من أحكام الصلاة في الشتاء
الجمع بين الصلاتين:
وفيه مسائل:
الأولى: مشروعية الجمع بين الصلاتين:أخرج مسلم في صحيحه، عن ابن عباس
أنه قال: (صلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- الظهر والعصر جميعاً،
والمغرب والعشاء جميعاً في غير خوف ولا مطر).
وأخرج مسلم في صحيحه -أيضاً-، عن عبدالله بن شقيق، قال خطبنا ابن عباس
بالبصرة يوماً بعد العصر حتى غرَبت الشمس، وبدت النجوم، وجعلَ الناسُ
يقولون: الصلاة! الصلاة! قال فجاءه رجل من بني تميم لا يَفتُر ولا يَنثني:
الصلاة! الصلاة! فقال ابن عباس: أتعلمُني السنة، لا أم لك!? ثم قال: رأيت
رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ).
قال عبدالله بن شَقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء! فأتيت أبا هريرة، فسألته، فصدق مقالته.
المسألة الثانية: وجه الدِّلالة: قال شيخ الإسلام ابن تيميّة: (فقول ابن
عباس: جمع من غير كذا ولا كذا، ليس نفياً منه للجمع بتلك الأسباب، بل
إثباتٌ منه، لأنه جمع بدونها، وإن كان قد جمع بها أيضاً، ولو لم يُنقل أنه
جمع بها فجمعُه بما هو دُونَها دليلٌ على الجمع بها بطريق الأولى، فيدل
على الجمع للخوف والمطر، وقد جمع بعرفة ومزدَلِفة من غير خوف ولا مطر ).
وقال: (وبهذا استدل أحمد به على الجمع لهذه الأمور بطريق الأولى، فإن هذا
الكلام يدل على أن الجمع لهذه الأمور أولى، وهذا من باب التنبيه بالفعل،
فإنه إذا جَمَع ليرفع الحرجَ الحاصلَ بدون الخوف والمطر والسفر، فالحرجُ
الحاصلُ بهذه أولى أن يُرفع، والجمع لها أولى من الجمع لغيرها ).
وقال ابن حجر في فتح الباري، والنووي في شرح مسلم: (وذهب جماعة من الأئمة
إلى جواز الجمع في الحضر للحاجة لمن لا يتخذه عادة، وهو قول ابن سيرين
وأشهب من أصحاب مالك، وحكاه الخطابي عن القفال الشاشي الكبير من أصحاب
الشافعي، وعن أبي إسحاق المروزي، عن جماعة من أصحاب الحديث، واختاره ابن
المنذر ).
وقال شيخ الإسلام ابن تيميّة مُعلقاً على حديثِ عبدِاللهِ بن شقيق عن ابن
عباس: (فهذا ابن عباس لم يكن في سفر ولا في مطر، وقد استدل بما رواه على
فعله، فعُلم أن الجمع الذي رواه لم يكن في مطر، ولكن؛ كان ابن عباس في أمر
مهم من أمور المسلمين؛ يخطبُهم فيما يحتاجون إلى معرفته، ورأى: أنه إنْ
قطعه ونَزل فاتت مصلحتُه، فكان ذلك عِندَه من الحاجات التي يجوز فيها
الجمع، فإن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان يجمع بالمدينه لغير خوف ولا
مطر، بل للحاجة تَعرِضُ له؛ كما قال: (أراد أن لا يُحرج أُمّته ). إلخ.
وقال أيضا –رحمه الله-: (وإنما شُرع الجمعُ لئلا يُحْرَجَ المسلمون ).
المسألة الثالثة: اختلاف الفقهاء:قال الخطابي في (معالم السنن ): (وقد
اختلف الناس في جواز الجمع بين الصلاتين للمطر في الحضر، فأجازه جماعة من
السلف, رُوي ذلك عن ابن عمر، وفعَلَه عُروة وابن المسيِّب، وعمر بن عبد
العزيز، وأبو بكر بن عبدالرحمن، وأبو سلمة، وعامة فقهاء المدينة, وهو قول
مالكٍ والشافعيِّ وأحمد ).
وقال ابن كثير في (المسائل الفقهية ) مبيناً:
(وقال الشافعي بجواز الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بعذر المطر في الجماعة لحديث ابن عباس.
وقال مالك وأحمد: يجوز ذلك في المغرب والعشاء، ولا يجوز في الظهر والعصر.
وأبو حنيفة أشد منعاً لهذا وهذا مطلقاً ).
المسألة الرابعة: الجمع بين الظهر والعصر:
فإن بعض أهل العلم يُرون الجمع بين المغرب والعشاء، ويمنعونه بين الظهر
والعصر! مع أن حديثَ ابن عباسٍ الذي استدلوا به أصلا على مشروعية الجمع بين
المغرب والعشاء، وهو نفسُه الذي فيه –أيضاً- دليلُ مشروعيةِ الجمعِ بين
الظهر والعصر على حد سواء!
المسألة الخامسة: صفة الجمع:اختلف أهل العلم في صفة الجمع، فمنهم من حمله
على الجمع الحقيقي، بتقديم إحدى الصلاتين إلى وقت الأُخرى، أو تأخيرها،
ومنهم من حمله على الجمع الصوري بتأخير الصلاة الأولى إلى آخر وقتها مع
تعجيل الصلاة الثانية في أول وقتها.
وينبغي قبل الوقوف على الصواب في ذلك التأكيد على نقطتين في هذه المسألة:
الأولى: أن الجمعَ رخصة، والرخصة عند الأصوليين هي: الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر.
الثانية: أنّ هذه الرخصة منوطة بدفع الحرج والمشقة.
وعليه فأقول:
قال الحافظ العراقي: (إن الجمع رخصة، فلو كان ما ذكروه [من الجمع الصوري]
لكان أشدَّ ضِيْقاً وأعظمَ حرجاً من الإتيان بكل صلاة في وقتها ). ووصف
النوويُّ الجمع الصوري في (شرح مسلم ) بأنه: (احتمال ضعيف أو باطل، لأنه
مُخِالف للظاهر مخالفةً لا تُحتمل ).
المسألة السادسة: النية في الجمع:لا تُشترط النية في الصلاة الأولى لأنها
على حالها وفي وقتها، ولم يطرأ عليها شيء، إنما الصلاة الثانية هي التي
ستقدّم إلى وقت الأولى، فيشترط إيقاع النية عندها. هذا في جمع التقديم،
وعند جمع التأخير يكون العكس. قال شيخ الإسلام: (ولم يَنْقل قطٌ أحدٌ عن
النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه أمر أصحابه لا بنية القصر ولا نيةِ جمع،
ولا كان خلفاؤه وأصحابه يأمرون بذلك مَن يصلي خلفهم، مع أن المأمومين أو
أكثرهم لا يعرفون ما يفعله الإمام ).
المسألة السابعة: القربُ والبعد من المسجد:ذكر بعض الفقهاء مَنعُ مَن كان
قريباً مِن المسجد من الجمع بين الصلاتين، وأجازوا ذلك فقط للبعيد منه!
وفي (البيان والتحصيل ) لابن رشد: «أن الإمام مالكاً سُئل عن القوم، يكون
بعضهم قريبَ المنزل من المسجد، إذا خرج منه دخل إلى المسجد من ساعته ,
وإذا خرج من المسجد إلى منزله مثل ذلك , ومنهم البعيدُ المنزل عن المسجد ,
أترى يجمعوا بين الصلاتين كلُّهم في المطر؟ فقال : ما رأيتُ الناس إذا
جمعوا إلا القريبَ والبعيدَ، فهم سواء يجمعون , قيل : ماذا ؟ فقال : إذا
جمعوا؛ جمع القريبُ منهم والبعيدُ».
قال ابن رشد متعقّباً عليه: «وهذا كما قال، لأن الجمع إذا جاز من أجل
المشقة التي تَدخلُ على مَن بَعُدَ, دخل معهم مَن قَرُبَ، إذ لا يصحّ لهم
أن ينفردوا دونهم، فيصلوا كل صلاة في وقتها جماعةً، لما في ذلك من تفريق
الجماعة، ولا أن يتركوا الصلاة في جماعة». وهذا اختيار الإمام الشافعي.
المسألة الثامنة: أحكام المسبوق عند الجمع:إذا أدرك المسبوق بعد صلاته
الصلاة الأولى جزءً من الصلاة المجموعة مع الإمام جاز له إكمال الجمع؛
بدليل عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا
) . فإن لم يُدرك شيئاً من الصلاة المجموعة لم يَجُز له الجمع.
وهناك أربع صور لِما سبق:
الأولى: من جاء أثناء صلاة الظهر –عند الجمع بين الظهر والعصر- له أن يُتم صلاته، ثم يلحق بصلاة العصر.
ومثل ذلك من جاء أثناء صلاة المغرب عند الجمع بين المغرب والعشاء.
الثانية: من جاء عَقِب انتهاء صلاة الظهر يدخل مع مُصلي العصر بنية الظهر، والجمع يكون فاته لأنه لم يدرك شيئاً من الصلاة الأولى.
الثالثة: من جاء في أول الصلاة العشاء ولم يُصل المغرب ماذا يفعل؟
يقتدي بالإمام الذي يصلي العِشاء وينوي هو صلاةَ المغرب، فإذا قام الإمام
إلى الركعة الرابعة نوى هذا المأموم المفارقة بينه وبين الإمام، ثم يجلس
ويتشهد ويتم صلاتَه لوحده.
وله أن يقوم بعد فراغه من الصلاة الأولى ليلحق الإمامَ بجزء من صلاة العشاء المجموعة، ثم يُتم ما فاته، كالوضع الطبيعي المعتاد.
الرابعة: من جاء بعد انتهاء الركعة الأولى فما فوق من صلاة العشاء وهي
المجموعة، لا يجوز له الجمع، لأنه لم يدرك إلا ما يسعَ الصلاة الأولى، وأما
الصلاة المجموعة فلم يدرك منها شيئاً.
المسألة التاسعة: الجمع في غير المسجد:على قسمين: الأول: البيت والمصلى: لا يجمع أحد في بيته أو في مصلى مُلحقٍ بعمله أو مدرسته.
القسم الثاني: المنفرد والجماعة: فيه نوعين مِن الجمع:
الأول: إما لعذر المطر والبرد ونحوهما فلا يجوز إلا في جماعة؛ لكونه عذراً عاماً.
أما الثاني: العذر الشخصي؛ كالمرض والأذى والحرج الخاص ونحو ذلك؛ فإنه
يجوز لكونه متعلقاً بالمشقة التي تلحق المصلي الفرد ومقدارها. والضابط في
هذا العذر أن الإنسان حسيب نفسه؛ كما قال تعالى: {بل الإنسان على نفسه
بصيرة ولو ألقى معاذيره}.
المسألة العاشرة: الجمع بعد الجماعة الأولى:جمهور العلماء على المنع.
المسألة الحادية عشر: صلاة السنن عند الجمع:تُصلى السنن عِقِبَ الجمع، ولا
حرج على من صلى السنن مع الوتر عَقِب صلاتي المغرب والعشاء، حتى ولو لم
يدخل الوقت الحقيقي للصلاة الثانية المجموعة.
المسألة الثانية عشرة:كيفية الأذان والإقامة عند الجمع؟!ذهب جمهور العلماء
أنه يؤذن أذان واحد ويُقام لكل صلاة إقامةٌ خاصة بها. وهذا هو الراجح.
وللموضوع تتمة
[b][b][b][b][b][b][b]
اللهم اغفر لكاتبها وناقلها,وقارئها واهلهم وذريتهم واحشرهم معا سيد المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم[/b][/b][/b][/b][/b][/b][/b]