المظهر الثقافي:
لا
شكّ أن معالِم الحياة الدينية تُعَد معْلَماً ثقافِياً أيضاً، لأنّ
العبادات والآلهة والعقائد، رغم أنها مَزعومة وأنها باطلة، ولكنها تدلُّ
على بحث أيضاً، وتدلُّ على نَظَر وتأثُر بالأمم الأخرى، وما إلى ذلك.
والحياة الثقافية عند العرب نجد لها أكثر من مِحور:
المحور
الاول :هو ما علاقة عرب الشمال بعرب الجنوب، أو حضارة القحطانيِّين وحضارة
سبإ، وما تلبَّس بها من معارف ومن حضارة ومن ازدهار بحضارة أهل الشمال.
نجِد أن العرب الشماليِّين كانوا على صِلة بالحضارات المجاورة، كما يقول
الدكتور شوقي ضيف، وكان تجار مَكة يدخلون في مصر والشام وبلاد فارس. وكان
الحيريون يتصلون مباشرة بالفُرس، وبلاد فارس، والفُرس والروم كانت لهم
ثقافاتهم ولهم عاداتهم ولهم تقاليدهم، وإن كان التأثير لم يكن عميقاً كما
حدث في العصر العباسي مثلاً، وكان الغساسنة يتصلون بالروم وقد تنصروا وشاعت
النصرانية في قبائل الشام، والعراق، ونزل بينهم كثير مِن اليهود في الحجاز
واليمن.
إذاً هذا المَظهر التأثري، هو التأثر بالناحية العَقدية، فشاعت النصرانية، وشاعت اليهودية، في كَثير من المناطق العربية.
وكل
ذلك معناه اتصال العرب الشماليين بالأمم المُجاورة وحضاراتها، ولكن كما
قلت: أن ذلك كان في حُدود ضَيقة، وكان في حدود تأثر بالمَظهر التجاري، أو
التبادل التجاري، أو المَعارف الضَّيقة، فالعرب كانوا يعْتَزّون بسِماتهم،
ويعْتَزون بخصائصهم، ويعْتَزون بتقاليدهم، ويعْتَزون بأعرافهم. والعرب
الجنوب يبدو أنهم بعد أن دَالت حضارتهم "حضارة سبإ" هاجروا وانتشروا في
بلاد كثيرة، ولم يكن عندهم ثقافة ذات معالم بيِّنة، وحتى من وجْهة التنظيم
السياسي كان يعمّهم النظام الإقطاعي، ولذلك حينما ضعُفت دولتهم الأخيرة
دولة سبأ، تحولوا سريعاً إلى قبائل، وحدثت هِجْرات كثيرة من الجنوب إلى
الشمال، وإلى المناطق العربية.
وهناك
كتاب في هذا الشأن يمكن أن يُرجع إليه وهو كتاب: "الثقافة العربية أسبق من
ثقافة العبريِّين واليونان" للأستاذ محمود عباس العقاد، وهو يرى أن
المنطقة العربية القديمة تشمل الجزيرة العربية، وتشمل الشام، وتشمل العراق،
وتشمل حتى مصر، والمغرب العربي، مع أن المنطقة العربية الآن هي المنطقة
العربية القديمة، وهذه النظرة التوسعية الشمولية، تجعلنا نعيد كثيراً من
الحِسابات والأحكام، لأن كثيراً من الباحثين حينما يتكلّم عن الثقافة
العربية القديمة، يحصر كلامه في شِبه الجزيرة العربية فقط، وهذه تكون
أحكاماً مسوّرة أو محدودة بقيود كثيرة.
ولكن
هنا شُبْهة أثيرت، وهي: شُبْهة تَفوُّق الجِنْس الآري على الجنس السامي،
سواء كانوا عرباً أو غير عرب، وهذه الشبهة أثارها المستشرقون الأوربيون
وغيرهم، حتى يثبتوا أن الرومان، وأن الجنس الآري، وأن الأوربيِّين بصفة
عامة، هُم جِنس مُتَفوّق تفكيراً، وسلوكاً، وحضارةً، وميراثاً، وما إلى
ذلك. وهذه الشبهة مَرفوضة، لأنه ليس هناك جِنس مميز من أول التاريخ إلى
آخره، وإنما التأثر والتأثير و الصلات بين الحضارات.
نسأل سؤالاً: ما أهم معارف العرب وعُلومهم في العصر الجاهلي؟ العرب لم يكن عندهم عِلْم مُنَظَّم ولكن عندهم معَارف كثيرة.
أولا:عِلْم الأنساب والأيام.
ثانيا:معْرفة
العرب بالنجوم ومطالعها وأنوائها، ولذلك نرى رأياً للجاحظ في هذا الكلام
وآراء كثيرة. يقول الجاحظ في كتابه "البيان والتبيين": وإنَّ العرب عرفوا
الأنواء ونُجوم الاهتداء، لأن من كان بالصحاح الأماليس، -أي: الأرض
المستوية التي ليس بها ماء ولا شجر- مضطرّ إلى التماس ما يُنْجيه ويُؤدّيه
-أي: يُعْينه- ولحاجته إلى الغَيث وفِراره مِن الجَدب، وضَنه بالحياة،
اضطرته الحاجة إلى تَعرُّف شَأن الغَيث، مِن أين يأتي؟ ما هي أحواله؟ ما هي
مَواعِيده؟ ولأنه في كل حال يرى السماء وما يجري فيها من كوكب، ويرى
التعاقب بينها، والنجوم الثوابت فيها، وما يسير منها مجْتمعاً، وما يسير
منها فارِداً، وما يكون منها راجِعاً ومستقيماً؛ كل هذا تأمله في أحوال
السموات والكواكب، نشأ من أن الماء يأتيه، كما قال تعالى: {وَفِيالسَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ}.
فالحاجة دفَعته إلى تأمّل هذه الأشياء، وتُلَخِّص أعرابية هذه المعرفة حين
قِيل لها أتعرفين النجوم؟ قالت سبحان الله! أما أعرف أشباحاً وقوفاً عليَّ
كلَّ ليلة. وأيضاً هناك أعرابي وصف لبعض أهل الحَاضِرة نجوم الأنواء،
ونجوم الاهتداء، ونجوم ساعات الليل، والسُّعُود والنُّحُوس.
وقال
قائل لشيخ عبادي: -كان حاضراً- أما ترى هذا الأعرابي يعْرف مِن النجوم ما
لا نعْرِف، قال: مَنْ لا يعْرف أجزاع بيته؟ يعني: مَن الذي لا يعرف ما في
سقْف بيته، نجد وسيقان النخل تُجْعل سقفاً للخيمة.
إذاً،
هناك أيضاً شهادة أخرى يقولها صاعد بن أحمد، المتوفَّى (435هـ): كان للعرب
معْرفة بأوقات النجوم ومطالعها ومغايبها. وأيضاً العرب عندهم معارف طبية،
والعِيافَة، والتَّنَبؤ، والفِراسَة، والقِيافَة، والحِكَم والأمثال، كل
ذلك يدلُّ على رجاحة العقل وعلى النظر الدقيق.
أيضاً،
نرى أن معارف العرب كما قلت: هناك معارف طبية ولكنها مبْنية على الملاحظة
والخِبرة ومزجت ببعض الخرافات، وأيضاً العِيافَة والتَّنبؤ بملاحظة حَركة
الطيور، والفِراسة والقِيافَة. ولكن يهمنا أن نعرف كيف ظهر أثر هذا في
أشعارهم؟ نجد أن كتب الأمثال والأدب، تمتلئ بما دار على لسان لقْمان وغيره
مِن حكماء الجاهلية من حِكَم، مثل قول أكثم: "مقْتل الرجل بين فكَّيْه"،
وقول عامر بن ضرب: "ربّ زارع لنفسه حاصد سواه". وفي الشعر الجاهلي كَثير من
هذه الحِكم. وهي تذكر في ثنايا كلامهم، وتدلُّ على ثقافة ومعرفة، ولكنها
ثقافة ومعرفة نابعة من التجربة. يقول طرفة في معلّقته:
أرى العيش كنزاً ناقصاً كلّ ليلةٍ
وما تنقص الأيام والدهر ينْفَد
وأيضاً زهير في معلّقته كَثير من الحِكم، وكان شاعراً حكيماً -كما قلنا قبل ذلك-، يقول:
[center][center]وأعلم ما في اليوم والأمسِقبْله
ولكنني عن عِلْم ما في غدٍعمِ
ومن لا يُصانِعْ في أموركثيرة
يضرَّس بأنياب ويوطَأبمَنْسِمِ
ومَن لا يَذُدْ عن حَوضه بسلاحه
يُهدَّمومن لا يَظلِم الناس يُظْلم
ومن هاب أسباب المناياينلْنَه
ولو رام أسباب السماءبسلَّمِ
ومهما تكن عند امرئ منخَليقةٍ
وإن خَالها تَخْفى على الناستُعْلمِ
[/center]
هذه الحِكم تدلُّنا أيضاً على معرفة وثقافة وإن كانت ثقافة نَظرية.
تعريف للمعلقات
كان فيما اُثر من أشعار العرب ، ونقل إلينا من تراثهم الأدبي الحافل بضع
قصائد من مطوّلات الشعر العربي ، وكانت من أدقّه معنى ، وأبعده خيالاً ،
وأبرعه وزناً ، وأصدقه تصويراً للحياة ، التي كان يعيشها العرب في عصرهم
قبل الإسلام ، ولهذا كلّه ولغيره عدّها النقّاد والرواة قديماً قمّة الشعر
العربي وقد سمّيت بالمطوّلات ، وأمّا تسميتها المشهورة فهي المعلّقات .
نتناول نبذةً عنها وعن أصحابها وبعض الأوجه الفنّية فيها :
فالمعلّقات
لغةً من العِلْق : وهو المال الذي يكرم عليك ، تضنّ به ، تقول : هذا
عِلْقُ مضنَّة . وما عليه علقةٌ إذا لم يكن عليه ثياب فيها خير ، والعِلْقُ
هو النفيس من كلّ شيء ، وفي حديث حذيفة : «فما بال هؤلاء الّذين يسرقون
أعلاقنا» أي نفائس أموالنا . والعَلَق هو كلّ ما عُلِّق .
وأمّا
المعنى الاصطلاحي فالمعلّقات : قصائد جاهليّة بلغ عددها السبع أو العشر ـ
على قول ـ برزت فيها خصائص الشعر الجاهلي بوضوح ، حتّى عدّت أفضل ما بلغنا
عن الجاهليّين من آثار أدبية4 .
والناظر
إلى المعنيين اللغوي والاصطلاحي يجد العلاقة واضحة بينهما ، فهي قصائد
نفيسة ذات قيمة كبيرة ، بلغت الذّروة في اللغة ، وفي الخيال والفكر ، وفي
الموسيقى وفي نضج التجربة ، وأصالة التعبير ، ولم يصل الشعر العربي إلى ما
وصل إليه في عصر المعلّقات من غزل امرئ القيس ، وحماس المهلهل ، وفخر ابن
كلثوم ، إلاّ بعد أن مرّ بأدوار ومراحل إعداد وتكوين طويلة .
وفي سبب تسميتها بالمعلّقات هناك أقوال منها :
لأنّهم
استحسنوها وكتبوها بماء الذهب وعلّقوها على الكعبة ، وهذا ما ذهب إليه ابن
عبد ربّه في العقد الفريد ، وابن رشيق وابن خلدون وغيرهم ، يقول صاحب
العقد الفريد : « وقد بلغ من كلف العرب به )أي الشعر) وتفضيلها له أن عمدت
إلى سبع قصائد تخيّرتها من الشعر القديم ، فكتبتها بماء الذهب في القباطي
المدرجة ، وعلّقتها بين أستار الكعبة ، فمنه يقال : مذهّبة امرئ القيس ،
ومذهّبة زهير ، والمذهّبات سبع ، وقد يقال : المعلّقات ، قال بعض المحدّثين
قصيدة له ويشبّهها ببعض هذه القصائد التي ذكرت :
برزةٌ تذكَرُ في الحسـ ـنِ من الشعر المعلّقْ
كلّ حرف نـادر منـ ـها له وجـهٌ معشّ
أو
لأنّ المراد منها المسمّطات والمقلّدات ، فإنّ من جاء بعدهم من الشعراء
قلّدهم في طريقتهم ، وهو رأي الدكتور شوقي ضيف وبعض آخر . أو أن الملك إذا
ما استحسنها أمر بتعليقها في خزانته .
هل علّقت على الكعبة؟
سؤال
طالما دار حوله الجدل والبحث ، فبعض يثبت التعليق لهذه القصائد على ستار
الكعبة ، ويدافع عنه ، بل ويسخّف أقوال معارضيه ، وبعض آخر ينكر الإثبات ،
ويفنّد أدلّته ، فيما توقف آخرون فلم تقنعهم أدلّة الإثبات ولا أدلّة النفي
، ولم يعطوا رأياً في ذلك .
المثبتون للتعليق وأدلّتهم :
لقد
وقف المثبتون موقفاً قويّاً ودافعوا بشكل أو بآخر عن موقفهم في صحّة
التعليق ، فكتبُ التاريخ حفلت بنصوص عديدة تؤيّد صحّة التعليق ، ففي العقد
الفريد ذهب ابن عبد ربّه ومثله ابن رشيق والسيوطيوياقوت الحموي وابن الكلبي
وابن خلدون ، وغيرهم إلى أنّ المعلّقات سمّيت بذلك; لأنّها كتبت في
القباطي بماء الذهب وعلّقت على أستار الكعبة ، وذكر ابن الكلبي : أنّ أوّل
ما علّق هو شعر امرئ القيس على ركن من أركان الكعبة أيّام الموسم حتّى نظر
إليه ثمّ اُحدر ، فعلّقت الشعراء ذلك بعده .
وأمّا الاُدباء المحدّثون فكان لهم دور في إثبات التعليق ، وعلى سبيل المثال نذكر منهم جرجي زيدان حيث يقول :
» وإنّما استأنف إنكار ذلكبعض
المستشرقين من الإفرنج ، ووافقهم بعض كتّابنا رغبة في الجديد من كلّ شيء ،
وأيّ غرابة في تعليقها وتعظيمها بعدما علمنا من تأثير الشعر في نفوس
العرب؟! وأمّا الحجّة التي أراد النحّاس أن يضعّف بها القول فغير وجيهة ;
لأنّه قال : إنّ حمّاداً لمّا رأى زهد الناس في الشعر جمع هذه السبع وحضّهم
عليها وقال لهم : هذه هي المشهورات ، وبعد ذلك أيّد كلامه ومذهبه في صحّة
التعليق بما ذكره ابن الأنباري إذ يقول : وهو ـ أي حمّاد ـ الذي جمع السبع
الطوال ، هكذا ذكره أبو جعفر النحاس ، ولم يثبت ما ذكره الناس من أنّها
كانت معلّقة على الكعبة . »
وقد
استفاد جرجي زيدان من عبارة ابن الأنباري : « ما ذكره الناس » ، فهو أي
ابن الأنباري يتعجّب من مخالفة النحاس لما ذكره الناس ، وهم الأكثرية من
أنّها علقت في الكعبة .
النافون للتعليق :
ولعلّ
أوّلهم والذي يعدُّ المؤسّس لهذا المذهب ـ كما ذكرنا ـ هو أبو جعفر
النحّاس ، حيث ذكر أنّ حمّاداً الراوية هو الذي جمع السبع الطوال ، ولم
يثبت من أنّها كانت معلّقة على الكعبة ، نقل ذلك عنه ابن الأنباري . فكانت
هذه الفكرة أساساً لنفي التعليق :
كارل
بروكلمان حيث ذكر أنّها من جمع حمّاد ، وقد سمّاها بالسموط والمعلّقات
للدلالة على نفاسة ما اختاره ، ورفض القول : إنّها سمّيت بالمعلّقات
لتعليقها على الكعبة ، لأن هذا التعليل إنّما نشأ من التفسير الظاهر
للتسمية وليس سبباً لها ، وهو ما يذهب إليه نولدكه .
وعلى
هذا سار الدكتور شوقي ضيف مضيفاً إليه أنّه لا يوجد لدينا دليل مادّي على
أنّ الجاهليين اتّخذوا الكتابة وسيلة لحفظ أشعارهم ، فالعربية كانت لغة
مسموعة لا مكتوبة . ألا ترى شاعرهم حيث يقول :
فلأهدينّ مع الرياح قصيدة منّي مغـلغلة إلى القعقاعِ
ترد المياه فـما تزال غريبةً في القوم بين تمثّل وسماعِ؟
ودليله
الآخر على نفي التعليق هو أنّ القرآن الكريم ـ على قداسته ـ لم يجمع في
مصحف واحد إلاّ بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله) (طبعاً هذا على مذهبه)
، وكذلك الحديث الشريف . لم يدوّن إلاّ بعد مرور فترة طويلة من الزمان
(لأسباب لا تخفى على من سبر كتب التأريخ وأهمّها نهي الخليفة الثاني عن
تدوينه) ومن باب أولى ألاّ تكتب القصائد السبع ولا تعلّق .
وممّن
ردّ الفكرة ـ فكرة التعليق ـ الشيخ مصطفى صادق الرافعي ، وذهب إلى أنّها
من الأخبار الموضوعة التي خفي أصلها حتّى وثق بها المتأخّرون .
ومنهم الدكتور جواد علي ، فقد رفض فكرة التعليق لاُمور منها :
1 ـ أنّه حينما أمر النبي بتحطيم الأصنام والأوثان التي في الكعبة وطمس الصور ، لم يذكر وجود معلقة أو جزء معلّقة أو بيت شعر فيها .
2 ـ عدم وجود خبر يشير إلى تعليقها على الكعبة حينما أعادوا بناءَها من جديد .
3 ـ
لم يشر أحد من أهل الأخبار الّذين ذكروا الحريق الذي أصاب مكّة ، والّذي
أدّى إلى إعادة بنائها لم يشيروا إلى احتراق المعلّقات في هذا الحريق .
4 ـ عدم وجود من ذكر المعلّقات من حملة الشعر من الصحابة والتابعين ولا غيرهم .
ولهذا كلّه لم يستبعد الدكتور جواد علي أن تكون المعلّقات من صنع حمّاد ، هذا عمدة ما ذكره المانعون للتعليق .
بعد استعراضنا لأدلة الفريقين ، اتّضح أنّ عمدة دليل النافين هو ما ذكره ابن النحاس حيث ادعى أن حماداً هو الذي جمع السبع الطوال .
وجواب
ذلك أن جمع حماد لها ليس دليلا على عدم وجودها سابقاً ، وإلاّ انسحب
الكلام على الدواوين التي جمعها أبو عمرو بن العلاء والمفضّل وغيرهما ، ولا
أحد يقول في دواوينهم ما قيل في المعلقات . ثم إنّ حماداً لم يكن السبّاق
إلى جمعها فقد عاش في العصر العباسي ، والتاريخ ينقل لنا عن عبد الملك
أنَّه عُني بجمع هذه القصائد (المعلقات) وطرح شعراء أربعة منهم وأثبت
مكانهم أربعة .
وأيضاً قول الفرزدق يدلنا على وجود صحف مكتوبة في الجاهلية :
أوصى عشية حين فارق رهطه عند الشهادة في الصحيفة دعفلُ
أنّ ابن ضبّة كـان خيرٌ والداً وأتمّ في حسب الكرام وأفضلُ
كما
عدّد الفرزدق في هذه القصيدة أسماء شعراء الجاهلية ، ويفهم من بعض الأبيات
أنّه كانت بين يديه مجموعات شعرية لشعراء جاهليين أو نسخ من دواوينهم
بدليل قوله :
والجعفري وكان بشرٌ قبله لي من قصائده الكتاب المجملُ
وبعد أبيات يقول :
دفعوا إليَّ كتابهنّ وصيّةً فورثتهنّ كأنّهنّ الجندلُ
كما
روي أن النابغة وغيره من الشعراء كانوا يكتبون قصائدهم ويرسلونها إلى بلاد
المناذرة معتذرين عاتبين ، وقد دفن النعمان تلك الأشعار في قصره الأبيض ،
حتّى كان من أمر المختار بن أبي عبيد و إخراجه لها بعد أن قيل له : إنّ تحت
القصر كنزاً .
كما أن
هناك شواهد أخرى تؤيّد أن التعليق على الكعبة وغيرها ـ كالخزائن والسقوف
والجدران لأجل محدود أو غير محدود ـ كان أمراً مألوفاً عند العرب ،
فالتاريخ ينقل لنا أنّ كتاباً كتبه أبو قيس بن عبد مناف بن زهرة في حلف
خزاعة لعبد المطّلب ، وعلّق هذا الكتاب على الكعبة . كما أنّ ابن هشام يذكر
أنّ قريشاً كتبت صحيفة عندما اجتمعت على بني هاشم وبني المطّلب وعلّقوها
في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم .
ويؤيّد
ذلك أيضاً ما رواه البغدادي في خزائنه من قول معاوية : قصيدة عمرو بن
كلثوم وقصيدة الحارث بن حِلزه من مفاخر العرب كانتا معلّقتين بالكعبة دهراً
.
هذا من جملة النقل ،
كما أنّه ليس هناك مانع عقلي أو فنّي من أن العرب قد علّقوا أشعاراً هي
أنفس ما لديهم ، وأسمى ما وصلت إليه لغتهم; وهي لغة الفصاحة والبلاغة
والشعر والأدب ، ولم تصل العربية في زمان إلى مستوى كما وصلت إليه في عصرهم
. ومن جهة أخرى كان للشاعر المقام السامي عند العرب الجاهليين فهو الناطق
الرسمي باسم القبيلة وهو لسانها والمقدّم فيها ، وبهم وبشعرهم تفتخر
القبائل ، ووجود شاعر مفلّق في قبيلة يعدُّ مدعاة لعزّها وتميّزها بين
القبائل ، ولا تعجب من حمّاد حينما يضمّ قصيدة الحارث بن حلزّة إلى مجموعته
، إذ إنّ حمّاداً كان مولى لقبيلة بكر بن وائل ، وقصيدة الحارث تشيد بمجد
بكر سادة حمّاد ، وذلك لأنّ حمّاداً يعرف قيمة القصيدة وما يلازمها لرفعة
من قيلت فيه بين القبائل .
فإذا
كان للشعر تلك القيمة العالية ، وإذا كان للشاعر تلك المنزلة السامية في
نفوس العرب ، فما المانع من أن تعلّق قصائد هي عصارة ما قيل في تلك الفترة
الذهبية للشعر؟
ثمّ إنّه ذكرنا فيما تقدّم أنّ عدداً لا يستهان به من المؤرّخين والمحقّقين قد اتفقوا على التعليق .
فقبول
فكرة التعليق قد يكون مقبولا ، وأنّ المعلّقات لنفاستها قد علّقت على
الكعبة بعدما قرئت على لجنة التحكيم السنوية ، التي تتّخذ من عكاظ محلاً
لها ، فهناك يأتي الشعراء بما جادت به قريحتهم خلال سنة ، ويقرأونها أمام
الملإ ولجنة التحكيم التي عدُّوا منها النابغة الذبياني ليعطوا رأيهم في
القصيدة ، فإذا لاقت قبولهم واستحسانهم طارت في الآفاق ، وتناقلتها الألسن ،
وعلّقت على جدران الكعبة أقدس مكان عند العرب ، وإن لم يستجيدوها خمل
ذكرها ، وخفي بريقها ، حتّى ينساها الناس وكأنّها لم تكن شيئاً مذكوراً .
المثل والحكم
للمثل
أو الحكمة مكانة في الأدب العربي سواء ما نتج عن قصة فأصبح مثل متداول أو
ما نتج عن تجارب و عصارة خبرات عقلية أو حياتية فخرجت حكمة يتداولها الناس .
بهذا الخروج إلى
محيط الناس و كثرة التناقل أصبح المدلول للمثل أو الحكمة كأنة الفيصل في أي
حدث من حيث حيثيات الوجهة التي يراد الاستدلال بها ، ليكون المثل أو
الحكمة عبارة عن جواب قاطع يجزي عن كلام كثير ، لتكرار الشيء المراد
الاستدلال به ، فلا حاجة لكثرة الكلام ، يكفي أن تقول حكمة أو مثل لتكون قد
قطعت شوط كبير لما تريد أن توضيحه ، هذا هو احد الأساسات التي أخرجت المثل
أو الحكمة .
لا أريد صرف
الموضوع بإتجاة الدين فما خرج من الكتاب و السنة من حكمة أو مثل لا جدال
فيه ، و إنما ما أخرجه البشر على مر العصور و كأن تلك الأمثال و الحكم
وثائق تاريخية محملة بعقول و تجارب و قصص الغير فمن حيث انتهى المثل أو
الحكمة و جب علينا أن نبتدئ .
و أن نأخذ تلك
الأمثال و الحكمة بشيء من الجدية الصارمه فهي توجه و تحكم و تنزل الحدث
موقع الواقع في ظن الكثير و تقود السلوك إلى الخضوع و التصديق لما قيل
( فاقد الشيء لا يعطيه )
هنا حكم بالإعدام و لكن بطريقة ليست فيزيائية .
عندما نقول تلك المقولة عن شخص عدواني أو بخيل أو غبي أو متكبر أو فقير
يكون الحكم بأن
العدواني فاقد للتسامح و البخيل فاقد للكرم و الغبي فاقد للذكاء و المتكبر
فاقد للتواضع و الفقير فاقد للمال ، فهذه العينات لا تعطي الشيء المطلوب
سواء كان الشيء محسوس و ملموس او معنوي .
هذا الحكم
بالإعدام في هذه المقولة تبرمج الدماغ بأن الأمل مفقود نحو التغيير ، إذا
أصبح العدواني متسامح هل سنقول ( من أستملك الشيء يعطيه ) ؟
و من الأقوال المشهورة و التي تأتي في نفس هذا السياق ( إذا كان الكلام من فضة ، فالسكوت من ذهب )
هذه المقولة دائما
تقال لمن هم في مقتبل العمر ، لكي لا يقعوا في المحضور أو لكي لا ينطق (
بالعيب ) ، حتى أصبح السكوت ميزة للكثير من الأطفال و تربوا على هذا الشيء و
كبروا على السكوت ، لا يسأل و لا يستفسر و لا يحاور و لا يتحدث ، الكلام
مقنن لا يطالب بحقوقه بطريقة مدنية ، بل حتى اذا خرج من سكوته نطق الكفر في
كثير من كلامه لأن الذي أخرجه من صمته بعد تلك البرمجة هو الغضب .
الأمثلة كثيره جدا و الحكم كذلك و لكم أن تروا اثر تلك الأقوال على مجريات حياة الناس .
و للفرع الأخر من المثل و الحكمة وقع اشد برمجة الا و هو المثل الشعبي
الذي يعكس حياة الناس في أي مقولة يتم تداولها .
بقي أن أضيف شي
المثل أو الحكمة ليست كتاب منزل ، المثل أو الحكمة جميلة من حيث سماعها و تطبيق بعض جوانبها حسب الحالة المرادفه لتلك المقولة
المثل أو الحكمة ليست مرآة ثابتة لأي مجتمع يتم تعليقها في لبنات المجتمع لتكون وسيلة من وسائل البرمجة.