الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على نبيه المصطفى ؛ أما بعد ....
قال فضيلة الشيخ (إبراهيم الرحيلي) – حفظه الله ورعاه-، في كتابه الماتع
(التكفير وضوابطه) تحت عنوان " معتقد المرجئة في مرتكب الكبيرة " (ص 193)
: وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية: أن القول بأن أهل الكبائر يدخلون الجنة
ولا يدخلون النار هو قول غالية المرجئة، وقد تقدم أن المرجئة ثلاث طوائف:
الجهمية وهم غلاتهم، والكرّامية، ومرجئة الفقهاء.
فالجهمية هذا القول المذكور هو قولهم .
وأما الكرامية: فالظاهر من كلام شيخ الإسلام في نقل مذهبهم أنهم يقولون بدخول أهل الكبائر الجنة كذلك.
قال" وقالت الكرامية هو القول فقط فمن تكلم به فهو مؤمن كامل الايمان، لكن
إن كان مقراً بقلبه كان من أهل الجنة، وإن كان مكذباً بقلبه كان منافقاً
من أهل النار، وهذا القول هو الذي اختصت به الكرامية وابتدعته، ولم يسبقها
أحد الى هذا القول وهو آخر ما أحدث من الأقوال في الإيمان، وبعض الناس
يحكى عنهم أن من تكلم به بلسانه دون قلبه فهو من أهل الجنة، وهو غلط
عليهم، بل يقولون: إنه مؤمن كامل الإيمان وأنه من أهل النار، فيلزمهم أن
يكون المؤمن الكامل الإيمان معذباً فى النار بل يكون مخلداً فيها " .
فأفاد قولهم: " من تكلم بالإيمان وأقر بقلبه فهو من أهل الجنة "، دخول أهل
الكبائر في ذلك، وأنهم يقطعون بدخولهم الجنة ابتداءً، فإن أهل الكبائر لم
يخالفوا بترك القول والاعتقاد الذي هو أصل الإيمان، وإنما خالفوا بارتكاب
بعض المحرمات التي لا تتنافى مع إقرار القلب، وأما المنافقون فهم عندهم من
أهل النار لتركهم إقرار القلب وإن سموهم في الدنيا مؤمنين.
ولهذا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض مواطن من كتبه أن الكرامية خالفوا أهل السنة في حكم المنافقين في الاسم دون الحكم.
قال رحمه الله: "وقول ابن كرام فيه
مخالفة فى الإسم دون الحكم فإنه وإن سمى المنافقين مؤمنين يقول إنهم
مخلدون فى النار فيخالف الجماعة في الإسم دون الحكم وأتباع جهم يخالفون فى
الاسم والحكم جميعا" ,
فمقصود شيخ الإسلام بقوله:"خالفوا في الاسم دون الحكم"؛ أي: في أمر
المنافقين كما هو بيّن من سياق الكلام، وذلك أن الكرامية لما قالوا إن
الإيمان هو القول فقط وألزموا بأن المنافقين على مذهبهم من أهل الإيمان
وأنهم يكونون في الجنة فبيّن أنهم وإن سموهم مؤمنين إلا أنهم يقولون هم في
النار؛ لأنهم لم يقروا بقلوبهم فكان خلافهم في الاسم دون الحكم، وأما حكم أهل الكبائر عندهم فظاهر من كلام شيخ الإسلام السابق أنهم يرون أنهم في الجنة
، كما أن هذا هو المتلائم مع مذهبهم عندما جعلوا شرط دخول الجنة هو تلفظ
اللسان وإقرار القلب ولم يذكروا العمل) انتهى كلامه – حفظه الله- .
قلت: إنَّ الشيخ إبراهيم الرحيلي أنَّ حكم مرتكب الكبيرة- وهو دخول الجنة
ابتداءً- عند غلاة المرجئة و(الكرامية) سواء، وهذه المساواة بينهما في هذه
المسألة غيرُ دقيقة ولا صحيحة .
والصواب: أنَّ هذا المعتقد الباطل العاطل انفردت به (الجهمية) ومَن وافقهم
– فقط- ، أما باقي الطوائف من المرجئة – باستثناء بعض الشيعة والأشعرية-
فإنهم يوافقون أهل السنة في قولهم :
(أنه قد يجتمعُ في الشخص حسناتٌ توجب له الجنة -بفضل الله-، وسيئاتٌ يستحق
بها النار ) ، (أنّ الشخص الواحد قد يدخل الجنة والنار جميعًا -عندهم-) .
وقد بينتُ هذه المسألة بشيءٍ من التفصيل في رسالتي " نصيحة العباد حول
رسالة (نقض أصول التكفير لسمير مراد ،تعقُّبات ومؤاخذات ، وانتقاد) ، حيثُ
اضطرب الأخ المكرم – سمير مراد – في بيان منهج غلاة المرجئة، وللفائدة
أسوقُ – هنا- بعض ما قلته – هناك – (ص43-46) :
"ويعظُم -لَعَمري- العجبُ -عندي- أنك لم تورد أيَّ ذكرٍ لغلاة المرجئة في
كلام شيخ الإسلام الكثير الذي حشدته متتاليًا ؛ دون أن يظهر للقارئ في عدة
مواضع مرادُك منه بوضوح!!، وبالرّجوع إلى كلام شيخ الإسلام المعني بهذه
المسألة-والذي أهملتَهُ- نجدُ الآتي:
أ) أنّ منهجَ غلاة المرجئة في الوعيد نفيُ العلم - أو التوقف بالعلم-
بدخول أحدٍ من أهل الكبائر في النار، وحُكي عن بعضهم الجزمُ بعدم دخولها؛
كما قال شيخ الإسلام في «الفتاوى» (7/297): «وقول (غلاة) المرجئة الذين
يقولون:
ما نعلم أنّ أحدًا منهم يدخلُ النار؛ بل (نقف) في هذا كلّه، وحُكي عن
(بعض) غلاة المرجئة الجزم بالنفي العام».وانظر «الفتاوى» (7/486 )،
(7/501-502).
ب) تمييز (الواقفة) من المرجئة - أحيانًا- في كلام شيخ الإسلام عن (غلاة)
المرجئة؛ الذين (يجزمون) بعدم دخول أهل الكبائر في النار -كما حُكي عن
مقاتل بن سليمان، واستظهر الإمامُ عدم ثبوته-، فقد قال- رحمه الله- في
«مجموع الفتاوى» ( 7/486): «فقد تواترت الأحاديثُ عن النبيِّ في أنه يخرج
أقوامٌ من النار بعدما دخلوها، وأنّ النبيَّ يشفع في أقوام دخلوا النار،
وهذه الأحاديثُ حجةٌ على الطائفتين:
الوعيدية؛ الذين يقولون: مَن دخلها من أهل التوحيد لم يخرج منها.
وعلى (المرجئة الواقفة)؛ الذين يقولون: لا ندري هل يدخل من أهل التوحيد النار أحدٌ أم لا؟!
كما يقول ذلك طوائف من الشيعة ، والأشعرية ؛ كالقاضي أبي بكر، وغيره.
وأمَّا ما يذكر عن (غلاة المرجئة) أنهم قالوا: لن يدخل النارَ من أهل
التوحيد أحدٌ، فلا نعرف قائلًا مشهورًا من المنسوبين الى العلم يُذكر عنه
هذا القول». اهـ
جـ) نجاةُ مَن يقول بدخول أهل الكبائر في النار من الخلود فيها، بمعنى أنه
قد يجتمعُ في الشخص حسناتٌ توجب له الجنة - بفضل الله-، وسيئاتٌ يستحق بها
النار، وهذا القول قالت به (عموم) المرجئة؛ كمرجئة الفقهاء والكرامية والكلابية والأشعرية والشيعة مرجئهم وغير مرجئهم؛ سوى الجهمية وطوائف من الشيعة والأشعرية -كما سبق آنفًا- .
وقد صرّح بذلك شيخ الإسلام بما يقطع النزاع؛ كما في « مجموع الفتاوى» (7/354):
«وأما أهل السنة والجماعة، والصحابة، والتابعون لهم بإحسان، وسائرُ طوائف المسلمين من أهل الحديث والفقهاء، وأهل الكلام من مرجئة الفقهاء، والكرامية، والكلابية، والأشعرية، والشيعة مرجئهم وغير مرجئهم،
فيقولون: إنّ الشخص الواحد قد يعذبه الله بالنار، ثم يدخله الجنة؛ كما
نطقت بذلك الأحاديثُ الصحيحة، وهذا الشخص الذي له سيئاتٌ عُذب بها، وله
حسناتٌ دخل بها الجنة، وله معصيةٌ وطاعةٌ باتفاق .
فإنّ هؤلاء الطوائفَ لم يتنازعوا في حكمه لكن تنازعوا في اسمه،
فقالت المرجئة -جهميتهم، وغير جهميتهم-: هو مؤمن كامل الإيمان، وأهل السنة
والجماعة على أنه مؤمنٌ ناقصُ الإيمان؛ ولولا ذلك لما عُذب، كما أنه ناقص
البر والتقوى باتفاق المسلمين ». اهـ
د) السّببُ الذي دعا غلاةَ المرجئةِ أن يقولوا ما قالوه في الوعيد:
هروبُهم من الأصل الفاسد: أنه لا يجتمع في العبد إيمانٌ ونفاق، وأنه لا
يجتمع في الشخص الواحد طاعةٌ يستحق بها الثواب، ومعصيةٌ يستحق بها العقاب،
وهذا الأصل تبنّاه الخوارج والمعتزلة، ووافقهم عليه جهمية المرجئة ومن
وافقهم، ولكنهم خالفوهم بقولهم: لا يدخل أهلُ الكبائر النار.
وقد جلّى هذه الحقيقةَ شيخُ الإسلام – رحمه الله- في «مجموع الفتاوى»
(7/353-354) بقوله: «وطوائف أهل الأهواء من الخوارج والمعتزلة والجهمية
والمرجئة -كرّاميهم، وغير كرّاميهم-، يقولون: إنه لا يجتمع في العبد إيمان
ونفاق، ومنهم مَن يدّعي الإجماع على ذلك، وقد ذكر أبو الحسن في بعض كتبه
الإجماع على ذلك!
ومن هنا غلطوا فيه ، وخالفوا فيه الكتاب والسنة وآثار الصحابة والتابعين
لهم بإحسان ، مع مخالفة صريح المعقول ، بل الخوارج والمعتزلة طرَّدوا هذا
الأصل الفاسد وقالوا: لا يجتمع في الشخص الواحد طاعةٌ يستحقُّ بها الثواب،
ومعصية يستحقُّ بها العقاب، ولا يكون الشخص الواحد محمودًا من وجه،
مذمومًا من وجه ، ولا محبوبًا مدعوًا له من وجه، مسخوطًا ملعونًا من وجه،
ولا يتصورُ أنّ الشخص الواحد يدخل الجنة والنار جميعًا-عندهم-، بل مَن دخل
إحداهما لم يدخل الأخرى- عندهم-؛ ولهذا أنكروا خروج أحدٍ من النار، أو
الشفاعة في أحد من أهل النار.
وحُكي عن غالية المرجئة أنهم وافقوهم على هذا الأصل، لكن هؤلاء قالوا: إنّ
أهلَ الكبائر يدخلون الجنة ولا يدخلون النار؛ مقابلةً لأولئك». اهـ
فخلاصةُ ما سبق أخي سمير: أنّك أطلقتَ العَنان لقلمِك في توسيعِ الدائرة
التي تضمُّ (غلاة المرجئة)، وهذا لا يعني أني أدعو إلى التهاون -حاشا
وكلا- في بدعة مرجئة الفقهاء، أو بدعة الأشاعرة، أو الكرامية الشنعاء؛
التي انفردوا بها دون سائر المقالات، ولكن يبقى نزاعهم في الفاسق الملّيّ
-حتى الكرّامية في اسم المنافق- في (الاسم) لا في حكمه. انظر « مجموع
الفتاوى» (7/475-476) » انتهى ما جاء في رسالتي " نصيحة العباد ... " .
لاحظ – أخي في الله- كيف اجتمع أهل الأهواء من الخوارج والمعتزلة والجهمية والمرجئة – كرّاميهم
، وغير كرّاميهم-، في قولهم : ( إنه لا يجتمع في العبد إيمان ونفاق)، وكيف
طرَّد الخوارج والمعتزلة هذا الأصل الفاسد وقالوا: (لا يجتمع في الشخص
الواحد طاعةٌ يستحقُّ بها الثواب، ومعصية يستحقُّ بها العقاب .. ولا
يتصورُ أنّ الشخص الواحد يدخل الجنة والنار جميعًا- عندهم-، بل مَن دخل
إحداهما لم يدخل الأخرى- عندهم-؛ ولهذا أنكروا خروج أحدٍ من النار، أو
الشفاعة في أحد من أهل النار) ؟ !! .
ولاحظ-أيضاً- في كلام شيخ الإسلام أنَّ (غالية) المرجئة- (فقط)- هم الذين (وافقوهم) على هذا الأصل، وإن خالفوهم في الحكم .
لا أحتاج إلى القول: إنَّ ما دعاني إلى هذا (التصويب) هو تقديري وحُبي
للشيخ إبراهيم الرحيلي، وإن كنتُ لهذه اللحظة لم أتشرف بلقائه ، فكيف لا
أحبه وهو ممن انبرى للذبِّ عن إمام أهل السنة ومحدِّثها الألباني – رحمه
الله- في كتابه "تبرئة الإمام المحدِّث من قول المرجئة المحدَث"، والذي نقل فيه (ص18) تزكية الإمام ابن باز لأخيه الألباني من كتابنا " برهان البيان بتحقيق أن العمل من الإيمان " .
وفي هذا القدر كفاية ، وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين