الفيض في تحقيق حكم الطلاق في الحيض (3/3)
أ.د. سليمان العيسى
الحمدلله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده؛ وبعد.
قبل أن نستعرض أدلة هذا القول نحب أن نبين أن جملة ما استدل به أهل هذا القول ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أدلة من النقل والأثر هي في محل النزاع غير أنها نوقشت من حيث الدلالة، كما أنها عورضت بأدلة أخرى تخالفها.
القسم الثاني: أدلة عامة من الكتاب والسنة والعقل ليست صريحة في محل النزاع وإنما هي مرجحات فقط ونبدأ بالقسم الأول:
القسم الأول: وهو الأدلة من النقل والأثر والتي في محل النزاع:
الدليل الأول: ما رواه أبو داود في سننه قال: حدثنا أحمد بن صالح أخبرنا عبد الرزاق أنبأنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عروة يسأل ابن عمر، وأبو الزبير يسمع قال: كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضاً؟ (وهي حائض) قال طلق عبد الله بن عمر امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض، قال عبد الله فردها عليّ ولم يرها شيئاً وقال: إذا طهرت فليطلق أو ليمسك، قال ابن عمر وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) (الطلاق: من الآية1)(1)، هذا والحديث قد رواه مسلم في صحيحه بلفظ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعها فردها وقال إذا طهرت فليطلق أو ليمسك.. الحديث(2).
قال ابن حجر في الفتح على رواية أبي داود السابقة ما نصه: وللنسائي وأبي داود (فردها عليّ) زاد أبو داود (ولم يرها شيئاً) وإسناده على شرط الصحيح فإن مسلماً أخرجه من رواية حجاج بن محمد عن ابن جريج وساقه على لفظه ثم أخرجه من رواية أبي عاصم عنه وقال نحو هذه القصة ثم أخرجه من رواية عبد الرزاق بن جريج قال مثل حديث حجاج وفيه بعض الزيادة فأشار إلى هذه الزيادة، ولعله طوى ذكرها عمداً، وقد أخرج أحمد الحديث عن روح ابن عبادة عن ابن جريج فذكرها، فلا يتخيل انفراد عبد الرزاق بها(3) وقال ابن القيم عن هذا الحديث: رواه أبو داود بالسند الصحيح الثابت(4) وقال ابن حزم: إن إسناده في غاية الصحة(5).
وجه الدلالة من الحديث: لهذا القول هو أن قوله (ولم يرها شيئاً) أي لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك التطليقة شيئاً يعتد به.
مناقشة هذا الدليل ووجه دلالته:
أولاً: مناقشة هذا الدليل: قال أبو داود في سننه بعد سياقه للحديث المذكور ما نصه: روى هذا الحديث عن ابن عمر يونس بن جبير وأنس بن سيرين وسعيد بن جبير وزيد بن أبي أسلم وأبو الزبير ومنصور عن أبي وائل معناها كلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم: أمره أن يراجعها حتى تطهر ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك.
قال أبو داود: وكذلك رواه محمد بن عبد الرحمن عن سالم عن ابن عمر، وأما رواية الزهري عن سالم ونافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم إن شاء طلق أو أمسكن قال أبو داود: وروي عن عطاء الخراساني عن الحسن عن ابن عمر نحو روايته نافع والزهري، والأحاديث كلها على خلاف ما قال أبو الزبير(6)، وقال ابن حجر في الفتح: وقال ابن عبدالبر: قوله (ولم يرها شيئاً) منكر لم يقله غير أبي الزبير وليس بحجة فيما خالف فيه مثله فكيف بمن هو أثبت منه... وقال الخطابي قال أهل الحديث: لو يرو أبو الزبير حديثاً أنكر من هذا... ونقل البيهقي في (المعرفة) عن الشافعي أنه ذكر رواية أبي الزبير فقال: نافع أثبت من أبي الزبير والأثبت من الحديثين أولى من أن يأخذ به إذا تخالفا، وقد وافق نافعاً غيره من أهل الثبت(7)، وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: وقد روى عن أبي الزبير عن ابن عمر رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم (ردها عليه ولم يرها شيئاً) وهذا مما تفرد به أبو الزبير عن أصحاب ابن عمر كلهم مثل ابنه سالم ومولاه نافع وأنس وابن سيرين وطاوس ويونس بن جبير وعبد الله بن دينار وسعيد بن جبير وميمون بن مهران وغيرهم، وقد أنكر أئمة العلماء هذه اللفظة على أبي الزبير من المحدثين والفقهاء عن ابن عمر ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم حسب عليه الطلقة من وجوه كثيرة... إلخ(
.
الرد على تلك المناقشة: قال ابن حجر في التلخيص: وفي رواية لأبي داود من طريق أبي الزبير عن ابن عمر (فردها عليّ ولم يرها شيئاً) قال أبو داود: الأحاديث كلها على خلاف هذا، يعني أنها حسبت عليه بتطليقه، وقد رواه البخاري مصرحاً بذلك، ولمسلم نحوه كما تقدم، لكن لم ينفرد أبو الزبير فقد رواه عبد الوهاب الثقفي عن عبيد الله بن نافع: أن ابن عمر قال فيا لرجل يطلق امرأته وهي حائض قال ابن عمر: لا يعتد بذلك أخرجه محمد بن عبد السلام الخشني عن بندار عنه وإسناده صحيح لكن يحمل قوله: لا يعتد بذلك على معنى أنه خالف السنة على معنى أن الطلقة لا تحسب جمعاً بين الروايات القوية، والله أعلم(9) وقال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد بعد سياقه للحديث المذكور واستدلاله به: وهذا إسناد في غاية الصحة فإن أبا الزبير غير مدفوع عن الحفظ والثقة، وإنما يخشى من تدليسه(10) فإذا قال سمعت أو حدثني زال محظور التدليس وزالت العلة المتوهجة، وأكثر أهل الحديث يحتجون به إذا قال عن ولم يصرح بالسماع ومسلم يصحح ذلك من حديثه، فأما إذا صرح بالسماع فقد زال الإشكال وصح الحديث وقامت الحجة، قالوا ولا نعلم في خبر أبي الزبير هذا رد بما يوجب رده، وإنما ردّه من رده استبعاداً واعتقاداً أنه خلاف الأحاديث الصحيحة ونحن نحكي كلام من رده ونبين أنه ليس فيه ما يوجب الرد(11) إلى أن قال رحمه الله أما قول أبي داود الأحاديث كلها على خلافه فليس بأيديكم سوى تقليد أبي داود وأنتم لا ترضون بذلك وتزعمون أن الحجة من جانبكم، فدعوا التقليد وأخبرونا أين في الأحاديث الصحيحة ما يخالف حديث أبي الزبير فهل فيها حديث واحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حسب عليه تلك الطلقة وأمره أن يعتد بها فإن كان ذلك فنعم والله هذا خلاف صريح لحديث أبي الزبير ولا تجدون إلى ذلك سبيلاً انتهى محل الغرض منه وقد ذكر رحمه الله بعض أدلة الموقعين وبين أنها لا تدل على وقوع الطلاق لكن هذا مما لا يسلم له به منازعوه وقد تقدم من الأدلة على الاعتداد بتلك الطلقة ما يرد تلك الدعوى.
هذا وقد قال رحمه الله في شرحه تهذيب سنن أبي داود: وأما قولكم إن نافعاً أثبت في ابن عمر وأولى به من أبي الزبير وأخص فروايته أولى أن نأخذ بها، فهذا إنما يحتاج إليه عند التعارض فكيف ولا تعارض بيهما؟ فإن رواية أبي الزبير صريحة في أنها لم تحسب عليه، وأما نافع فروايته ليس فيها شيء صريح قط أن النبي صلى الله عليه وسلم حسبها عليه(12) بل مرة قال (فمه) أي فما يكون؟ وهذا ليس فيه بإخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حسبها ومرة قال (أرأيت أن عجز واستحمق) وهذا رأي محض ثم استمر رحمه الله في مناقشته لأدلة الموقعين وقد ذكرت جميع المناقشات التي وردت على أدلة الموقعين سواء أكانت منه أو من غيره كما ذكرت الرد من الموقعين على تلك المناقشات هناك بما يغني عن إعادته هنا، هذا ودعواه عدم التعارض بين الروايتين محلّ نظر بل هو نفسه قد اعترف بالتعارض بين الروايات حيث قد قال رحمه الله في زاد المعاد ما نصه: الرابع أن الألفاظ قد اضطربت عن ابن عمر(13) رضي الله عنه في ذلك اضطراباً شديداً وكلها صحيحة عنه وهذا يدل على أنه لم يكن عنده نص صريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقوع تلك الطلقة والاعتداد بها وإذا تعارضت تلك الألفاظ نظرنا إلى مذهب ابن عمر رضي الله عنه وفتواه فوجدناه صريحاً في عدم الوقوع ووجدنا أحد الألفاظ صريحاً في ذلك فقد اجتمع صريح روايته وفتواه على عدم الاعتداد وخالف في ذلك ألفاظ مجملة مضطربة كما تقدم بيانه(14).
قلت والحق أن رواية أبي الزبير صحيحة وأنه لم ينفرد بها بل تابعه فيما يدل على معناها غيره كما تقدم من كلام ابن حجر وابن القيم، هذا وقد جاء في نيل الأوطار للشوكاني ما نصه: ويؤيد رواية أبي الزبير ما أخرجه سعيد بن منصور من طريق عبد الله بن مالك عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ليس ذلك بشيء).
وقد روى ابن حزم في روايته بسنده المتصل إلى ابن عمر من طريق عبد الوهاب الثقفي عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه قال في الرجل يطلق امرأته وهي حائض: لا يعتد بذلك وهذا إسناد صحيح(15) وروى ابنعبد البر عن الشعبي أنه قال: إذا طلق امرأته وهي حائض: لم يعتد بها في قول ابن عمر، وقد روى زيادة أبي الزبير، الحميدي في الجمع بين الصحيحين وقد التزم أنلا يذكر فيه إلاما كان صحيحاً على شرطهما وقال ابن عبد البر في التمهيد: إنه تابع أبا الزبير على ذلك أربعة: عبد الله بن عمر ومحمد بن عبد العزيز بن أبي رواد، ويحيى بن سليم، وإبراهيم بن أبي حسنة(16).
ثانياً: مناقشة الدليل السابق من حيث وجه دلالته: نوقش الدليل السابق من حيث وجه دلالته أيضاً فقد قال ابن حجر في الفتح: وقال ابن عبد البر: قوله (ولم يرها شيئاً) منكر لم يقله غير أبي الزبير وليس بحجة فيما خالفه فيه مثله فكيف بمن هو أثبت منه، ولو صح فمعناه عندي والله أعلم: ولم يرها شيئاً مستقيماً لكونها لم تقع على السنة، وقال الخطابي قال أهل الحديث: لم يرو أبو الزبير حديثاً أنكر من هذا، وقد يحتمل أن يكون معناه: ولم يرها شيئاً تحرم معه المراجعة، أو لم يرها شيئاً جائزاً في السنة ماضياً في الاختيار وإن كان لازماً له مع الكراهة، ونقل البيهقي في (المعرفة) عن الشافعي أنه ذكر رواية أبي الزبير فقال: نافع أثبت من أبي الزبير والأثبت من الحديثين أولى أن يؤخذ به إذا تخالفا، وقد وافق نافع غيره من أهل الثبت قال: وبسط الشافعي القول في ذلك وجملة قوله: (لم يرها شيئاً) على أنه لم يعدها شيئاً صواباً غير خطأ بل يؤمر صاحبه أن لا يقيم عليه لأنه أمره بالمراجعة، ولو كان طلقها طاهراً لم يؤمر بذلك فهو كما يقال للرجل إذا أخطأ في فعله أو أخطأ في جوابه لم يصنع شيئاً أي لم يصنع صواباً(17).
الدليل الثاني: ما ذكره ابن جر في الفتح حيث قال: روى سعيد بن منصور من طريق عبد الله بن مالك عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس ذلك بشيء(18) قلت وقد سكت عنه ابن حجر رحمه الله والحديث من طريق ابن مالك بن الحارث الهمداني قال عنه ابن حجر في تهذيب التهذيب ما نصه عبد الله بن مالك بن الحارث الهمداني ويقال الأسدي الكوفي أخو خالد بن مالك، وقيل إنهما اثنان، روى عن علي وابن عمر رضي الله عنهم، وعنه أبو إسحاق وأبو روق الهمداني، ذكره ابن حبان في الثقات، له عندهما في الجمع في السفر انتهى(19).
والدلالة من الحديث لهذا القول هو أن قوله (ليس ذلك بشيء) معناه أن تلك التطليقة ليست شيئاً يعتد به.
مناقشة وجه الدلالة: قلت ويمكن مناقشة وجه الدلالة منه بما نوقش وجه الدلالة من الحديث السابق والذي يفيد قوله (ولم يرها شيئاً) ويكون معناها ليست شيئاً مستقيماً لكونها لم تقع على السنة، أو ليست شيئاً تحرم معه المراجعة، أو ليست شيئاً صواباً غير خطأ، ونحو ذلك ولهذا قال ابن حجر بعد سياقه لتلك الرواية: وهذه متابعات لأبي الزبير إلا أنها قابلة للتأويل وهي أولى من إلغاء الصريح في قول ابن عمر أنها حسبت عليه بتطليقة(20).
الدليل الثالث من الأثر: روى ابن حزم بسنده قال: حدثنا يونس بن عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم أن أحمد بن خالد أن محمد بن عبد السلام الخشني أن محمد بن بشار أن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي أن عبيد الله بن عمر عن نافع مولى ابن عمر وعن ابن عمر قال في الرجل يطلق امرأته وهي حائض قال ابن عمر لا يعتد لذلك(21) قال ابن حجر في الفتح عن هذا الأثر أخرجه ابن حزم بإسناد صحيح(22).
الدليل الرابع من الأثر أيضاً: وهو بمعنى الأثر السابق:
قال ابن حجر في الفتح قال ابن عبد البر: واحتج بعض من ذهب إلى أن الطلاق لا يقع بما روي عن الشعبي قال: إذا طلق الرجل امرأته وهي حائض لم يعتد بها في قول ابن عمر(23).
مناقشة هذين الدليلين: نوقش هذان الدليلان بما قاله ابن عبد البر من أن المعنى لم تعتد المرأة بتلك الحيضة في العدة كما روي ذلك عن ابن عمر منصوصاً أنه قال: يقع عليها الطلاق ولا تعتد بتلك الحيضة(24).
وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم ما نصه: ما حكاه ابن حزم عن ابن عمر أنه لا يقع الطلاق في الحيض مستنداً إلى ما رواه من طريق محمد بن عبد السلام الخشني الأندلسي حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الوهاب الثقفي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر في الرجل يطلق امرأته وهي حائض قال: لا يعتد بها، وبإسناده عن خلاس نحوه فإن هذا الأثر قد سقط عن آخر لفظة وهي قال: لا يعتد بتلك الحيضة، كذلك رواه أبو بكر ابن أبي شيبة في كتابه عن عبد الوهاب الثقفي، وكذا رواه يحيى بن معين عن عبد الوهاب أيضاً قال: هو غريب لا يحدث به إلا عبد الوهاب ومراد ابن عمر أن الحيضة التي تطلق فيها المرأة لا تعتد بها المرأة قرءاً، وهذا هو مراد خلاس وغيره وقد روى ذلك أيضاً عن جماعة من السلف منهم زيد بن ثابت وسعيد بن المسيب، فوهم جماعة من المفسرين وغيرهم كما وهم ابن حزم فحكوا عن بعض من سمينا أن الطلاق في الحيض لا يقع وهذا سبب وهمهم(25).
قلت ويؤيد ما ذكره ابن عبد البر وغيره من أن المعنى: لم تعتد المرأة بتلك الحيضة في العدة ما رواه البيهقي في سننه قال (أخبرنا) أبو عبد الله الحافظ أنا أبو العباس محمد بن يعقوب أن العباس بن محمد الدوري أن يحيى بن معين أن عبد الوهاب الثقفي بن عبيد الله بن عمر: إذا طلقها وهي حائض لم تعتد بتلك الحيضة قال يحيى وهذا غريب ليس يحدث إلا عبد الوهاب الثقفي(26) (قال الشيخ) وقد روى معناه يحيى بن أيوب المصري عن عبيد الله (وروينا عن زيد بن ثابت أنه قال: إذا طلق الرجل امرأته وهي نفساء لم تعتد بدم نفاسها(27) في عدتها(28).
قلت: فالآثار المتقدمة تدل على أن الاعتداد المنفي ليس هو الطلاق في الحيض وإنما هو اعتداد المرأة المطلقة بتلك الحيضة في عدتها. أيضاً روى الدارقطني عن عبيد الله عن نافع عن عبد الله أنه طلق امرأته وهي حائض الحديث قال عبيد الله وكان تطليقه إياها في الحيض واحدة غير أنه خالف السنة(29).
هذا والطريق بهذا المعنى أعني بالاعتداد بها في الطلاق عن ابن عمر كثيرة غير أنه يعارضها روايات عدم الاعتداد المتقدمة إلا إذا حملت على ما ذكره ابن عبد البر من أن معناها لم تعتد المرأة بتلك الحيضة في العدة فيزول التعارض ويؤيده ما تقدم من الآثار ولهذا قال ابن حجر في الفتح بعد ذكره لكلام ابن عبدالبر ما نصه: وهذا الجمع الذي ذكره ابن عبد البر وغيره يتعين وهو أولى من تغليط بعض الثقات(30).
القسم الثاني من أدلة القول الثاني: والمتضمن عدم وقوع الطلاق في الحيض والتي قلنا: إنها أدلة عامة من الكتاب والسنة والعقل وليست صريحة في محل النزاع وإنما هي مرجحات فقط.
الدليل الأول: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) (الطلاق: من الآية1) وجه الدلالة من الآية لهم أن الطلاق المشروع المأذون فيه هو الطلاق للعدة وقد بينه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله في قصة طلاق ابن عمر لزوجته في الحيض وفيها قوله صلى الله عليه وسلم لأبيه عمر مره فليراجعها حتى تحيض حيضة أخرى مستقبلة سوى حيضتها التي طلقها فيها فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهراً قبل أن يمسها فذلك الطلاق للعدة كما أمر الله.
وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم مره فليراجعها ثم يطلقها طاهراً أو حاملاً رواه مسلم(31)، قالوا وإذا تبين أن الطلاق المشروع هو أن يطلقها في زمن الطهر الذي لم يجامعها فيه أو بعد استبانة حملها، فما عداهما ليس بطلاق للعدة في حق المدخول بها فلا يكون طلاقاً فكيف تحرم المرأة به(32) وقال الشوكاني في نيل الأوطار: وقد رجح ما ذهب إليه من قال بعدم الوقوع بمرجحات منها قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) والمطلق في حال الحيض أو الطهر الذي وطئ فيه لم يطلق لتلكا لعدة التي أمر الله بتطليق النساء لها كما صرح بذلك الحديث المذكور في الباب، وقد تقرر في الأصول أن الأمر بالشيء نهي عن ضده والمنهي عنه نهياً لذاته أو جزئه أو لوصفه اللازم يقتضي الفساد، والفاسد لا يثبت حكمه(33).
الدليل الثاني: قوله تعالى: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ) (البقرة: من الآية229).
وجه الدلالة لهم من الآية هو أنهم قالوا إنما أراد الله تبارك وتعالى بقوله (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ) الطلاق المأذون فيه وهو الطلاق للعدة فدل على أن ما عداه ليس من الطلاق فإنه حصر الطلاق المشروع المأذون فيه الذي يملك بالرجعة فيه مرتين فلا يكن ما عداه طلاقاً(34).
مناقشة وجه الدلالة من الدليلين السابقين: قلنا يمكن مناقشة وجه الاستدلال من الآيتين السابقتين بالتسليم بأن الطلاق المشروع المأذون فيه هو الطلاق للعدة والذي بينه المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو الطلاق في الطهر غير المجامع فيه أو في حالة استبانة الحمل لكن من أين لكم من الآيتين عدم وقوع الطلاق فيما إذا كان الطلاق في الحيض؟ هذا هو محلُّ النزاع والآيتان لم تتعرضا لذلك وليس بأيديكم إلا أن الطلاق في الحيض خلاف للمشروع فلا يقع والجواب عن هذا أنه ليس كل عمل من قول وفعل خالف فيه المكلف المشروع أنه لا يصح بل هناك من التصرفات ما تصح من فاعلها ولو خالف فيها المشروع وقد أوضح الحافظ بن رجب في كتابه جامع العلوم والحكم أن العلماء اتفقوا على صحة أعمال مع كونها بدعة لوجود الكراهة فيها وقد ذكر على ذلك أمثلة كثيرة(35) وسيأتي زيادة إيضاح لهذا الوجه بعد استعراض بقية أدلة هذا القول بمشيئة الله تعالى، مع العلم أنه قد جاء من الأدلة الصحيحة ما يدل على الاعتداد بالطلاق في الحيض وقد تم ذكرها في أدلة الموقعين للطلاق في القول الأول والله أعلم.
الدليل الثالث: أن مقتضى قواعد الشريعة هو عدم وقوع الطلاق في الحيض لأن الطلاق لما كان منقسماً إلى حلال وحرام كان قياس قواعد الشرع أن حرامه باطل غير معتد به، كالنكاح وسائر العقود التي تنقسم إلى حلال وحرام، قالوا ولا يرد على ذلك الظهار فإنه لا يكون قط إلا حراماً لأنه منكر من القول وزور، فلو قيل لا يصح لم يكن للظهار حكم أصلاً.
الدليل الرابع: ما جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل ما ليس عليه أمرنا فهو رد" وفي لفظ "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"(36)، قالوا والرد فعل بمعنى المفعول، أي فهو مردود، وعبر عن المفعول بالمصدر مبالغة، حتى كأنه نفس الرد، وهذا تصريح بإبطال كل عمل على خلاف أمره، ورده وعدم اعتباره في حكمه بالقبول، ومعلوم أن المردود هو الباطل بعينه، بل كونه رداً أبلغ من كونه باطلاً إذ الباطل قد يقال لما لا نفع فيه أو لما منفعته قليلة جداً، وقد يقال لما ينتفع به ثم يبطل نفعه، وأما المردود فهو الذي لم يجعله شيئاً ولم يترتب عليه مقصوده أصلاً.
الدليل الخامس: قالوا فالمطلق في الحيض قد طلق طلاقاً ليس عليه أمر الشارع فيكون مردوداً فلو صح ولزم لكان مقبولاً منه وهو خلاف النص.
الدليل السادس: قالوا وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: "مره فليراجعها" فهذا حجة لنا على عدم الوقوع لأنه لما طلقها والرجل من عادته إذا طلق امرأته أن يخرجها عنه أمره بأن يراجعها ويمسكها فإن هذا الطلاق الذي أوقعه ليس بمعتبر شرعاً ولا تخرج المرأة عن الزوجية بسببه فهو كقوله صلى الله عليه وسلم لبشير بن سعد في قصة نحله ابنه النعمان غلاماً (رده) ولا يدل أمره إياه برده على أن الولد قد ملك الغلام وأن الرد إنما يكون بعد الملك فكذلك أمره برد المرأة ورجعتها لا يدل على أنه لا يكون إلا بعد نفوذ الطلاق بل لما ظن ابن عمر جواز هذا الطلاق فأقدم عليه قاصداً لوقوعه رد عليه النبي صلى الله عليه وسلم امرأته وأمر أن يردها، ورد الشيء إلى ملك من أخرجه لا يستلزم خروجه عن ملكه شرعاً كما ترد العين المغصوبة ويقال للغاصب: ردها إليه ولا يدل ذلك على زوال ملك صاحبها عنها. وكذلك إذا قيل رد على فلان ضالته، ولما باع على أحد الغلامين الأخوين قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "رده، رده" وهذا أمرٌ بالرد حقيقة(37) هذه هي جملة أدلة القائلين بعدم وقوع الطلاق في الحيض والتي قسمناها إلى قسمين:
القسم الأول: الأدلة من المنقول والمأثور والتي في محل النزاع.
القسم الثاني: أدلة عامة ليست صريحة في محل النزاع وإنما هي مرجحات.
المناقشة والترجيح: بعد استيفاء ما وقفت عليه من أدلة من يرى وقوع الطلاق في الحيض ومن لا يرى الوقوع تبين بوضوح أن أدلة كل فريق تنقسم إلى قسمين: أدلة صريحة في محل النزاع وأدلة عامة ليست صريحة الدلالة على محل النزاع وإنما هي مرجحات، كما تبين أيضاً أن القسم الأول وهي الصريحة في محل النزاع للجانبين تقتصر على المنقول والمأثور في قصة طلاق ابن عمر لزوجته في الحيض والتي اختلفت الروايات المرفوعة والموقوفة هل حسبت أو لا. هذا وقد تمت مناقشة أدلة القول الأول بقسميه، وكذا أدلة القسم الأول من القول الثاني: أما القسم الثاني من أدلة هذا القول فقد تم أيضاً مناقشة الدليل الأول والثاني. أما بقية الأدلة فهي أدلة عامة ليست صريحة الدلالة على محل النزاع وهذه الأدلة بجملتها مفادها أن الطلاق في الحيض غير مأذون فيه بل قد نهى عنه الشارع والنهي يقتضي الفساد وبطلان التصرف لعموم حديث (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وحديث من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ قالوا وهذا كله يقتضي عدم وقوع الطلاق في الحيض.
مناقشة هذه الأدلة: قلت ويمكن مناقشة هذه الأدلة التي تدور حول المعنى المذكور بعدم التسليم بأن النهي يستلزم البطلان إذ ليس كل عمل من قول أو فعل خالف فيه المكلف المشروع أنه باطل ولا يصح بل هناك من التصرفات ما تصح من فاعلها ولو خالف فيها المشروع وقد أوضح الحافظ ابن رجب في كتابه جامع العلوم والحكم على حديث (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أن العلماء اتفقوا على صحة أعمال مع كونها بدعة لوجود الكراهة فيها قال رحمه الله: والأعمال قسمان: عبادات ومعاملات فأما العبادات فما كان منها خارجاً عن حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بالكلية فهو مردود على عامله، وعامله يدخل تحت قوله تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) (الشورى: من الآية21).
فمن تقرب إلى الله بعمل لم يجعله الله ورسوله قربة إلى الله فعمله باطل مردود عليه... إلى أن قال: وكذا من تقرب بعبادة نهى عنها بخصوصها، كمن صام يوم العيد أو صلى وقت النهي، وأما من عمل عملاً أصله مشروع وقربة ثم أدخل فيه ما ليس بمشروع أو أخل فيه بمشروع فهذا أيضاً مخالف للشريعة بقدر إخلاله به أو إدخاله ما أدخل فيه، وهل يكون عمله من أصل مردوداً عليه أم لا؟ فهذا لا يطلق القول فيه برد ولا قبول بل ينظر فيه: فإن كان ما أخل به من أجزاء العمل أو شروط موجباً لبطلانه في الشريعة كمن أخل بالطهارة للصلاة مع القدرة عليها أو كمن أخل بالركوع أو السجود مع الطمأنينة فيها فهذا عمل مردود عليه، وعليه إعادته إن كان فرضاً، وإن كان ما أخل به لا يوجب بطلان العمل كمن أخل بالجماعة للصلاة المكتوبة عند من يوجبها ولا يجعله شرطاً فهذا لا يقال إن عمله مردود من أصله بل هو ناقص، وإن كان زاد في العمل المشروع ما ليس بمشروع فزيادته مردودة عليه بمعنى أنها لا تكون قربة ولا يثاب عليها، ولكن تارة يبطل بها العمل من أصله فيكون مردوداً كمن زاد ركعة عمداً في صلاته مثلاً، وتارة لا يبطله ولا يرده من أصله كمن توضأ أربعاً أربعاً، أو صام الليل مع النهار وواصل في صيامه وقد يبدل بعض ما يؤمر به في العبادات بما هو منهي عنه كمن ستر عورته في الصلاة بثوب محرم أو توضأ للصلاة بماء مغصوب أو صلى في بقعة غصب، فهذا مما اختلف العلماء فيه هل عمله مردود من أصله أو أنه غير مردود وتبرأ به الذمة من عهدة الواجب، وأكثر الفقهاء على أنه ليس مردود من أصله إلى أن قال رحمه الله ويشبه هذا الحج بمال حرام، وقد ورد في حديث أنه مردود على صاحبه ولكنه حديث لا يثبت(38) وقد اختلف العلماء هل يسقط به الفرض أم لا؟ ثم ذكر أنه قول الجمهور أن الحج لا يبطله إلا ما نهي عنه في الإحرام وهو الجماع ولا يبطله ما لا يختص بالإحرام من المحرمات كالقتل والسرقة وشرب الخمر.
وأما المعاملات كالعقود والفسوخ ونحوهما فما كان منها مغيّرٌ الأوضاع الشرعية كجعل ح الزنا عقوبة مالية وما أشبه ذلك فإنه مردود من أصله لا ينتقل به الملك لأن هذا غير معهود في أحكام الإسلام، ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذي سأله: إن ابني كان عسيفاً على فلان فزنى بامرأته فافتديت منه بمائة شاة وخادم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "المائة الشاة والخادم رد عليك، وعلى ابنك مائة جلدة وتغريب عام(39) وما كان عنه عقداً منهياً عنه في الشرع" ثم ذكر رحمه الله الأمثلة على ذلك إلى أن قال: فهذا موضع اضطرب فيه الناس اضطراباً كثيراً إلى أن قال: والأقرب إن شاء الله تعالى: أنه إن كان النهي عنه لحق الله تعالى فإنه لا يفيد الملك بالكلية، ومعنى أنه يكون الحق لله أنه لا يسقط برضا المتعاقدين عليه، وإن كان النهي عنه لحق آدمي معين بحيث يسقط برضاه فإنه يقف على رضاه به، فإن رضي لزم العقد واستمر الملك، وإن لم يرض به فله الفسخ فإن كان الذي يلحقه الضرر لا يعتبر رضاه بالكلية كالزوجة والعبد في الطلاق والعتاق فلا عبرة برضاه ولا بسخطه. وإن كان النهي رفقاً بالمنهي عنه خاصة لما يلحقه من المشقة فخالف وارتكب المشقة لم يبطل بذلك عمله، فأما الأول فله صور كثيرة منها نكاح من يحرم نكاحه إما لعينه كالمحرمات على التأبيد بسبب أو نسب أو للجمع أو لفوات شرط لا يسقط بالتراضي بإسقاطه كنكاح المعتدة والمحرمة والنكاح بغير ولي ونحو ذلك وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين الرجل وامرأة تزوجها وهي حبلى فرد النكاح لوقوعه في العدة، ومنها عقود الربا فلا يفيد الملك ويؤمر بردها وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من باع صاع تمر بصاعين أن يرده(40) ومنها بيع الخمر والخنزير والأصنام والكلب وسائر ما نهي عنه بيعه مما لا يجوز بيعه، وأما الثاني فله صور عديدة: منها إنكاح الولي ما لا يجوز له إنكاحه إلا بإذنها لا بغير إذنها وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم نكاح امرأة ثيب زوجها أبوها وهي كارهة، إلىأن قال رحمه الله: ومنها بيع المدلس ونحوه كالمصراة وبيع النجش وتلقي الركبان ونحو ذلك، وفي صحته كله اختلاف مشهور في مذهب الإمام أحمد، وذهب طائفة من أهل الحديث إلى بطلانه ورده، والصحيح أنه يصح ويقف على إجازة من حصل له ظلم بذلك، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل مشتري المصراة بالخيار، وأنه جعل للركبان الخيار إذا هبطوا السوق وهذا كله يدل على أنه غير مردود من أصله، وقد ورد على بعض من قال بالبطلان حديث المصراة فلم يذكر عنه جواباً، وأما بيع الحاضر للبادي فمن صححه جعله من هذا القبيل ومن أبطله جعل الحق فيه لأهل البلد كلهم وهم غير منحصرين فلا يتصور إسقاط حقوقهم فصار لحق الله عز وجل إلى أن قال رحمه الله: ومنها الطلاق المنهي عنه كالطلاق في زمن الحيض، فإنه قيل إنه قد نهي عنه لحق الزوج حيث كان يخشى عليه أن يعقبه فيه الندم، ومن نهي عن شيء رفقاً به فلم ينته عنه بل فعله وتجشم مشقته فإنه لا يحكم ببطلان ما أتى به كمن صام في المرض أو السفر أو واصل في الصيام أو أخرج ماله وجلس ليتكفف الناس أو صلى قائماً مع تضرره بالقيام للمرض أو قام الليل ولم ينم وكذلك إذا جمع الطلاق الثلاث على القول بتحريمه، وقيل إنما نهي عن طلاق الحائض لحق المرأة لما فيه من الإضرار بها بتطويل العدة ولو رضيت بذلك بأن سألته الطلاق بعوض في الحيض فهل يزول بذلك تحريمه؟ فيه قولان مشهوران للعلماء، والمشهور من مذهبنا ومذهب الشافعي أن يزول التحريم بذلك، فإن قيل إن التحريم فيه لحقا لزوج خاصة، فإذا أقدم عليه فقد أسقط حقه فسقط، وإن علل بأنه لحق المرأة لم يمنع نفوذه ووقوعه أيضاً، فإن رضا المرأة بالطلاق غير معتبر لوقوعه عند جميع المسلمين لم يخالف فيه سوى شرذمة يسيرة من الروافض ونحوهم كما أن رضا الرقيق بالعتق غير معتبر ولو تضرر به، ولكن إذا تضررت المرأة بذلك وكان قد بقي شيء من طلاقها أمر الزوج بارتجاعها كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر بارتجاع زوجته تلافياً منه لضررها وتلافياً منه لما وقع من الطلاق المحرم حتى لا تصير بينونتها منه ناشئة عن طلاق محرم وليتمكن من طلاقها على وجه مباح فتحصل إبانتها على هذا الوجه(41) انتهى محل الغرض منه، هذا وقد نقلت غالب كلامه في هذا الصدد لأن فيه مناقشة للأدلة العامة التي استدل بها من يرى عدم وقوع الطلاق في الحيض والتي معناها أن ما نهى عنه الشارع ولم يأذن فيه فإنه مردود وباطل لأن النهي يقتضي الفساد والبطلان. وقد علمنا مما تقدم أنّه ليس كل ما نهى عنه الشارع يستلزم البطلان وأن المسألة فيها تفصيل ومحل نظر عند العلماء رحمهم الله.
قلت وبهذه المناقشة الأخيرة نكون قد أكملنا مناقشة أدلة الفريقين سواء منها ما كان في محل النزاع أو ما كان من المرجحات، هذا وبعد إكمال الأدلة للقولين وما ورد عليها من مناقشات يتضح أن الأدلة التي في محل النزاع للفريقين تقتصر على المنقول والمأثور في قصة طلاق ابن عمر رضي الله عنهما لزوجته في الحيض والتي اختلفت الروايات المرفوعة والموقوفة هل حسبت أو لا(42)؟ أما بقية الأدلة للفريقين فهي أدلة عامة ليست صريحة في محل النزاع وإنما هي مرجحات كما أشرنا إلى ذلك في مطلع هذا الترجيح. هذا وإذا نظرنا إلى تلك الأدلة العامة للفريقين وجدناها تتقابل، لذا رأيت أن لا أدخلها في وجوه الترجيح للسببين السابقين، كونها ليست صريحة في محل النزاع، وكونها تتقابل، ونبقى مع الأدلة التي هي في محل النزاع فنقول وبالله التوفيق، ومنه نستمد العون والتسديد.
مما لا شك فيه أن حديث ابن عمر في قصة طلاقه لزوجته في الحيض مع صحته وكثرة طرقه المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم والموقوفة على ابن عمر قد اضطرب الرواة عنه في طلقته تلك هل اعتد بها أو لا فانقسموا إلى قسمين كما تقدم بيانه ولكننا إذا نظرنا إلى تلك الطرق نظرة إنصاف وعدل وجدنا أن القول الأول وهو وقوع الطلاق في الحيض(43) هو الأولى لأمرين:
الأمر الأول أن جملة ما استدل به من يرى عدم وقوع الطلاق من حديث ابن عمر هو ثلاث روايات مرفوعة وروايتان موقوفة وكلها قد نوقشت من حيث معناها بما يضعف الاستدلال على محل النزاع حيث هي قابلة للتأويل أما الروايات المرفوعة فالأولى ما رواه مسلم في صحيحه في قصة طلاق ابن عمر لزوجته وفيها: (فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن عبد الله طلق امرأته وهي حائض فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فليراجعها فردها وقال فليطلق أو ليمسك) الحديث(44).
قلت هذه الرواية ليس فيها دلالة على عدم وقوع الطلاق إذ معنى قوله: فردها أي أمر برد امرأته عليه كما هو واضح من سياق الحديث وإنما التي فيها الدلالة على محمل النزاع هي الرواية التالية:
الرواية الثانية: ما رواه أبو داود في سننه قال حدثنا أحمد بن صالح أخبرنا عبد الرزاق أنبأنا أبو جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عروة يسأل ابن عمر، وابن الزبير يسمع قال: كيف ترى في رجل طلق امرأته وهي حائض قال طلق ابن عمر امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض قال: عبد الله (فردها عليَّ ولم يرها شيئاً) وقال: إذا طهرت فليطلق أو ليمسك. الحديث(45).
وهذا الحديث قد نوقش من عدة وجوه كونه من رواية محمد بن مسلم المشهور بأبي الزبير المكي، وهو ثقة إلا أنه تكلم فيه واختلف فيه كثيراً.
وكونه قد انفرد بتلك الرواية وهي: (فردها عليّ ولم يرها شيئاً) دون غيره من الثقات كما نوقش معنى تلك الرواية وقد تقدم تفصيل ذلك(46).
قلت وكونه من رواية أبي الزبير غير قادح فيه لأن أبا الزبير غير مدفوع عن الحفظ والثقة وإنما يخشى من تدليسه فإذا قال سمعت أو حدثني زال محذور التدليس وزال الإشكال وقد تقدم تصحيح الحديث عن ابن حجر وابن القيم وابن حزم وغيرهم، وقد قال الإمام الذهبي في كتابه (المغني في الضعفاء: إنه صدوق مشهور اعتمده مسلم وروى له البخاري متابعة تكلم فيه شعبة لكونه استرجح في وزنه... وقيل تركه لأنه رآه يسيء صلاته، وقيل لأنه خاصم ففجر وقيل كان بزي الشرط وأما ابن حزم: فإنه يرد من حديثه ما يقول فيه: (عن جابر) فإذا قيل: (سمعت جابراً) واحتج به(47) انتهى محل الغرض منه، هذا وقد ذكر ابن حجر في تهذيب التهذيب توثيقه عن عدد من أئمة الحديث(48) وقد تقدم ذكر ذلك(49).
أما كونه قد انفرد بتلك الرواية فغير مسلم به أيضاً والحق أنه تابعه فيما يدل على معناها غيره كما تقدم من كلام ابن حجر وابن القيم بما يغني عن إعادته هنا.
أما مناقشة هذه الرواية من حيث المعنى والذي مفاده أن معنى: (ولم يرها شيئاً) أي لم يرها شيئاً مستقيماً لكونه لم تقع على السنة، أو لم يرها شيئاً جائزاً في السنة، أو لم يعدها شيئاً صواباً غير خطأ بل يؤمر صاحبه أن لا يقيم عليه لأنه أمره بالمراجعة، أو لم يرها شيئاً تحرم معه المراجعة، كل هذه التأويلات قال بها العلماء، وهي في الحقيقة مما لا يمكن دفعها ومما تضعف الاستدلال بالحديث على محلّ النزاع إذ الدليل إذا ورد عليه الاحتمال أضعف الاستدلال به إن لم يبطله.
الرواية الثالثة: مما استدل به من يرى عدم وقوع الطلاق هي بمعنى رواية أبي الزبير ما رواه سعيد بن منصور من طريق عبد الله بن مالك عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بشيء(50) قلت وقد نوقش معنى قوله (ليس بشيء) بما نوقش به معنى قوله (ولم يرها شيئاً) في الحديث المذكور آنفاً فيكون معناها ليست شيئاً مستقيماً لكونها لم تقع على السنة، أو ليست شيئاً تحرم معه، المراجعة، أو ليست شيئاً صواباً غير خطأ، وهذه التأويلات كما قلت في الرواية السابقة مما لا يمكن دفعها وهي تضعف الاستدلال بالحديث على محل النزاع، وقد قال ابن حجر بعد ذكره لتلك الرواية: وهذه متابعات لأبي الزبير إلا أنها قابلة للتأويل وهو أولى من إلغاء الصريح في قول ابن عمر: أنها حسبت عليه بتطليقه وهذا الجمع التي ذكره ابن عبد البر وغيره(51) يتعين وهو أولى من تغليط بعض الثقات، وأما قول ابن عمر أنها حسبت بتطليقة فإنه وإن لم يصرح برفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه فيه تسليم أن ابن عمر قال: إنها حسبت عليه، فكيف يجتمع مع هذا قوله: إنه لم يعتد بها، أو لم يرها شيئاً على المعنى الذي ذهب إليه المخالف، لأنه إن جعل الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم لزم منه أن ابن عمر خالف ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة بخصوصه لأنه قال: إنها حسبت عليه بتطليقة فيكون من حسبها عليه خالف كونه لم يرها شيئاً، وكيف يظن به ذلك مع اهتمامه واهتمام أبيه بسؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ليفعل ما يأمر به؟ وإن جعل الضمير في لم يعتد بها أو لم يرها لابن عمر لزم منه التناقض في القصة الواحدة فيفتقر إلى الترجيح، ولا شك أنه الأخذ بما رواه الأكثر والأحفظ أولى منه مقابلة عند تعذر الجمع عند الجمهور(52).
هذا والطرق عن ابن عمر رضي الله عنهما في الاعتداد بها في الطلاق كثيرة غير أنه يخالفها روايات عدم الاعتداد المتقدمة إلا إذا حملت على ما ذكره ابن عبد البر وابن رجب وابن حجر وغيرهم من أن معناها، لم تعتد بتلك الحيضة في العدة، فيزول التعارض، ولهذا قال ابن حجر في الفتح بعد ذكره لكلام ابن عبد البر وغيره: وهذا الجمع الذي ذكره ابن عبد البر وغيره يتعين وهو أولى من تغليط بعض الثقات(53).
الأمر الثاني: مما يترجح به القول بوقوع الطلاق في الحيض كثرة الطرق المروية عن ابن عمر في احتساب تلك الطلقة سواء المرفوعة منها أو الموقوفة إضافة إلى قوة دلالتها على المراد دلالة صريحة لا تقبل التأويل. وهذه الطرق كالتالي:
أولاً: الطرق المرفوعة:
الطريق الأولى: ما رواه الدارقطني وابن حزم عن طريق ابن وهب عن ابن أبي ذئب أن نافعاً أخبرهم عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد ذلك وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء وهي واحدة(54) فقوله صلى الله عليه وسلم وهي واحدة نص في محل النزاع قال ابن حجر في الفتح بعد سياقه للحديث المذكور ما نصه: وهذا نص في موضع الخلاف فيجب المصير إليه وقد أورده بعض العلماء على ابن حزم فأجابه بأن قوله (هي واحدة) لعله ليس من كلامه صلى الله عليه وسلم، فألزمه بأنه نقض أصله لأن الأصل لا يدفع بالاحتمال(55) وابن القيم رحمه الله قد اعترف بدلالة الحديث على وقوع الطلاق ولكن شك في كونها من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: وأما قوله في حديث ابن وهب عن ابن أبي ذئب في آخره (وهي واحدة) فلعمر الله لو كانت هذه اللفظة من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قدمنا عليها شيئاً ولصرنا إليها بأول وهلة ولكن لا ندري أقالها ابن وهب من عنده أم ابن أبي ذيب أم نافع؟... إلخ(56).
قلت وهذا اعتراف من ابن القيم رحمه الله بأن هذه اللفظة نص في المسألة يجب التسليم بها والمصير إليها لو صحت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن يؤخذ عليه رحمه الله تشكيكه فيها ورده لها بدعوى أنه لا يدري أقالها ابن وهب من عنده وهذا شيء غريب من مثله لأنه من المعلوم بين أهل العلم أن الأصل قبول رواية الثقة كما رواها والأصل لا يدفع بالاحتمالات والتشكيك ولا يدفع بالتعليل والالتماس هذا وقد قال ابن حزم في هذه الرواية أيضاً لعله من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما طريق المعرفة هو التصديق بخبر الثقة، ولهذا قال الشوكاني بعد ذكره بعض كلام ابن القيم المذكور ما نصه: ولا يخفى أن هذا التجويز لا يدفع الظاهر المتبادل من الرفع، ولو رفعنا باب دفع الأدلة بمثل هذا ما سلم لنا حديث فالأولى في الجواب المعارضة لذلك بما سيأتي(57).
قلت وللمخالف لابن القيم أن يرد الحديث الذي استدل به على عدم وقوع الطلاق وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (فردها عليّ ولم يرها شيئاً) بمثل الشك الذي أورده هو على حديث ابن وهب بالطعن في أبي الزبير فيقال لا ندري أقاله أبو الزبير من عنده... ونحو ذلك مما يورث الشك، لكن هذه الطريقة ليست طريقة البحث والمعرفة وكما قال الشوكاني لو فتحنا باب دفع الأدلة بمثل هذا ما سلم لنا حديث، مع العلم أن ابن وهب لم يتفرد بالإخراج بل تابعه غيره. فقد رواه الدارقطني أيضاً من طريق يزيد بن هارون بن محمد بن إسحاق وابن أبي ذئب عن نافع عن ابن عمر بنحوه ولكن قال فيه هي واحدة فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء، ثم روى نحوه من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر، وقال البيهقي أيضاً حدثنا أبو بكر ابن عياش بن محمد نا أبو عاصم عن ابن جريج عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هي واحدة(58).
الطريقة الثانية: ما رواه الدارقطني في رواية شعبة عن أنس ابن سيرين عن ابن عمر في قصة طلاقه، قال عمر: يا رسول الله أفتحتسب بتلك الطلقة قال نعم(59) قال ابن حجر بعد سياقه له: ورجاله إلى شعبة ثقات، وعنده عن طريق سعيد بن عبد الرحمن الجمحي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن رجلاً قال: إني طلقت امرأتي البتة وهي حائض، فقال: عصيت ربك وفارقت امرأتك. وقال: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عمر أن يراجع امرأته، قال إنه أمر ابن عمر أن يراجعها بطلاق بقي له، وأنت لم تبق ما ترتجع به امرأته، وفي هذا السياق رد على من حمل الرجعة في قصة ابن عمر على المعنى اللغوي(60).
الطريقة الثالثة: ما رواه البخاري في صحيحه عن سعيد بن جبير عن ابن عمر قال: حسبت عليّ بتطليقة(61) وفي رواية لمسلم عن سالم بن عبد الله عن ابن عمر في قصة طلاق زوجته وفيه: وكان عبدالله طلقها تطليقة واحدة فحسبت من طلاقها وراجعها عبد الله كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية لمسلم أيضاً قال: ابن عمر فراجعتها وحسبت لها التطليقة التي طلقتها(62) فهذه الطريقة رواها البخاري عن طريق سعيد بن جبير ومسلم عن طريق سالم بن عبد الله ومسلم رواها بعدة ألفاظ، وهذه الروايات لها حكم الرفع، هذا واعتراض ابن القيم وابن حزم على تلك الروايات بالقول بأنه لا يعرف من الذي حسبها... إلخ غير مسلم وذلك أن الصحابي إذا قال: أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا فإنه ينصرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن حجر بعد نقله لكلام ابن حزم: من أنه لم يصرح بمن حسبها ما نصه: وتعقب بأن مثل قول الصحابي: أمرنا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بكذا فإنه ينصرف إلى من له الأمر حينئذ وهو النبي صلى الله عليه وسلم كذا قال بعض الشراح، وعندي أنه لا ينبغي أن يجيء فيه الخلاف الذي في قول الصحابي: أمرنا بكذا فغن ذاك محمله حيث يكون اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ليس صريحاً، وليس كذلك في قصة ابن عمر هذه فإن النبي صلى الله عليه وسلم هو الآمر بالمراجعة وهو المرشد لابن عمر فيما يفعل إذا أراد طلاقها بعد ذلك، وإذا أخبر ابن عمر الذي وقع منه، حسبت عليه بتطليقة كان احتمال أن يكون الذي حسبها غير النبي صلى الله عليه وسلم بعيد جداً مع احتفاف القرائن في هذه القصة بذلك، وكيف يتخيل أن ابن عمر يفعل في القصة شيئاً برأيه وهو ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم تغيظ من صنيعه كيف لم يشاوره فيما يفعل في القصة المذكورة(63).
ثالثاً: الطرق الموقوفة:
الطريقة الأولى: ما رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري عن أنس بن سيرين قال: سمعت ابن عمر قال: طلق ابن عمر امرأته وهي حائض، فذكر عمر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ليراجعها، قلت: تحتسب، قال: فمه.
الطريقة الثانية: ما رواه: البخاري ومسلم واللفظ للبخاري عن يونس بن جبير عن ابن عمر قال: مره فليراجعها، قلت تحتسب قال: أرأيت إن عجز واستحمق(64)، وروى الإمام أحمد في مسنده عن قتادة سمعت يونس بن جبير سمعت ابن عمر يقول: طلقت امرأتي وهي حائض فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: ليراجعها فإذا طهرت فإن شاء فليطلقها قال: فقلت لابن عمر أفتحسب بها قال ما يمنعه (نعم) أرأيت إن عجز واستحمق(65) قلت وفي هذه الرواية زيادة قوله (نعم) بعد قوله أفتحسب وهي صريحة في الجواب وقد ساق ابن حجر هذا الحديث في الفتح واحتج به ولم يذكر له علة(66).
الطريقة الثالثة: ما رواه مسلم في صحيحه عن طريق سالم بن عبد الله في قصة طلاق ابن عمر لزوجته وفيها قال: قال ابن عمر فراجعتها وحسبت لها التطليقة التي طلقها(67).
قلت وهذه الرواية صريحة لا تقبل التأويل في أن ابن عمر حسب تلك التطليقة: فهذه ثلاث طرق عن ابن عمر كلها تدل على أنه حسبها واعتد بها الأولى عن طريق أنس بن سيرين والثانية عن طريق يونس بن جبير والثالثة عن طريق سالم بن عبد الله، وكل طريقة فيه عدة روايات وكلها في الصحيحين أو أحدهما، وهنا طريقة رابعة عن نافع ابن عمر أنه اعتد بها وهي:
الطريقة الرابعة: ما رواه مسلم في صحيحه عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر في قصة طلاقه لزوجته وفيها قال: عبيد الله قلت لنافع ما صنعت التطليقة قال واحدة اعتد بها(68). قلت وإذا نظر المتأمل في طرق أدلة هذين القولين المرفوعة والموقوفة وفي ألفاظها تبين بوضوح رجحان القول بوقوع الطلاق في الحيض لثلاثة وجوه:
الأول: كثرة طرق أدلة هذا القول فإنها سبعة: ثلاث طرق مرفوعة وفي بعضها عدة روايات وكلها صحيحة، وأربع طرق موقوفة على ابن عمر مروية عنه غير أن الرابعة أخبر فيها نافع عنه أنه اعتد بها من غير رواية عنه وهذه الطرق كلها صحيحة أما الطرق التي استدل بها من يرى عدم وقوع الطلاق فجملتها خمسة: ثلاث طرق مرفوعة واثنتان موقوفة على ابن عمر فتقابلت المرفوعات في القولين عدداً وبقي للقائلين بالوقوع زيادة في الطرق الموقوفة.
الوجه الثاني: أننا إذا تأملنا ألفاظ الرواة لحديث ابن عمر الذين سمعوه من ابن عمر وهم كثرة كثيرة فيهم جلة من الحفاظ الأثبات فإنا نجد ألفاظهم المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم جميعاً، عدا – أبي الزبير المكيّ – اتفقت على شيئين هما: وقوع الطلقة واحتسابها، ووقوع الرجعة فالحديث إذن بحسب ألفاظ عامة رواته دليل لمن قال بوقوع الطلاق في الحيض هذا وورود المتابعة لأبي الزبير لا تغير القضية لأنه كل من تابع أبا الزبير لا يوزن بواحد من رواة احتساب الطلقة كالإمام العظيم نافع مولى ابن عمر فضلاً عما فيها من النقد، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم وقد روي عن أبي الزبير عن ابن عمر رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم (ردها عليه ولم يرها شيئاً) وهذا مما تفرد به أبو الزبير عن أصحاب ابن عمر كلهم مثل ابنه سالم ومولاه نافع وأنس وابن سيرين وطاوس ويونس بن جبير وعبدالله بن دينار وس