قال تعالى:
قُل لِلمُؤمِنِينَ يَغُضُّواْ مِن أَبصَارِهِم وَيَحفَظُواْ فُرُوجَهُم
ذَلِكَ أَزكَى لَهُم إِنَّ اللهَ خَبِيرُ بِما يَصنَعُونَ (30) وَقُل
لِلمُؤمِنَاتِ يَغضُضنَ مِن أَبصَارِهِنَّ وَيَحفَظنَ فُرُوجَهُنَّ [النور:31،30].
عن أبي سعيد الخدري
قال: قال رسول الله
:
{ إياكم والجلوس على الطرقات }. فقالوا: ما لنا بد إنما هي مجالسنا نتحدث فيها. قال:
{ فإذا أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقه }. قالوا: وما حق الطريق؟ قال:
{ غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر } [رواه البخاري].
1 - فمن حق الطريق: وجوب أداء حقوق الطريق:
وحقوق الطريق بيّنها النبي
وهي: ( غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر )
وهذه الحقوق ليست من باب الحصر، وإنما هي بعضها، وقد بيّنت أحاديث أُخر
حقوقاً للطريق غير هذه، فعلم أن المذكورات التي في الحديث ليست من باب
الحصر.
أ - غض البصر: الأمر بغض البصر يشترك فيه الرجال والنساء على
حد سواء، وذلك لأن إطلاق البصر فيما يحرم يجلب عذاب القلب وألمه، وهو يظن
أنه يروح عن نفسه ويبهج قلبه، ولكن هيهات.
وأعظمهم عذاباً مدمنهم، وكما قال ابن تيمية رحمه الله: ( تعمد النظر يورث
القلب علاقة يتعذب بها الإنسان، وإن قويت حتى صارت غراماً وعشقاً زاد
العذاب الأليم، سواء قدر أنه قادر على المحبوب أو عاجز عنه، فإن كان عاجزاً
فهو في عذاب أليم من الحزن والهم والغم، وإن كان قادراً فهو في عذاب أليم
من خوف فراقه، ومن السعي في تأليفه وأسباب رضاه! ) انتهى كلامه رحمه الله.
وأصل ذلك ومبدؤه من النظر، فلو أنه غض بصره لارتاحات نفسه وارتاح قلبه.
والشرع المطهر لم يغفل ما قد يقع من الناس بدون قصد منهم، بل أمر من
نظر إلى امرأة أجنبية بدون قصد منه أن يصرف بصره عنها ولا يتمادى. قال
جرير بن عبدالله رضي الله عنه:
{ سألت رسول الله عن نظر الفجأة فأمرني أن أصرف بصري } [رواه مسلم]. ومعنى نظر الفجأة: أن يقع بصره على الأجنبية من غير قصد فلا
إثم عليه في أول ذلك، ويجب عليه أن يصرف بصره في الحال، فإن صرف في الحال
فلا إثم عليه، وإن استدام النظر أثم لهذا الحديث، قاله النووي.
ب - كف الأذى: ومن حقوق الطريق، كف الأذى وعدم إيذاء الناس
في أبدانهم أو أعراضهم. وفي الحديث الذي رواه عبدالله بن عمرو رضي الله
عنهما، أن النبي
قال:
{ المسلم من سَلِم المسلمون من لسانه ويده... الحديث } [رواه البخاري ومسلم] والحديث من جوامع كلمه
،
فيشمل اللسان من تكلم بلسانه وآذى الناس في أعراضهم أو سبهم، ويشمل من
أخرج لسانه استهزاء وسخرية. وكذا اليد فإن أذيتها لا تنحصر في الضرب، بل
تتعداها إلى أمور أُخر كالوشاة بالناس، والسعي في الإضرار بهم عن طريق
الكتابة، أو القتل ونحو ذلك. بل إن من محاسن هذا الدين أن كان كف المرء شره
وأذاه عن الناس صدقة يتصدق بها على نفسه، جاء ذلك في حديث أبي ذر
قال: سألت النبي
: أي العمل أفضل؟ قال:
{ إيمان بالله وجهاد في سبيله }. قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال:
{ أعلاها ثمناً وأنفسها عند أهلها }. قلت: فإن لم أفعل؟ قال:
{ تعين صانعاً أو تصنع لأخرق }. قال: فإن لم أفعل؟ قال:
{ تدع الناس من الشر فإنها صدقة تصدق بها على نفسك } [رواه البخاري]. وعند مسلم:
{ تكف شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك }.
جـ - رد السلام: ومن حقوق الطريق: رد السلام، وهو واجب لقوله
في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:
{ خمس تجب للمسلم على أخيه: رد السلام، وتشميت العاطس، وإجابة الدعوة، وعيادة المريض، واتباع الجنائز } [رواه البخاري ومسلم]. وقد قصّر في هذا الباب خلق كثير، واقتصر سلامهم على
المعرفة، فمن عرفوه سلموا عليه أو ردوا عليه سلامه، ومن لم يعرفوه لم
يعيروه اهتماماً. وهذا خلل ومخالفة للسنة.
د - وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: هذا باب عظيم الشأن والقدر، به كانت هذه الأمة خير الأمم:
كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَتَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤمِنُونَ بِاللهِ [آل عمران: 110]. قال ابن كثير: قال عمر بن الخطاب
من سره أن يكون من تلك الأمة فليؤد شرط الله فيها، رواه ابن جرير، ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله بقوله تعالى:
كَانُواْ لا يَتَنَاهَونَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ [المائدة: 79].
وبتركه يحل بهم العقاب. فقد روى الإمام أحمد في مسنده قال: ( قام أبوبكر
فحمد الله عز وجل وأثنى عليه فقال: أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية
يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيكُم أَنفُسَكُم لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إذَا اهتَدَيتُم [المائدة:105] إلى آخر الآية، وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله
يقول:
{ إن الناس إذا رأوا المنكر، لا يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعقاب } ).
وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فوائد عظيمة للأمة، منها: نجاة
سفينة المجتمع من الهلاك والغرق، ومنها قمع الباطل وأهله، ومنها كثرة
الخيرات والحد من الشرور، ومنها استتباب الأمن، ومنها نشر الفضيلة وقمع
الرذيلة... إلخ.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس مقصوراً على جهة معينة (
كالهيئة مثلاً ) أو أناس معينين ( كرجال الحسبة )، بل إن الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر واجب على كل أحد، كلٌ بحسب استطاعته. والحديث الوارد في
ذلك عام لم يخصص أحداً من أحد. قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: سمعت
رسول الله
يقول:
{ من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان } [رواه مسلم]. ولكن ينبغي الإشارة هنا إلى أمور:
أولاً: التدرج في الإنكار: فلا يتحول المرء إلى مرتبة حتى يعجز عن التي قبلها، فلا ينكر بقلبه من يستطع الإنكار بلسانه، وهكذا.
الثاني: أن من كانت له ولاية فإنكاره يكون بأعلى مراتب الإنكار: فرب الأسرة هو السيد المطاع في البيت وتغييره يكون بيده فهو قادر على إزالة المنكر بيده ولا يعذر بترك ذلك.
الثالث: العلم بالمنكر أنه منكر قبل الإنكار: وهل هو من الأمور التي يسوغ فيها الخلاف، وهذا باب غلط فيه فئام من الناس، فليتنبه له.
الرابع: يجب أن يستشعر المُنكِرُ قاعدة المفاسد والمصالح: وأن لا يبادر إلى الإنكار إلا إذا علم أن مصلحته راجحة على مفسدته، ومتى
علم رجحان المفسدة وجب عليه الكف حتى لا يفتح باب شر وإفساد.
الخامس: إذا عجز المُنكرُ عن المرتبة الأولى والثانية: فلا يغفل عن قلبه ويمر عليه المنكر دون إنكار بالقلب وظهور آثار ذلك على صفحات وجهه.
هـ - هداية السائل عن الطريق: ومن حقوق الطريق - أيضاً -
إرشاد السائل عن الطريق، وهدايته إليه، سواءً كان ضالاً أو أعمى. وجاء هذا
الحق مصرحاً به في حديث أبي هريرة
في قصة الذين سألوا النبي
عن حق الطريق قال:
{ وإرشاد السبيل } [رواه أبو داود]. وفي حديث آخر لأبي هريرة
ما يبين أن هداية السبيل من الصدقات، قال: قال رسول الله
:
{ ودلُّ الطريق صدقة } [رواه البخاري].
2 - ومن حق الطريق: إزالة الأذى من الطريق:
من الآداب المستحبة في الطريق! إزالة الأذى عن الطريق، بل هي من الإيمان: قال
:
{ الإيمان بضع وسبعون شعبة أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان } [رواه البخاري].
وهي من الصدقات، وبسببها أدخل رجل الجنة، ففي حديث أبي هريرة
قال: قال رسول الله
:
{ كل سلامى من الناس عليه صدقة... ثم قال: وتميط الأذى عن الطريق صدقة } [رواه البخاري ومسلم]. وعنه أيضاً أن رسول الله
قال:
{ بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره، فشكر الله له فغفرله... الحديث } [رواه البخاري ومسلم] وعند أبي داود: قال رسول الله
:
{
نزع رجلاً لم يعمل خيراً قط غصن شوك عن الطريق، إما كان في شجرة فقطعه
وألقاه، وإما كان موضوعاً فأماطه، فشكر الله له بها فأدخله الجنة }.
3 - ومن حق الطريق: تحريم قضاء الحاجة في طريق الناس أو ظلهم:
حذر رسولنا
،
من التخلي في طريق الناس أو ظلهم، لأن ذلك حق عام، فلا يحل لامريء أن يفسد
على الناس طرقهم التي يمشون عليها، أو ظلهم الذي فيه يجلسون، وبه يتقون حر
الشمس. فعن أبي هريرة
قال: قال رسول الله
:
{ اتقوا اللعانين }. قالوا وما اللعانان يا رسول الله؟ قال:
{ الذي يتخلى في طريق الناس، وظلهم } [رواه مسلم]. ومعنى قوله
:
{ اتقوا اللعانين } أي: اجتنبوا الأمرين اللذين يجلبان لعن الناس وشتمهم، لأن من تخلى في طريق الناس أو ظلهم، لا يكاد يسلم من سب الناس وشتمهم.
4 - ومن حق الطريق: أن الرجال أحق بوسط الطريق من النساء:
من حرص صاحب الشرع
على تميز النساء على الرجال، وقطع كل طريق يؤدي إلى الفتنة بهن، أن جعل
حافة الطريق للنساء وأوسطه للرجال، حتى لا يختلط الرجال بالنساء وتعظم
الفتنة - كما هو الحال الآن إلا من رحم الله - فعن أبي أسيد الأنصاري
أنه سمع رسول الله
يقول وهو خارج من المسجد، فأختلط الرجال مع النساء في الطريق، فقال رسول الله
للنساء:
{ استأخرن فإنه ليس لكنّ أن تحققن الطريق، عليكُنّ بحافات الطريق } فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به
[رواه أبو داود]. وسير النساء بمحاذاة جوانب الطريق أستر لهن، وأقرب
للحياء، لا أن ينافسن الرجال في طريقهم ويقتحمونه معرضين أنفسهن وغيرهن
للفتنة. وأول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء، وهلاكها كان بسبب ذلك.
5 - ومن حق الطريق: إعانة الرجل في حمله على دابته أو رفع متاعه عليها:
ومن آداب الطريق المستحب فعلها أنك إذا رأيت رجلاً يريد أن يركب دابته
وكان ذلك يشق عليه، فإنك تعينه على ذلك، أو تعينه في حمل متاعه، ويمكن فعل
ذلك الآن، فإن بعض كبار السن قد لا يتمكن من الركوب في ( العربات المتحركة )
بسهولة، وخصوصاً إذا كانت كبيرة.
وفعل ذلك كله من الصدقة التي يؤجر المسلم عليها. فعن أبي هريرة
عن النبي
قال:
{ كل سُلامى عليه صدقة، كل يوم، يعين الرجل في دابته يحامله عليها أو يرفع عليها متاعه صدقة... الحديث } [رواه البخاري]، ولفظ مسلم:
{ فتحمله عليها }. وبالله التوفيق.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
راجعو الاحاديث