ابن عباس: الكوثر:إنما هو من الخير
الكثير الذي أعطاه الله إياه، وإذا كان أقل أهل الجنة من له فيها مثل
الدنيا عشر مرات، فما الظن بما لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما أعده
الله له فيها؟! فالكوثر علامة وأمارة على تعدد ما أعده الله له من
الخيرات، واتصالها وزيادتها، وسمو المنزلة وارتفاعها. وإن ذلك النهر ـ
وهو الكوثرـ أعظم أنهار الجنة وأطيبها ماء، وأعذبها وأحلاها وأعلاها.
- وذلك أنه أتى فيه بلام التعريف الدالة على كمال المسمي وتمامه.
كقوله: زيد العَالِم، زيد الشجاع، أي: لا أعلم منه ولا أشجع منه، وكذلك
قوله: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾،
دل على أنه أعطاه الخير كله كاملا موفرًا، وإن نال منه بعض أمته شيئًا،
كان ذلك الذي ناله ببركة اتباعه، والاقتداء به، مع أن له صلى الله عليه
وسلم مثل أجره من غير أن ينقص من أجر المتبع له شيء ففيه الإشارة إلى أن
الله ـ تعالى ـ يعطيه في الجنة بقدر أجور أمته. كلهم من غير أن ينتقص من
أجورهم، فإنه هو السبب في هدايتهم، ونجاتهم، فينبغي -بل يجب- على العبد
اتباعه والاقتداء به، وأن يمتثل ما أمره به، ويكثر من العمل الصالح صومًا
وصلاة وصدقة وطهارة؛ ليكون له مثل أجره .
3- وفي قوله: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ﴾،
أنواع من التأكيد: أحدها: تصدير الجملة بإن. الثاني: الإتيان
بضمير الفصل الدال على قوة الإسناد والاختصاص. الثالث: مجيء الخبر على
أفعل التفضيل، دون اسم المفعول. الرابع: تعريفه باللام الدالة على حصول
هذا الموصوف له بتمامه، وأنه أحق به من غيره، ونظير هذا في التأكيد
قوله: ﴿لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى﴾ [طه: 68].
4- وفي قوله: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾
إشارة إلى أنك لا تتأسف على شيء من الدنيا وغيرهما، وفيها الإشارة إلى ترك
الالتفات إلى الناس، وما ينالك منهم، بل صل لربك وانحر. وفيها التعريض
بحال الأبتر الشانئ، الذي صلاته ونسكه لغير الله.
ومن فوائدها اللطيفة: الالتفات في قوله: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ الدالة على أن ربك مستحق لذلك، وأنت جدير بأن تعبده، وتنحر له. والله أعلم.
5- وقوله: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾،
أمره الله أن يجمع بين هاتين العبادتين العظيمتين، وهما الصلاة والنسك
الدالتان على القرب والتواضع والافتقار وحسن الظن، وقوة اليقين، وطمأنينة
القلب إلى الله أتي فيهما بالفاء الدالة على السبب؛ لأن فعل ذلك -وهو
الصلاة والنحر- سبب للقيام بشكر ما أعطاه الله إياه من الكوثر، والخير
الكثير، فشكر المنعم عليه وعبادته أعظمها هاتان العبادتان، بل الصلاة نهاية
العبادات، وغاية الغايات، كأنه يقول: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾،
الخير الكثير، وأنعمنا عليك بذلك لأجل قيامك لنا بهاتين العبادتين، شكرًا
لإنعامنا عليك، وهما السبب لإنعامنا عليك بذلك. فقم لنا بهما، فإن الصلاة
والنحر محفوفان بإنعام قبلهما، وإنعام بعدهما، وأجل العبادات المالية
النحر، وأجل العبادات البدنية الصلاة، وما يجتمع له في نحره من إيثار الله،
وحسن الظن به وقوة اليقين، والوثوق بما في يد الله أمر عجيب، إذا قارن ذلك
الإيمان والإخلاص.[«مجموع الفتاوى» ابن تيمية (16/ 529)]