المطلب الثاني :البيـعة.
1. مفهوم البيعة:
قال ابن الأثير
( إن البيعة عبارة عن المعاقدة والمعاهدة، كأن كل واحد
منهما باع ما عنده من صاحبه، وأعطاه خالصة نفسه وطاعته ودخيلة أمره))
(النهاية لابن الأثير: 1/174).
وعرّفها ابن خلدون في مقدّمته
( العهد على الطّاعة ، كأنّ المبايع يعاهد
أميره على أن يسلّم له النّظر في أمر نفسه وأمور المسلمين ، لا ينازعه في
شيء من ذلك ، ويطيعه فيما يكلّفه به من الأمر على المنشط والمكره...
))(مقدمة ابن خلدون: 209)
وقال صلى الله عليه وسلم:]من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة
له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية[ (رواه مسلم).
والمسلم مأمور بدفع الجاهلية عن نفسه وحتى لا يفهم من لفظ الجاهلية الكفر
فإن المراد من الجاهلية هنا هي المعصية أي لا تكونوا كأهل الجاهلية أو لا
تتلبسوا بفعل من أفعال الجاهلية الكفرية وليس الكفر المخرج من الملة وذلك
أن الرجل كان إذا أسلم بدار الحرب ولم يهاجر - إما لعجز أو لتقصيرٍ منه
وإما لتمكنه من إقامة دينه بها - فهو مسلم بالرغم من عدم انضمامه للجماعة
والأمير ولو كانت البيعة شرط في إسلام الرجل لكانت في الصدر الأول لرسول
الله صلى الله عليه وسلم:]الذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء
حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم
وبينهم ميثاق[، وقال تعالى:]فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن[النساء:من
الآية92، وقال تعالى في الحديبية:]ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم
تعلموهم[الفتح:من الآية25، كانوا مستضعفين في مكة .
فعدم البيعة على الهجرة لا تقطع الصلات الإسلامية بالكلية فهي لا تكاد أن
تتجاوز معصية (ترك واجب) وهذا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم,وجماعته هي
الجماعة الحقة وإمامته هي الخلافة والإمارة الحقة.
2. كيفية البيعة و صورتها :
نقول والله أعلم الأصل أنه على كل أمير أن يبايع بأخذ اليد مصافحة مع التصريح بالقول في الأمر المبايع عليه وشرطه.
قال ابن خلدون
(وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده
تأكيداً للعهد، فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري ، وصارت البيعة تقترن
بالمصافحة بالأيدي . فبيعة رجال المسلمين للرّسول صلى الله عليه وسلم كانت
بالمصافحة مع الكلام . أمّا بيعة نسائهم له صلى الله عليه وسلم فكانت
بالكلام من غير مصافحة)) (مقدمة ابن خلدون 209).
أما النساء فقال النّوويّ: (( إنّ بيعة النّساء بالكلام من غير أخذ كفّ ،
وبيعة الرّجال بأخذ الكفّ مع الكلام . .))( شرح النووي على صحيح مسلم:13/10
).
وحين تخوّف عمر بن الخطّاب الاختلاف بين المسلمين قال لأبي بكر : ابسط يدك
يا أبا بكر ، فبسطها ، فبايعه ، ثمّ بايعه المهاجرون ، ثمّ بايعه الأنصار. (
المنتظم ابن الجوزي:1/434)
ويمكن للأمير العام أن يأخذ البيعة لنفسه عن طريق الأمراء الذين هم تحت
إمرته وهؤلاء بدورهم يأخذوا لأنفسهم بيعة متضمنة بيعة الأمير العام.
والأسئلة التي تطرح هنا :هل يجب معرفة الإمام باسمه وعينه؟ وهل ينسحب هذا على الأمراء (أمراء الجماعات الجهادية)؟:
قال العلماء
(ولا يجب على كافة الناس معرفة الإمام بعينه واسمه إلا من هو
من أهل الاختيار الذين تقوم بهم الحجة وتنعقد بهم الخلافة)) (الأحكام
السلطانية للماوردي:15، وينظر:الأحكام السلطانية للفراء: 27).
فلا((تجب معرفة الإمام باسمه وعينه على كافّة الأمّة، وإنّما يلزمهم أن
يعرفوا أنّ الخلافة أفضت إلى أهلها، لما في إيجاب معرفته عليهم باسمه وعينه
من المشقّة والحرج، وإنّما يجب ذلك على أهل الاختيار الّذين تنعقد ببيعتهم
الخلافة، وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء))(الموسوعة الفقهية 2/2165).
أمّا أمراء الجماعات الجهادية، فلا ينسحب هذا الأمر عليهم ـ والله أعلم ـ
بل لابد من معرفته إلا لضرورة أو حاجة فيكفيه عندها معرفة أميره المباشر ،
ولأسباب أمنية المصلحة فيها راجحة وواضحة يمنع أحياناً من معرفة اسم الأمير
أو عينه كما هو الحال اليوم.
والبيعة تكون على شروط تزول بزوال المشروط، و الإمامة لها مقصد تدوم بدوامه وتزول بزواله .
قال ابن حجر: ((والأصل في مبايعة الإمام أن يبايعه على أن يعمل بالحق ويقيم
الحدود ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر )) (فتح الباري شرح صحيح
البخاري:13/216).
3. تحريم نكث البيعة:
ويحرم نكث البيعة ففي الصحيحين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :]ثلاث لا
يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل
على فضل ماء بالفلاة يمنعه من بن السبيل ورجل بايع رجلا بسلعة بعد العصر
فحلف له بالله لأخذها بكذا وكذا فصدقه وهو على غير ذلك ورجل بايع إماما لا
يبايعه إلا لدنيا فإن أعطاه منها وفي وإن لم يعطه منها لم يف[(أخرجه مسلم).
فليس هناك عذر لأحد أن يترك جماعته وأميره لأمر يكرهه أو لمشاحنة أو مشحة
بمال مادام أن الشرط موجود ومعمول به وهو البيعة على الجهاد والنصرة، وليس
من شرط الأمير أن لا يذنب أو يخطئ فليست هذه أعذار فمصلحة الجماعة أعظم من
ترك البيعة لهذا الأمر ولا ينكث بيعة الإمام العام إلا إذا رأى كفرا بواحا
وأما أمراء الجهاد فيمكن أن يقيل نفسه إذا رأى أنه في بقائه معه متعاون على
الإثم والعدوان أو يكتشف أن أميره رؤيته غير شرعية أوليس عنده ورع في
الدماء .
قال الشاطبي
(وكذلك الجهاد مع ولاة الجور قال العلماء بجوازه قال مالك لو
ترك ذلك لكان ضررا على المسلمين فالجهاد ضروري والوالي فيه ضروري والعدالة
فيه مكملة للضرورة والمكمل إذا عاد للأصل بالإبطال لم يعتبر ولذلك جاء
الأمر بالجهاد مع ولاة الجور عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك ما جاء من
الأمر بالصلاة خلف الولاة السوء فإن في ترك ذلك ترك سنة الجماعة والجماعة
من شعائر الدين المطلوبة والعدالة مكملة لذلك المطلوب ولا يبطل الأصل
بالتكملة )) ( الموافقات :2/15).
فبيّن أن الجماعة في الجهاد والصلاة أمر ضروري وعدالة الإمام تكميلي فوجب النظر في هذا المقصد الشرعي والأخذ به فتدبره.
4. الشوكة والعدد في البيعة:
أ- المعتبر في البيعة شوكة المسلمين:
ذكر العلماء أنه لا اعتبار بمن نصبه أو بمن كانت شوكته وعصبته الكفار ,
بل المعتبر في البيعة شوكة المسلمين الأبرار،قال الجويني: ((فالوجه عندي
في ذلك أن نعتبر في البيعة حصول مبلغ من الاتباع والأنصار والأشياع يحصل
بهم شوكة ظاهرة ومنعة قاهرة بحيث لو فرض ثوران خلاف لما غلب على الظن أن
يصطلم أتباع الإمام فإذا تأكدت البيعة وتأطدت بالشوكة والعدد واعتضدت
وتأيدت بالمنعة واستظهرت بأسباب الاستيلاء والاستعلاء فإذ ذاك تثبت الإمامة
وتستقر وتتأكد الولاية وتستمر ولما بايع عمر مالت النفوس إلى المطابقة
والموافقة ولم يبد أحد شراسا وشماسا وتظافروا على بذل الطاعة على حسب
الاستطاعة ،وبتعين اعتبار ما ذكرته إن الشوكة لا بد من رعايتها ومما يؤكد
ذلك اتفاق العلماء قاطبة على أن رجلا من أهل الحل والعقد لو استخلى بمن
يصلح للإمامة وعقد له البيعة لم تثبت الإمامة))(الغياثي:1/56).
وفي الكلام المتقدم رد على من قال بإمامة من نصبه الكفار في العراق .
وقال الجويني وهو يتكلم عن الإمام العام
(وإن علمنا أنه لا يتأتى نصب
إمام دون اقتحام داهية دهياء وإراقة دماء ومصادمة أحوال جمة الأهوال وإهلاك
أنفس ونزف أموال فالوجه أن يقاس ما الناس مدفوعون إليه مبتلون به بما يفرض
وقوعه في محاولة دفعه فإن كان الواقع الناجز أكثر مما يقدر وقوعه في روم
الدفع فيجب احتمال المتوقع له لدفع البلاء الناجز وإن كان المرتقب المتطلع
يزيد في ظاهر الظنون إلى ما الخلق مدفوعون إليه فلا يسوغ التشاغل بالدفع بل
يتعين الاستمرار على الأمر))(الغياثي: 1/84).
ب- لا تنعقد الإمامة إلا ّبموافقة أهل الشوكة عليها:
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة ((وأما قول الرافضي إنهم
يقولون إن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر بمبايعة عمر
برضا أربعة فيقال له ليس هذا قول أئمة أهل السنة وإن كان بعض أهل الكلام
يقولون إن الإمامة تنعقد ببيعة أربعة كما قال بعضهم تنعقد ببيعة اثنين وقال
بعضهم تنعقد ببيعة واحد فليست هذه أقوال أئمة السنة بل الإمامة عندهم تثبت
بموافقة أهل الشوكة عليها ولا يصير الرجل إماما حتى يوافقه أهل الشوكة
عليها الذين يحصل بطاعتهم له مقصود الإمامة فإن المقصود من الإمامة إنما
يحصل بالقدرة والسلطان فإذا بويع بيعة حصلت بها القدرة والسلطان صار إماما
ولهذا قال أئمة السلف من صار له قدرة وسلطان يفعل بهما مقصود الولاية فهو
من أولى الأمر الذين أمر الله بطاعتهم مالم يأمروا بمعصية الله فالإمامة
ملك وسلطان والملك لا يصير ملكا بموافقة واحد ولا اثنين ولا أربعة إلا أن
تكون موافقة هؤلاء تقتضي موافقة غيرهم بحيث يصير ملكا بذلك وهكذا كل أمر
يفتقر إلى المعاونة عليه لا يحصل إلا بحصول من يمكنهم التعاون عليه ولهذا
لما بويع علي رضي الله عنه وصار معه شوكة صار إماما ولو كان جماعة في سفر
فالسنة أن يؤمروا أحدهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يحل لثلاثة
يكونون في سفر إلا أن يؤمروا واحدا منهم فإذا أمره أهل القدرة منهم صار
أميرا فكون الرجل أميرا وقاضيا وواليا وغير ذلك من الأمور التي مبناها على
القدرة والسلطان متى حصل ما يحصل به من القدرة والسلطان حصلت وإلا فلا إذ
المقصود بها عمل أعمال لا تحصل إلا بقدرة فمتى حصلت القدرة التي بها يمكن
تلك الأعمال كانت حاصلة وإلا فلا وهذا مثل كون الرجل راعيا للماشية متى
سلمت إليه بحيث يقدر أن يرعاها كان راعيا لها وإلا فلا , فلا عمل إلا بقدرة
عليه فمن لم يحصل له القدرة على العمل لم يكن عاملا والقدرة على سياسة
الناس إما بطاعتهم له وإما بقهره لهم فمتى صار قادرا على سياستهم بطاعتهم
أو بقهره فهو ذو سلطان مطاع إذا أمر بطاعة الله ولهذا قال أحمد في رسالة
عبدوس بن مالك العطار أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قال ومن ولي الخلافة فأجمع عليه الناس
ورضوا به ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمى أمير المؤمنين فدفع الصدقات
إليه جائز برا كان أو فاجرا وقال في رواية إسحاق بن منصور وقد سئل عن حديث
النبي صلى الله عليه وسلم من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية ما معناه
فقال تدري ما الإمام ؟ الإمام الذي يجمع عليه المسلمون كلهم يقول هذا إمام
فهذا معناه والكلام هنا في مقامين أحدهما في كون أبي بكر كان هو المستحق
للإمامة وأن مبايعتهم له مما يحبه الله ورسوله فهذا ثابت بالنصوص والإجماع
والثاني أنه متى صار إماما فذلك بمبايعة أهل القدرة له وكذلك عمر لما عهد
إليه أبو بكر إنما صار إماما لما بايعوه وأطاعوه ولو قدر أنهم لم ينفذوا
عهد أبي بكر ولم يبايعوه لم يصر إماما سواء كان ذلك جائزا أو غير جائز
فالحل والحرمة متعلق بالأفعال وأما نفس الولاية والسلطان فهو عبارة عن
القدرة الحاصلة ثم قد تحصل على وجه يحبه الله ورسوله كسلطان الخلفاء
الراشدين وقد تحصل على وجه فيه معصية كسلطان الظالمين ولو قدر أن عمر
وطائفة معه بايعوه وامتنع سائر الصحابة عن البيعة لم يصر إماما بذلك وإنما
صار إماما بمبايعة جمهور الصحابة الذين هم أهل القدرة والشوكة ولهذا لم يضر
تخلف سعد بن عبادة لأن ذلك لا يقدح في مقصود الولاية فإن المقصود حصول
القدرة والسلطان اللذين بهما تحصل مصالح الإمامة وذلك قد حصل بموافقة
الجمهور على ذلك فمن قال إنه يصير إماما بموافقة واحد أو اثنين أو أربعة
وليسوا هم ذوي القدرة والشوكة فقد غلط كما أن من ظن أن تخلف الواحد أو
الاثنين والعشرة يضره فقد غلط وأبو بكر بايعه المهاجرون والأنصار الذين
هم بطانة رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين بهم صار للإسلام قوة وعزة
وبهم قهر المشركون وبهم فتحت جزيرة العرب فجمهور الذين بايعوا رسول الله
صلى الله عليه وسلم هم الذين بايعوا أبا بكر وأما كون عمر أو غيره سبق إلى
البيعة فلا بد في كل بيعة من سابق ولو قدر أن بعض الناس كان كارها للبيعة
لم يقدح ذلك في مقصودها فإن نفس الاستحقاق لها ثابت بالأدلة الشرعية الدالة
على أنه أحقهم بها ومع قيام الأدلة الشرعية لا يضر من خالفها ونفس حصولها
ووجودها ثابت بحصول القدرة والسلطان بمطاوعة ذوي الشوكة فالدين الحق لا بد
فيه من الكتاب الهادي والسيف الناصر كما قال تعالى:]لقد أرسلنا رسلنا
بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد
فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب[الحديد:25،
فالكتاب يبين ما أمر الله به وما نهى عنه والسيف ينصر ذلك ويؤيده وأبو
بكر ثبت بالكتاب والسنة إن الله أمر بمبايعته والذين بايعوه كانوا أهل
السيف المطيعين لله في ذلك فانعقدت خلافة النبوة في حقه بالكتاب والحديد
وأما عمر فإن أبا بكر عهد إليه وبايعه المسلمون بعد موت أبي بكر فصار إماما
لما حصلت له القدرة والسلطان بمبايعتهم له وأما قوله ثم عثمان بن عفان بنص
عمر على ستة هو أحدهم فاختاره بعضهم فيقال أيضا عثمان لم يصر إماما
باختيار بعضهم بل بمبايعة الناس له وجميع المسلمين بايعوا عثمان بن عفان
ولم يتخلف عن بيعته أحد قال الإمام أحمد في رواية حمدان بن علي ما كان في
القوم أوكد بيعة من عثمان كانت بإجماعهم فلما بايعه ذوو الشوكة والقدرة
صار إماما وإلا فلو قدر أن عبد الرحمن بايعه ولم يبايعه علي ولا غيره من
الصحابة أهل الشوكة لم يصر إماما ))(منهاج السنة:1/526-533 )
5. أثر البيعة في انعقاد الإمامة:
أهل الحل والعقد هم العلماء وجماعة أهل الرّأي والتّدبير الّذين اجتمع فيهم
العلم بشروط الأمانة والعدالة والرّأي - إن اختيار أهل الحلّ والعقد
للإمام وبيعتهم له هي الأصل في انعقاد الإمامة ـ وقد روى البخاريّ عن عمر
بن الخطّاب رضي الله عنه قال: ( من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين
فلا يبايع هو ولا الّذي بايعه تغرة أن يقتلا) قال أبو يعلى: ((أمّا انعقاد
الإمامة باختيار أهل الحلّ والعقد فلا تنعقد إلاّ بجمهور أهل الحلّ والعقد،
قال أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم : الإمام الّذي يجتمع قول أهل الحلّ
والعقد عليه ، كلّهم يقول هذا إمام) ((الموسوعة الكويتية 2/ 3405)، قال أبو
يعلى: ((وظاهر هذا أنّها تنعقد بجماعتهم، وقيل: تنعقد بأقلّ من ذلك )) (
الموسوعة الفقهية 10/ 303)، وأمّا سائر النّاس، فالأصل وجوب البيعة على كلّ
واحد منهم بناءً على بيعة أهل الحلّ والعقد، لقول النّبيّ صلى الله عليه
وسلم: ]من مات وليس في عنقه بيعة لإمام مات ميتةً جاهليّةً[، و يكفي سائر
النّاس أن يعتقدوا أنّهم تحت أمر الإمام المبايع، وأنّهم ملتزمون بالطّاعة
له .
أما بيعة الجماعات الجهادية مع أميرها فينبغي أن تكون كبيعة الرضوان
والبيعات الخاصة الأخرى والتي تكون البيعة فيها خاصة لأمر ما (بيعة قتال),
ولا يقول أحد إن جميع أعضاء الجماعة مبايعتهم هي كمبايعة الإمام العام
وذلك لأن هذا القول يؤدي إلى تعدد الأئمة في البلد الواحد وليس من قائل به
يعتد بقوله على تعدد الإمام في القطر الواحد , فالأمراء الموجودون حالياً
ضمن جماعتهم يجب أن تكون هناك بيعة خاصة في قضية الجهاد والدفع, ولو كانت
البيعة على أساس أنه الإمام العام فليس في المبايَعين من الأمراء من فيه
صفات الإمام العام من بيعة أهل الحل والعقد أو الشوكة والغلبة وليس هو
للناس اليوم جنّة فليست الإمامة العامة هي لجماعة ما من المسلمين وبقية
المسلمين في البلد ليس لهم إمام ثم هذا يلزم الناس جميعاً في هذا البلد على
أن يبايعوا فلاناً من الأمراء على أنه الإمام (ومن مات وليس في عنقه بيعة
مات ميتة جاهلية) ولا اعتقد أحداً يقول بذلك , فمن منهم الإمام الذي أخذ
منزلة الإمام العام حتى تكون له بيعة في أعناق المسلمين عامة في هذا البلد
أو ذاك .
وسؤال يطرح هنا مفاده هل تجب البيعة الخاصة ونقصد بها البيعات التي تحصل
بين الناس أنفسهم وتحصل بين الناس وغير الإمام العام من عالم أو داعية أو
مجاهد أو آمر بالمعروف وناهٍ عن المنكر أو مع الإمام العام في غير بيعة
الإمامة ؟
والجواب أنه يجوز أن يتبايع نفر من الناس فيما بينهم على واجب من الواجبات
فيجب من باب إلزام النفس بأمر وهو العهد الذي التزمه على نفسه فيدخل في
عموم قوله تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ[]وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً[،
فلو تبايعوا بينهم على مباح أو مستحب لوجب الوفاء به كمن نذر ما لا يجب
عليه فيجب عليه بنذره ,ولو أن أحداً من الناس طلب بيعة خاصة لنفسه مع وجود
الإمام العام على فعل واجب أو مستحب من غير مضارة ومنازعة للإمام العام
لجاز ذلك فإن كثيراً من الناس تُلزِمه البيعة مالا يلتزمه بدونها كمن طلب
بيعة للموت في قتال العدو والبيعة الإستشهادية والبيعة على أن لا يفروا
وغيرها من البيعات وهذه البيعات تكون على شرط تزول بزواله فلا يجوز لأحد
نقض بيعته من غير سبب شرعي فمثلاً بيعة الرضوان حيث طلب النبي صلى الله
عليه وسلم من الصحابة البيعة للموت وعدم الفرار فكانت بيعة الرضوان والسبب
في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عثمان ليعلم قريشا أنه إنما جاء
معتمرا لا محاربا ففي غيبة عثمان شاع عندهم أن المشركين تعرضوا لحرب
المسلمين فاستعد المسلمون للقتال وبايعهم النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ
تحت الشجرة على أن لا يفروا وذلك في غيبة عثمان وقيل بل جاء الخبر بأن
عثمان قتل فكان ذلك سبب البيعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده
اليمنى أي أشار بها هذه يد عثمان أي بدلها فضرب بها على يده اليسرى فقال
هذه (أي البيعة) لعثمان أي عن عثمان .
ففي صحيح مسلم: ]باب استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال وبيان
بيعة الرضوان تحت الشجرة)) عن جابر قال كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة
فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة وقال بايعناه على أن لا نفر
ولم نبايعه على الموت وفي رواية: قال لم نبايع رسول الله صلى الله عليه
وسلم على الموت إنما بايعناه على أن لا نفر[(صحيح مسلم:3/1483).
و في صحيح البخاري: ]عن يزيد بن أبي عبيد قال قلت لسلمة بن الأكوع على أي
شيء بايعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية قال على الموت[(صحيح
البخاري:4/1529).
وعن عباد بن تميم قال:]لما كان يوم الحرة والناس يبايعون لعبد الله بن
حنظلة فقال بن زيد على ما يبايع بن حنظلة الناس قيل له على الموت قال لا
أبايع على ذلك أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان شهد معه
الحديبية[، وقد قال ابن حجر: ((لا تنافي بين قولهم بايعوه على الموت وعلى
عدم الفرار لأن المراد بالمبايعة على الموت أن لا يفروا ولو ماتوا وليس
المراد أن يقع الموت ولا بد)) (فتح الباري شرح صحيح البخاري: 6/118)
ولعل من الناس من بايع على الموت ومنهم من بايع على أن لا يفر كما ذكر
الترمذي
(ومعنى كلا الحديثين صحيح قد بايعه قوم من أصحابه على الموت وإنما
قالوا لا نزال بين يديك حتى نقتل وبايعه آخرون فقالوا لا نفر)) (سنن
الترمذي: 4/150) فالبيعة على عدم الفرار مع حرمة الفرار ابتداءً هو من جهة
التوكيد في الإيجاب وأما الموت فليس في الأصل واجب فلعل الرجل يفر ولا يكون
عاصياً إذا كثر العدو وهنا يكون من باب الثبات ولو مات فقد أوجب على نفسه
مالم يوجبه الشارع: ]الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ
فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا
مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ
اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ[الأنفال:66، ]لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ
عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا
فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ
فَتْحاً قَرِيباً[الفتح:18، ]إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا
يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ
فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ
اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً[الفتح:10.
قال ابن حجر
(وأخرج الطبري بسند صحيح عن يونس بن يزيد عن الزهري قال ((جعل
علي على مقدمة أهل العراق قيس بن سعد بن عبادة وكانوا أربعين ألفا بايعوه
على الموت فقتل علي فبايعوا الحسن بن علي بالخلافة وكان لا يحب القتال))
(فتح الباري: 13/63)ولما تنازل بالخلافة لمعاوية رضي الله عنه شق عليهم ذلك
وقد بايعوه على الموت فثاروا به وقطعوا عليه كلامه وخرقوا عليه سرادقه
وطعنه رجل في فخذه طعنة أشوته وانصرفوا عنه إلى الكوفة فحمل الحسن إلى
المدائن وقد نزف دمه فعولج وبعث إلى معاوية يذكر تسليمه الأمر إليه))
(البدء والتاريخ ج5/ص236)
قال ابن كثير
(قال عكرمة بن أبي جهل يوم اليرموك: قاتلتُ رسولَ الله صلى
الله عليه وسلم في مواطن وأفر منكم اليوم؟ ثم نادى: من يبايع على الموت؟
فبايعه عَمُّه الحارث بن هشام، وضرار بن الأزور في أربعمائة من وجوه
المسلمين وفرسانهم، فقاتلوا قُدَّام فسطاط خالد حتى أُثْبِتوا جميعا جراحا،
وقُتِل منهم خَلْقٌ منهم ضرار بن الأزور رضي الله عنهم وقد ذكر الواقدي
وغيره أنهم لما صرعوا من الجراح استقوا ماء فجيء إليهم بشربة ماء فلما قربت
إلى أحدهم نظر إليه الآخر فقال: ادفعها إليه، فلما دفعت إليه نظر إليه
الآخر فقال: ادفعها إليه، فتدافعوها كلهم من واحد إلى واحد حتى ماتوا جميعا
لم يشربها أحد منهم، رضي الله عنهم أجمعين)) (البداية والنهاية: ج7/
11،12).
وهناك سؤال آخر مفاده لو أن أحد الأمراء أخذ بيعة له من جملة من الناس على
السمع والطاعة, هل يكون ملزماً لمن بايعه أن يبايعوه كذلك إذا بايع أميراً
آخر ؟ .
الجواب: إذا كانت بيعة هؤلاء لأمير مجموعتهم متضمنة بيعة الإمام العام
للجماعة فخروج الأمير من الجماعة وانضمامه لجماعة أخرى لا يلزم خروج
الأتباع من الجماعة لأن بيعة الأمير العام وبيعة الجماعة التي ينتمي إليها
لا تزال في عنقه إلا أن يكون هناك ما يدعو لنقض البيعة شرعاً .
أما إذا كان أمير مجموعة والبيعة في أعناق أتباعه لوحده هو وليس هناك أمير
عام فلو انضم لجماعة ما من الجماعات الجهادية الأخرى العاملة في الوسط
الجهادي فليس بلازم للأتباع والله أعلم لأنه لابد من بيعة جديدة تتضمن بيعة
الإمام الجديد والسمع والطاعة المأخوذة له في البيعة الأولى له وليست
لغيره ، ولما كان من شروط البيعة السمع والطاعة في المنشط والمكره وأثرة
على النفس كما جاء في الأحاديث النبوية هي من باب الحفاظ على المصلحة
العامة والجماعة ودرء المفسدة التي لا تتحقق إلا بالصبر على هذه الشروط
فيكون من المستحسن للأتباع إتباع أميرهم في بيعة الإمام الجديد إلا أن يكون
مانع شرعي قد يراه المجاهد .
فعلى الأتباع من المجاهدين احترام الجماعة التي ينتمون إليها فلا يخلعوا بيعة أميرهم إلا إذا خلع نفسه أو خالف شرطه والله أعلم .
أما من حيث الأصل في البيعة فهم تبع لأميرهم ولا يشترط رضاهم وأخذ رأيهم
فيما يقوم به فهم في هذا الأمر كحالهم في طاعته في المنشط والمكره والعسر
واليسر، فواجب السمع والطاعة في أعناقهم ولو لم يذكر أصالة في البيعة فهو
معلوم ضمناً من شروط بيعة الإمام على النصرة والجهاد ويفرق في هذا بين من
كانت له بيعة متضمنة بيعة إمام جماعة عام وبيعة لأمير مباشر فقط والله
أعلم.
6. السمع والطاعة للأمير والنصح له،والتحذيرات الواردة في هذا الباب:
أ-السمع والطاعة:
اعلم أخي المسلم أنَّ السمع والطاعة لأميرك عبادة، إذ إن طاعته من طاعة
الله عزّ وجل، والسمع والطاعة من أهم أسباب اجتماع كلمة المسلمين ووحدتهم،
ففي طاعته حسم لاختلاف الآراء التي تؤدي إلى التنازع والشقاق وذهاب الشوكة
,وأمراء الجماعات اليوم يفترض بمبايعتهم من قبل أتباعهم أنهم بمنزلة أولي
الأمر في السمع والطاعة فيما تبايعوا عليه واشترطوه .
وورد الأمر بطاعة الأمير في نصوص عديدة بَيَّنَتْ أن هذه الطاعة إنما تجب
لمن قام بكتاب الله تعالى، وبَيَّنَتْ حدود هذه الطاعة، ومن هذه النصوص:
قال تعالى:]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله
والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن
تأويلا[النساء:59، قال ابن حجر: ((قال الطيـبي: أعاد الفعل في قوله وأطيعوا
الرسول ولم يعده في أولى الأمر إشارة إلى أنه يوجد فيهم من لا تجب طاعته،
ثم بَيَّن ذلك بقوله: فإن تنازعتم في شيء كأنه قيل فإن لم يعملوا بالحق فلا
تطيعوهم وردوا ما تخالفتم فيه إلى حكم الله ورسوله )) ( فتح الباري 13/
112) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((وكل من كان متبوعا فهو من
أولي الأمر))(مجموع الفتاوى: 28/ 170 )
وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم:]من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد
عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني وإنما
الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به فإن أمر بتقوى الله وعدل فإن له بذلك
أجرا وإن قال بغيره فإن عليه منه) [متفق عليه).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((وما أمر الله به ورسوله من طاعة
ولاة الأمور ومناصحتهم واجب على الإنسان وإن لم يعاهدهم عليه، وإن لم يحلف
لهم الأيمان المؤكدة، كما يجب عليه الصلوات الخمس، والزكاة، والصيام، وحج
البيت. وغير ذلك مما أمر الله به ورسوله من الطاعة، فإذا حلف على ذلك كان
ذلك توكيدا وتثبيتا لما أمر الله به ورسوله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم
... إلى أن قال : أن معاقدة ولاة الأمور هي أعظم العقود التي أمر الله
بالوفاء بها)).( مجموع الفتاوى: 35/ ص-11).
فيجب إذن طاعة ولاة الأمور، وهذه الطاعة تكون حسب ما يأتي:
أولاً: الطاعة واجبة في المنشط والمكره وليس في المنشط فقط، بل يمكن القول
بأن الاختبار الحقيقي لصدق الطاعة لا يكون إلا في المَكْره، فالكل يطيع في
المنشط أي في الأعمال اليسيرة أو ذات النفع العاجل أو المحببة إلى النفس،
أما في المكره وهو مالا ترغبه النفس من أعمال فلا يطيع حينئذ إلا الصادقون.
ويمكن القول كذلك إن الطاعة في المكره فيصل بين المؤمن والمنافق، الذي
غالبا ما يطيع في المنشط دون المكره ودليل ذلك: - * قوله تعالى
لو كان
عرضا قريبا وسفراً قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشُّقَّة وسيحلفون بالله
لو استطعنا لخرجنا معكم يُهلكون أنفسهم والله يعلم أنهم لكاذبون)، فهؤلاء
يطيعون في المنشط (الغنيمة السهلة القريبة) لا المكره (السفر الشاق البعيد)
ثم هم يتعللون بالأعذار المختلفة المكذوبة حتى لا يخرجوا، وهكذا المنافق
إذا أمره الأمير بأمر مكروه شاق اختلق الأعذار ولو بالكذب حتى لا يفعل.وكان
أبو بكر قد استعمل عمرو بن العاص على صدقات قضاعة، فكتب إليه يستنفره إلى
الشام: ((إني كنت قد رددتك على العمل الذي وَلاَّكَه رسول الله صلى الله
عليه وسلم مرة وسَمَّاه لك أخرى، وقد أحببت أبا عبد الله أن أفرغك لما هو
خير لك في حياتك ومعادك منه، إلا أن يكون الذي أنت فيه أحب إليك فكتب إليه
عمرو بن العاص: إني سهم من سهام الإسلام، وأنت عبد الله الرامي بها،
والجامع لها، فانظر أشدها وأخشاها فَارْمِ بي فيها)) ( البداية والنهاية 7/
5).
ولما تولى عمر بن الخطاب الخلافة عزل خالداً بن الوليد عن إمرة الجيش وكتب
إلى أبي عبيد ((فَانـزع عمامَتَه عن رأسه وقَاسِمْه مَالَه نصفين، قال ابن
كثير: فقاسَمَهُ أبو عبيدة حتى أخذ إحدى نعليه وترك له الأخرى، وخالد يقول:
سمعاً وطاعةً لأمير المؤمنين)) (البداية والنهاية 7/23) .
ثانياً: الطاعة واجبة في العسر واليسر ويمكن تأويله كذلك بأن على المسلم
الطاعة في حالة ضيق النفقة أو سعتها على الجند كما كان الحال في غزوة تبوك،
كان الصحابيان يقتسمان التمرة الواحدة قال تعالى: ]لقد تاب الله على النبي
والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة[التوبة:من الآية117،
وسُمِّي هذا الجيش جيش العسرة،، ولعل السر في تقديم العسر على اليسر في
حديث عبادة: "وعُسْرِنا ويسرنا" وفي حديث أبي هريرة: «وعسرك ويسرك» أن
العسر كان هو الغالب على حياة الصحابة زمن، النبي صلى الله عليه وسلمكما
قال جابر بن عبد الله: وأيُّنا كان له ثوبان على عهد النبي صلى الله عليه
وسلم رواه البخاري
وقال أبو هريرة
رأيت سبعين من أهل الصُّفة ما منهم رجل عليه رداء، إما
إزار أو كساء قد ربطوا في أعناقهم، فمنها ما يَبْلُغ نصف الساقين ومنها ما
يَبْلُغ الكعبين فيجمعه بيده كراهية أن تُرى عورته) رواه البخاري، وقال ابن
حجر: (ومحصل ذلك أنه لم يكن لأحدٍ منهم ثوبان)، وروى البخاري عن عبد الله
بن أبي أوفى قال: (غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم سبع غزوات كنا نأكل
معه الجراد)، وعن فُضَالَة بن عُبَيْد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
إذا صلى بالناس يَخِرُّ رجال من قامتهم في الصلاة من الخَصَاصَة - وهم
أصحاب الصفة - حتى يقول الأعراب: هؤلاء مجانين، فإذا صلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم انصرف إليهم فقال
لو تعلمون مالكم عند الله لأَحْبَبْتُم
أن تزدادوا فَاقَةً وحَاجَةً) رواه الترمذي وصححه.
ب- النصح للأمير ... وهي من مهمات المحافظة على الجماعة:
لقوله صلى الله عليه وسلم: ]الدين النصيحة، قلنا: لمن؟، قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم[ رواه مسلم.
أولاً: قال النووي: ((وأما النصيحة لأئمة المسلمين: فمعاونتهم على الحق
وطاعتهم فيه وأمرهم به وتنبيههم وتذكيرهم برفق وإعلامهم بما غفلوا عنه ولم
يبلغهم من حقوق المسلمين، وترك الخروج عليهم، وتأليف قلوب المسلمين
لطاعتهم. قال الخطابي: ومن النصيحة لهم الصلاة خلفهم والجهاد معهم وأداء
الصدقات إليهم، وترك الخروج بالسيف عليهم إذا ظهر منهم حيف أو سوء عشرة،
وأن لا يُغْروا بالثناء الكاذب عليهم، وأن يُدْعى لهم بالصلاح. وهذا كله
على أن المراد بأئمة المسلمين الخلفاء وغيرهم ممن يقوم بأمور المسلمين من
أصحاب الولايات وهذا هو المشهور)) ( شرح النووي على صحيح مسلم 1/ 144).
ثانياً: ومما يدخل في النصح الإشارة على الأمير بما يخفى عليه من الأمور التي يحيط بها غيره.
ثالثاً: ومما يدخل فيه أيضا إخبار الأمير بكل ما يؤدي إلى إفساد الجماعة أو
تفريق شملها كوجود بعض العناصر السيئة أو المفسدة ونحو ذلك، وعلى الأمير
التثبت والتحقق قبل التصرف، لقوله تعالى: ]إن جاءكم فاسق بنبأ
فتبينوا[الحجرات:من الآية 6، ودليل هذا ما يلي:
ما ذكره ابن كثير في تفسير قوله تعالى: ]ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض
ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون[التوبة:65، قال: ((قال رجل في
غزوة تبوك في مجلس: ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا ولا أكذب ألسنا
ولا أجبن عند اللقاء. فقال رجل في المسجد كذبت ولكنك منافق ولأخبرن رسول
الله صلى الله عليه وسلم )) (تفسير القران العظيم 4/ 177)، وموضع الاستشهاد
هو قول الصحابي للمنافق
ولأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم) فهذا من
النصح للأمة ليس من الغيبة))
وما رواه البخاري عن زيد بن أرقم قال: (كنت مع عمي فسمعت عبد الله بن
أُبَيّ بن سلول يقول
لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا)، وقال
أيضا: (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل)، فذكرت ذلك لعمي،
فذكر عمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلى عبد الله بن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا، فصدقهم رسول الله
وكذبني، فأصابني هم لم يصبني مثله فجلست في بيتي، فأنـزل الله عزّ وجل ]إذا
جاءك المنافقون[ إلى قوله: ]هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول
الله[إلى قوله:]ليخرجن الأعز منها الأذل[، فأرسل إَليَّ رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقرأ عَلَيَّ ثم قال: (إن الله قد صَدَّقَكَ) (رواه البخاري).
وكان ذلك أثناء غزوة بني المصطلق على خلاف. قال ابن حجر: ((وفيه جواز تبليغ
مالا يجوز للمقول فيه، ولا يُعد نميمة مذمومة إلا إن قصد بذلك الإفساد
المطلق، وأما إذا كانت فيه مصلحة ترجح على المفسدة فلا))(فتح الباري شرح
صحيح البخاري 14/9) وقول ابن حجر (مالا يجوز): يقصد كلمة الأذل، (للمقول
فيه): يقصد النبي صلى الله عليه وسلم وموضع الاستشهاد من هذا الخبر هو
إخبار زيد بن أرقم للنبي صلى الله عليه وسلم بما قاله عبد الله بن أُبَي
لإفساد قلوب الصحابة بعضهم على بعض كما في سياق القصة وذلك بالوقيعة بين
المهاجرين والأنصار ويكفينا في جواز ما فعله زيد، قول النبي صلى الله عليه
وسلم له: (إن الله قد صدقك).
ومثل هذا ما رواه البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (لما قسم النبي
صلى الله عليه وسلم قسمة حنين، قال رجل من الأنصار: ما أراد بها وجه الله،
فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فتَغَيَّر وجهه ثم قال: (رحمة
الله على موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر)، وفي رواية: (والله ما أراد
محمد بهذا وجه الله) قال ابن حجر: ((في هذا الحديث جواز إخبار الإمام وأهل
الفضل بما يقال فيهم مما لا يليق بهم ليحذروا القائل، وفيه بيان ما يُباح
من الغيبة والنميمة لأن صورتهما موجودة في صنيع ابن مسعود هذا، ولم ينكره
النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أن قصد ابن مسعود كان نصح النبي صلى الله
عليه وسلم وإعلامه بمن يطعن فيه ممن يُظهر الإسلام ويبطن النفاق وليَحْذَر
منه، وهذا جائز كما يجوز التجسس على الكفار ليؤمن من كيدهم))(فتح الباري
شرح صحيح البخاري 17/ 276 ).
وفي حديث عمر بن الخطاب في الرجم، ورد في سياقه (أن رجلا أتى عمر فقال له:
إن فلانا يقول لو مات أمير المؤمنين لبايعنا فلانا، فقال عمر: لأقومن
العشية فأحذر هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغصبوهم) رواه البخاري، قال ابن
حجر في شرحه: ((وفيه جواز إخبار السلطان بكلام من يُخْشَى منه وقوع أمر فيه
إفساد للجماعة، ولا يعد ذلك من النميمة المذمومة))(فتح الباري شرح صحيح
البخاري 19/ 257 ).
وقال ابن تيمية رحمه الله - في سياق كلامه عن جواز اغتياب الشخص المعين -
قال: ((وفي معنى هذا نصح الرجل فيمن يعامله، ومن يوكِّله ويوصي إليه ومن
يستشهده، بل ومن يتحاكم إليه، وأمثال ذلك. وإذا كان هذا في مصلحة خاصة فكيف
بالنصح فيما يتعلق به حقوق عموم المسلمين، من الأمراء والحكام والشهود
والعمال: أهل الديوان وغيرهم؟ فلا ريب أن النصح في ذلك أعظم كما قال النبي
صلى الله عليه وسلم
الدين النصيحة) قالوا لمن يا رسول الله؟ قال: لله
ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) (مجموع الفتاوى 28/ 230) .
ج- التحذيرات الواردة في باب السمع والطاعة:
إنّ السمع والطاعة حق وإن ارتكب الأمير بعض الأخطاء الشرعية، نطيعه في طاعة
الله، ولا نتابعه في خطئه إن أخطأ، والمقصد من هذا: أن ارتكاب الأمير لبعض
الأخطاء ليس مبررا للخروج عليه والسعي في خلعه عن إمرته، فكل ابن آدم
خطاء، بل الصواب أن تطيعه في طاعة الله، ولا تطيعه في معصية الله تعالى،
وتأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر. فلا ينبغي لأحد أن يستهين بإذن الأمير
وأمره ونهيه حتى لا يختل النظام العام ,وجمهور العلماء على أنه تجوز تولية
المفضول مع وجود الفاضل إما لجلب منفعة أو لدفع مفسدة ,وهناك من الناس من
يدخل في الجماعة ثم يأنف من السمع والطاعة، وهذا من خصال الجاهلية وقد
ذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتابه (مسائل الجاهلية) المسألة الثالثة
مخالفة ولي الأمر)، وهناك من يتظاهر بالطاعة ويُبَيِّت العصيان
والإفساد، وهذا أيضا من النفاق، لقوله تعالى: ]ويقولون طاعة، فإذا برزوا من
عندك بَيَّت طائفة منهم غير الذي تقول، والله يكتب ما يُبَيِّتون، فأعرض
عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا[النساء:81، وهذا الصنف تراه يسعى
لإثارة الأتباع على الأمير ملتمسا أوهى الأسباب ككون الأمير ذا أثرة أو
كونه مفضولا دينا أو صغير السن، ومن الناس من يطيع في المنشط دون المكره
فإذا كُلِّف بأمر شاق أو بما لا يهوى عصى، ومنهم من يطيع في اليسر وسعة
النفقة فإذا كان العسر وضاق الحال عصى، وقد يكون العصيان صريحا أو ضمنيا،
وهذه النماذج وأكثر منها موجود فعلا في التجمعات الإسلامية وفساد هذا لا
يخفى، وقد وُجِدَ بعضها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:
وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون، وقوله تعالى: ]ويقولون طاعة، فإذا برزوا
من عندك بَيَّت طائفة منهم غير الذي تقول[، فكيف بالحال من بعده نسأل الله
أن يوفق المسلمين لما فيه خير دينهم ودنياهم وطاعة أمرائهم .
7. إذا أُسر الإمام:
من أحكام الإمامة أن الإمام إذا كان مأسوراً((فإن كان في أسر المشركين خرج
من الإمامة لليأس من خلاصه وليستأنف أهل الاختيار بيعة غيره على الإمامة))
(الموسوعة الفقهية 7/290) وهل من فرق بين الأسر المعنوي والجسدي !! فكثير
من حكام اليوم ليسوا أسرى المخططات الكفرية, فينفذوها على سبيل الإكراه بل
على العكس بكل ود وإخلاص وتراهم يسارعون فيهم يخشون دائرة المسلمين
الموحدين لعلمهم بمخالفة الكتاب المبين !! فهؤلاء أولى بنقض ولايتهم من
الأسير لدى الكفار.
8. تعـدد الأئـمة: مذهب جماهير علماء الإسلام على عدم جواز تعدد الأئمة
ومنهم من جعل ذلك في القطر الواحد ومنهم من جعله ولو تباعدت الأمصار وتعددت
الأقطار.
قال النووي في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه
)وستكون خلفاء فتكْثُر،
قالوا: فما تأمرنا؟، قال: فوا ببيعة الأول فالأول)، قال: وفي هذا الحديث
معجزة ظاهرة لرسول الله، ومعنى هذا الحديث إذا بويع لخليفة بعد خليفة،
فبيعة الأول صحيحة يجب الوفاء بها وبيعة الثاني باطلة يحرم الوفاء بها،
ويحرم عليه طلبها، وسواء عقدوا للثاني عالمين بعقد الأول أو جاهلين، وسواء
كانا في بلدين أو بلد، أو أحدهما في بلد الإمام المنفصل والآخر في غيره،
هذا هو الصواب الذي عليه أصحابنا وجماهير العلماء، وقيل تكون لمن عُقِدت له
في بلد الإمام، وقيل يُقْرَع بينهم، وهذان فاسدان، واتفق العلماء على أنه
لا يجوز أن يعقد لخليفتين في عصر واحد، سواء اتسعت دار الإسلام أم لا)).
(شرح النووي على صحيح مسلم: 12/ 221-222).
وفي التمهيد لابن عبد البر: (( وأما قوله (فإن دعوتهم تحيط من ورائهم ) أو
هي من ورائهم محيطة فمعناه عند أهل العلم أن أهل الجماعة في مصر من أمصار
المسلمين إذا مات إمامهم ولم يكن لهم إمام فأقام أهل ذلك المصر الذي هو
حضرة الإمام وموضعه إماما لأنفسهم اجتمعوا عليه ورضوه فإن كل من خلفهم
وأمامهم من المسلمين في الآفاق يلزمهم الدخول في طاعة ذلك الإمام إذا لم
يكن معلنا بالفسق والفساد معروفا بذلك لأنها دعوة محيطة بهم يجب إجابتها
ولا يسع أحدا التخلف عنها لما في إقامة إمامين من اختلاف الكلمة وفساد ذات
البين))( التمهيد21/277).
وقال الماوردي : ((والصحيح في ذلك أن الإمامة لأسبقهما بيعة وعقدا)) (الأحكام السلطانية:9).
وقال أبو يعلي: ((وإن كان العقد لكل واحد منهما على الانفراد نظرت، فإن
عُلِمَ السابق منهما بَطل عقد الثاني)) (الأحكام السلطانية: 25)، وهذا يبين
أنه لابد من إمام واحد .
قال الماوردي: (( وَإِذَا عُقِدَتْ الْإِمَامَةُ لِإِمَامَيْنِ فِي
بَلَدَيْنِ لَمْ تَنْعَقِدْ إمَامَتُهُمَا ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ لِلْأُمَّةِ إمَامَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَإِنْ شَذَّ قَوْمٌ
فَجَوَّزُوهُ .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْإِمَامِ مِنْهُمَا فَقَالَتْ طَائِفَةٌ
هُوَ الَّذِي عُقِدَتْ لَهُ الْإِمَامَةُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي مَاتَ
فِيهِ مَنْ تَقَدَّمَهُ لِأَنَّهُمْ بِعَقْدِهَا أَخَصُّ وَبِالْقِيَامِ
بِهَا أَحَقُّ وَعَلَى كَافَّةِ الْأُمَّةِ فِي الْأَمْصَارِ كُلِّهَا أَنْ
يُفَوِّضُوا عَقْدَهَا إلَيْهِمْ وَيُسَلِّمُوهَا لِمَنْ بَايَعُوهُ
لِئَلَّا يَنْتَشِرَ الْأَمْرُ بِاخْتِلَافِ الْآرَاءِ وَتَبَايُنِ
الْأَهْوَاءِ .
وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَدْفَعَ
الْإِمَامَةَ عَنْ نَفْسِهِ وَيُسَلِّمَهَا إلَى صَاحِبِهِ طَلَبًا
لِلسَّلَامَةِ وَحَسْمًا لِلْفِتْنَةِ لِيَخْتَارَ أَهْلُ الْعَقْدِ
أَحَدَهُمَا أَوْ غَيْرَهُمَا ، وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ يُقْرَعُ
بَيْنَهُمَا دَفْعًا لِلتَّنَازُعِ وَقَطْعًا لِلتَّخَاصُمِ فَأَيُّهُمَا
قَرَعَ كَانَ بِالْإِمَامَةِ أَحَقَّ .
وَالصَّحِيحُ فِي ذَلِكَ وَمَا عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ الْمُحَقِّقُونَ
أَنَّ الْإِمَامَةَ لِأَسْبَقِهِمَا بَيْعَةً وَعَقْدًا كَالْوَلِيَّيْنِ
فِي نِكَاحِ الْمَرْأَةِ إذَا زَوَّجَاهَا بِاثْنَيْنِ كَانَ النِّكَاحُ
لِأَسْبَقِهِمَا عَقْدًا .
فَإِذَا تَعَيَّنَ السَّابِقُ مِنْهُمَا اسْتَقَرَّتْ لَهُ الْإِمَامَةُ
وَعَلَى الْمَسْبُوقِ تَسْلِيمُ الْأَمْرِ إلَيْهِ وَالدُّخُولُ فِي
بَيْعَتِهِ، وَإِنْ عُقِدَتْ الْإِمَامَةُ لَهُمَا فِي حَالٍ وَاحِدٍ لَمْ
يَسْبِقْ بِهَا أَحَدُهُمَا فَسَدَ الْعَقْدَانِ وَاسْتُؤْنِفَ الْعَقْدُ
لِأَحَدِهِمَا أَوْ لِغَيْرِهِمَا، وَإِنْ تَقَدَّمَتْ بَيْعَةُ
أَحَدِهِمَا وَأَشْكَلَ الْمُتَقَدِّمُ مِنْهُمَا وَقَفَ أَمْرُهُمَا عَلَى
الْكَشْفِ، فَإِنْ نَازَعَاهَا وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ
الْأَسْبَقُ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ وَلَمْ يَحْلِفْ عَلَيْهَا ،
لِأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِالْحَقِّ فِيهَا وَإِنَّمَا هُوَ حَقُّ
الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا فَلَا حُكْمَ لِيَمِينِهِ فِيهِ وَلَا لِنُكُولِهِ
عَنْهُ وَهَكَذَا لَوْ قَطَعَ التَّنَازُعَ فِيهَا وَسَلَّمَهَا
أَحَدُهُمَا )) (الأحكام السلطانية:1 /10).
قال يحيى بن سعيد, كتب هشام بن إسماعيل والي المدينة إلى عبد الملك بن
مروان أن أهل المدينة قد أطبقوا على البيعة للوليد وسليمان الا سعيد بن
المسيّب، فكتب أن اعرضه على السيف, فان مضى فاجلده خمسين جلدة وطف به في
أسواق المدينة, فلما قدم الكتاب على الوالي, دخل سليمان بن يسار وعروة بن
الزبير وسالم بن عبد الله على سعيد بن المسيّب وقالوا: جئناك في أمر؛ قد
قدم كتاب عبد الملك إن لم تبايع ضربت عنقك, ونحن نعرض عليك خصالا ثلاثا
فأعطنا إحداهن,فان الوالي قد قبل منك أن يقرأ عليك الكتاب فلا تقل لا ولا
نعم.
قال: يقول الناس بايع سعيد بن المسيّب, ما أنا بفاعل، وكان اذا قال (لا) لم يستطيعوا أن يقولوا نعم.
قالوا: تجلس في بيتك ولا تخرج إلى الصلاة أياما, فانه يقبل منك إذا طلبك من مجلسك فلا يجدك.
قال: أنا أسمع الآذان فوق أذني حيّ على الصلاة حيّ على الصلاة, ما أنا بفاعل،
قالوا: فانتقل من مجلسك إلى غيره, فانه يرسل إلى مجلسك فان لم يجدك أمسك عنك.
قال: أفرقا من مخلوق !! ما أنا متقدم شبرا ولا متأخر. فخرجوا وخرج إلى صلاة
الظهر فجلس في مجلسه الذي كان فيه, فلما صلى الوالي بعث إليه فأتي به.
فقال: إن أمير المؤمنين كتب يأمرنا إن لم تبايع ضربنا عنقك.
قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين: بيعة للوليد ومثلها
لسليمان في وقت واحد, فلما رآه لم يجب أخرج إلى السدة فمدت عنقه وسلّت
السيوف, فلما رآه قد مضى أمر به فجرّد فإذا عليه ثياب من شعر.
فقال: لو علمت ذلك ما اشتهرت بهذا الشأن, فضربه خمسين سوطا ثم طاف به أسواق
المدينة. فلما ردّوه والناس منصرفين من صلاة العصر قال: إن هذه الوجوه ما
نظرت إليها مذ أربعين سنة*. ومنعوا الناس أن يجالسوه 000))، (وفيات الأعيان
2\377, وسير أعلام النبلاء 4\231, والحلية 2\170).
وهذا ابن عمر رضي الله عنه كما يقول ابن حجر: ((امتنع أن يبايع لعلي أو
معاوية ثم بايع معاوية لما اصطلح مع الحسن بن علي واجتمع الناس عليه))(فتح
الباري شرح صحيح البخاري: 13/195).
وقال ابن عمر: ((لكني أكره أن أبايع أميرين قبل أن يجتمع الناس على أمير
واحد )) هذا وهو راوي حديث (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) (
المسند3/ 30).
وهناك من العلماء من أجاز التعدد إذا كان الإمام الواحد لا يبلغ أمره ونظره
قطر ما أو مكان ما، ((وأما بعد انتشار الإسلام واتساع رقعته وتباعد أطرافه
فمعلوم أنه قد صار في كل قطر أو أقطار الولاية إلى إمام أو سلطان وفي
القطر الآخر أو الأقطار كذلك ولا ينفذ لبعضهم أمر ولا نهي في غير قطره أو
أقطاره التي رجعت إلى ولايته فلا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين وتجب الطاعة
لكن واحد منهم بعد البيعة على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه
وكذلك صاحب القطر الآخر فإذا قام من ينازعه في القطر الذي قد ثبت فيه
ولايته وبايعه أهله كان الحكم فيه أن يقتل إذا لم يتب ولا يجب على أهل
القطر الآخر طاعته ولا الدخول تحت ولايته لتباعد الأقطار فإنه قد لا يبلغ
إلى ما تباعد منها خبر إمامها أو سلطانها ولا يدري من قام منهم أ