فقه المياه وما يتعلق بها من أحكام
الجزء الأول
إعداد / العبد الفقير إلى الله
أبو معاذ / عبدرب الصالحين أبو ضيف العتموني
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن
سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا
إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
وبعد
خلق الله سبحانه الأرض وغطى ثلثيها بالماء وخلق الحيوان والنبات - وهما
طعام الإنسان - خلقهما من الماء وتوَّج مخلوقاته بالإنسان وجعل ثلاثة
أرباع بدنه ماء وصدق الله إذ يقول { وجَعَلْنا من الماءِ كُلَّ شَيءٍ
حَيٍّ } الأنبياء : 30 .
فالله سبحانه قد كرَّم الماء إذ جعل مدار الحياة في الأرض عليه وجعله
طهوراً وعلق به وبوجوده العديد من العبادات فبالماء يزيل المسلم جنابته
وبه يتوضأ لتكتمل بذلك طهارته من الحدثين كي يتسنى له الوقوف أمام ربه في
أجلِّ وأعظم عبادة من العبادات وهي الصلاة وبالماء يزيل ما يصيب بدنه
وثوبه ومكانه من النجاسات .
والطهارة من الحدث والنجس شرط من شروط صحة الصلاة .
فلما كانت هذه الصلاة لا تصح إلا بطهارة المصلي من الحدث والنجس حسب
القدرة على ذلك صار الفقهاء رحمهم الله يبدؤون بكتاب الطهارة لأنها لما
قدمت الصلاة بعد الشهادتين على غيرها من بقية أركان الإسلام ناسب تقديم
مقدماتها ومنها الطهارة فهي مفتاح الصلاة كما في الحديث : "مفتاح الصلاة
الطهور" وذلك لأن الحدث يمنع الصلاة على المحدث .
فالطهارة أوكد شروط الصلاة والشرط لا بد أن يقدم على المشروط .
فالمسلم في أشد الحاجة إلى تعلم أحكام المياه قبل غيره من أبواب الطهارة .
ولذلك يبدأ الفقهاء بباب المياه في مصنفاتهم في كتاب الطهارة لأن هذه
الطهارة وهي ( رفع الحدث وزوال الخبث ) تحتاج إلي شيء يُتطهر به وهذا الشئ
هو الماء أو ما يقوم مقامه .
ومن الأحكام التي تتعلق بالمياه ما يلي :
● تعريف المياه :
المياه في اللغة : جمع ماء والماء معروف والهمزة فيه مبدلة من الهاء وأصله
موه بالتحريك تحولت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً ثم أبدلت الهاء
همزة .
ويجمع على أمواه جمع قلة وعلى مياه جمع كثرة .
وفي الاصطلاح : الماء جسم لطيف سيال به حياة كل نام .
● صفة الماء التي خُلق عليها وحُكم استعماله :
خُلق الماء طهوراً أي طاهراً في نفسه ومطهراً لغيره قال الله تعالى : ( وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ) .
وقال تعالى : ( إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ
عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ
عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ ) .
والطهور بفتح الطاء على وزن فعول وفعول : اسم لما يفعل به الشيء .
فالطهور بالفتح : اسم لما يتطهر به والسحور بالفتح : اسم للطعام الذي يتسحر به وأما طهور وسحور بالضم فهو الفعل .
وهذا الماء يطلق عليه أيضاً ( ماء مطلق ) لأنه عاري عن القيود والإضافة اللازمة .
فخرج بقول ( عاري عن القيود ) قوله تعالي ( مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ) وقوله (
مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ ) وخرج بقول ( والإضافة اللازمة ) ماء الورد وماء
الزعفران والماء المعتصر من شجر أو ثمر وكذلك الماء المستعمل عند أكثر
الفقهاء لأنها مياه مقيدة بقيد لازم لا يطلق الماء عليه بدونه واحترز
بالإضافة اللازمة عن الإضافة غير اللازمة كماء النهر وماء البحر ونحو ذلك
لأن هذه الإضافة لا تخرج الماء عن كونه طاهراً مطهراً لبقاء الإطلاق عليه
وتستعمل بدونها فهي مياه مطلقة .
وقيل : سمي مطلقاًَ لأن الماء إذا اطلق انصرف اللفظ إليه .
وقيل : هو الذي لم يضف إلي شئ من الأمور التي تخالطه فإن خالطه شئ أوجب إضافته إليه .
وهذا الماء يستعمل في رفع الحدث ويزال به النجس ويستعمل في العادات مثل الأكل والشرب ونحو ذلك
والمراد بارتفاع الحدث : إزالة الوصف المانع من الصلاة باستعمال الماء في
جميع البدن إن كان الحدث أكبر وإن كان حدثاً أصغر يكفي مروره على أعضاء
الوضوء بنية وإن فقد الماء أو عجز عنه استعمل ما ينوب عنه وهو التراب على
الصفة المأمور بها شرعاً .
والمراد بزوال الخَبَث : أي: زوال النجاسة من البدن والثوب والمكان .
أما حُكم استعماله في الطهارة من الحدث :
فقد أجمع العلماء على أن الطهارة من الحدث بنوعيه ( الأكبر والأصغر ) لا تكون إلا بشيئين :
الأول : أصل وهو ( الماء الطهور ) .
الثاني : ما يقوم مقام الماء عند تعذر استعماله وهو ( التيمم بالصعيد الطاهر ) .
والدليل على وجوب استعمال الماء عند القدرة على ذلك في الطهارة من الحدث
بنوعيه قوله تعالى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا } المائدة : 6
وعن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( إن الصعيد
الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجد الماء فليمسه بشرته
فإن ذلك خير ) رواه الترمذي وأحمد وصححه الشيخ الألباني رحمه الله .
فأمر الشارع الحكيم بالعدول إلى التيمم في حالة عدم وجود الماء ولو وجد
غيره من المائعات والسوائل ولو كان ثََّم مائع غيره يجوز التطهر به لنقل
إليه فدل هذا علي أنه عند عدم الماء ينتقل إلي البدل وهو التيمم ولا ينتقل
إلي غيره من المائعات لعدم وجود ما يدل علي ذلك .
فكل شيء سوى الماء من المائعات لا تحصل به الطهارة من الحدث كالخل والبنزين والعصير والليمون وما شابه ذلك .
أما دليل وجوب ( التيمم ) بالصعيد الطاهر وهو ( بدل عن الطهارة بالماء )
إذا تعذر استعمال الماء في جميع أعضاء الطهارة أو بعضها لعدم وجوده أو
لخوف ضرر باستعماله مع وجوده .
قوله تعالي : ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ
أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ
تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ... ) النساء : 43
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى
رجلاً معتزلاً لم يصل في القوم فقال : يا فلان ما منعك أن تصلي في القوم
فقال يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء قال : عليك بالصعيد فإنه يكفيك )
رواه البخاري .
وعن سعيد بن عبدالرحمن بن أبزى عن أبيه قال ( جاء رجل إلى عمر بن الخطاب
فقال إني أجنبت فلم أصب الماء فقال عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب أما تذكر
أنا كنا في سفر أنا وأنت فأما أنت فلم تصل وأما أنا فتمعكت فصليت فذكرت
للنبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنما كان يكفيك
هكذا فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما
وجهه وكفيه ) رواه البخاري ومسلم ... وهذا هو التيمم .
● حُكم استعمال الماء في الطهارة من الخبث ( النجاسة ) :
تنقسم النجاسة الحسية إلي قسمين :
1- نجاسة عينية : وهي العين التي حكم الشارع الحكيم بنجاستها مثل البول
والغائط ونحو ذلك من النجاسات العينية ويطلق عليها العين النَجسة .
2- نجاسة حُكمية أو نجاسة طارئة : وهي النجاسة العينية التي وردت على محل
طاهر فنجسته سواء كان هذا المحل بدن أو ثوب أو مكان فهي إذن العين الطاهرة
التي حلت بها نجاسة عينية فنجستها ويطلق عليها العين المُتنجسة .
● أولاً : النجاسة العينية :
ذهب جمهور العلماء إلى أن النجاسة العينية لا تطهر بحال من الأحوال لا يطهرها لا الماء ولا غيره ولكن هل تطهر بالإستحالة
فيها خلاف بين العلماء على قولين :
القول الأول : أن نجس العين يطهر بالاستحالة وهو مذهب الحنفية والمالكية
وهي رواية عن أحمد اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو مذهب
الظاهرية .
القول الثاني : أن النجاسة العينية لا تطهر بالإستحالة وهو قول الشافعي
وأحد القولين في مذهب مالك وهو إحدى الروايتين في مذهب أحمد .
والاستحالة هي : تغير العين وانقلاب حقيقتها إلى حقيقة أخرى .
أو هي : تغير يحصل في العين النجسة يؤدي إلى زوال أعراضها وتبدل أوصافها كالعذرة تصبح رماداً والخمر ينقلب خلاً والخنزير ملحاً .
والعلماء متفقون على هذا المضمون للاستحالة وإن اختلفت عباراتهم .
وسيأتي تفصيل ذلك في موضعه إن شاء الله في أحكام النجاسات وإزالتها .
● ثانياً : النجاسة الطارئة :
أجمع العلماء علي أنها تطهر بالماء واختلفوا في حُكم إزالتها وطهارتها بغير الماء على قولين :
القول الأول :
ذهب جمهور العلماء مالك والشافعي في الجديد وأحمد في المشهور عنه وهو قول
محمد بن الحسن وزفر من الأحناف إلي تعيين الماء في إزالة النجاسة الطارئة
علي محل طاهر وأن غير الماء لا يجزئ وانتصر له الشوكاني رحمه الله ورجحه
الشيخ ابن باز رحمه الله .
واستدلوا :
بحديث أسماء رضي الله عنها قالت : ( جاءت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم
فقالت أرأيت إحدانا تحيض في الثوب كيف تصنع قال تحته ثم تقرصه بالماء
وتنضحه وتصلي فيه ) رواه البخاري ومسلم .
والشاهد قوله : ( بالماء ) فهذا دليل على تعين الماء لإزالة النجاسة .
وبحديث أبوهريرة رضي الله عنه قال قام أعرابي فبال في المسجد فتناوله
الناس فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم ( دعوه وهريقوا على بوله سجلاً
من ماء أو ذنوباً من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ) رواه
البخاري .
وبحديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت ( أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم
بصبي فبال على ثوبه فدعا بماء فأتبعه إياه ) رواه البخاري .
فقوله صلى الله عليه وسلم في الأعرابي الذي بال في المسجد : ( أهريقوا على
بوله سجلاً من ماء ) ( ولما بال الصبي على حجره دعا بماء فأتبعه إياه )
فيه دلالة على أنه لا يزيل النجس إلا الماء فلو أزلنا النجاسة بغير الماء
لم تطهر .
القول الثاني : بينما ذهب أبوحنيفة وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد
وغيرهما إلي أن النجاسة إذا زال وصفها بغير الماء بالشمس أو الاستحالة أو
الريح أو بأي شئ آخر بشرط أن يكون طاهراً فإن ذلك كاف فلو أن النجاسة تركت
حتى زالت أوصافها بذلك فإن المحل يعود حكمه إلى الطهارة .
واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ورجحه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله .
واستدلوا :
بحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: ( طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب
) رواه البخاري ومسلم .
فأطلق الغسل ولم يقيده بالماء وتقييده بالماء يحتاج إلي دليل .
وكذلك حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال : ( كانت الكلاب تبول وتقبل
وتدبر في المسجد في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكونوا يرشون
شيئاً من ذلك ) رواه البخاري .
ولأن إزالة النجاسات ليست من باب المأمور بل من باب اجتناب المحظور فإذا
حصل بأي سبب ثبت الحكم ولأن المقصود هو إزالة عين النجاسة فمتي زالت بأي
مزيل طاهر غير الماء مثل الخل أو البنزين أو الصابون أو بتأثير الشمس أو
الريح ونحو ذلك صار المحل المتنجس طاهراً لأن ( الحكم يدور مع علته وجوداً
وعدماً ) فإذا زالت العلة زال الحكم وإذا وجدت العلة وجد الحكم وهذه قاعدة
من قواعد الأصول فإذا زالت النجاسة بأي مزيل طاهر فإن المحل يعود إلي حكمه
الأصلي وهو الطهارة .
وأما ذكر الماء في التطهير في الأدلة فلا يدل تعيينه على تعينه لأن تعيينه لكونه أسرع في الإزالة وأيسر على المكلف .
● أقسام المياه :
اختلف العلماء في تقسيم المياه على قولين :
القول الأول : أنه ينقسم إلي قسمين ( طهور ونجس ) وهذا قول الثوري وأحمد
في رواية عنه واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم
والشوكاني وغيرهم ورجحه الشيخ ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله .
قال شيخ الإسلام رحمه الله : ( وإثبات ماء طاهر غير مطهر لا أصل له في الكتاب والسنة ) أهـ .
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله : ( الصواب : أن الماء المطلق قسمان : طهور ونجس ) أهـ .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : ( الصحيح أن الماء قسمان فقط : طهور
ونجس فما تغير بنجاسة فهو نجس وما لم يتغير بنجاسة فهو طهور وأن الطاهر
قسم لا وجود له في الشريعة وهذا اختيار شيخ الإسلام والدليل على هذا عدم
الدليل إذ لو كان قسم الطاهر موجوداً في الشرع لكان أمراً معلوماً مفهوماً
تأتي به الأحاديث بينة واضحة لأنه ليس بالأمر الهين إذ يترتب عليه إما أن
يتطهر بماء أو يتيمم فالناس يحتاجون إليه كحاجتهم إلى العلم بنواقض الوضوء
وما أشبه ذلك من الأمور التي تتوافر الدواعي على نقلها لو كانت ثابتة ) .
أهـ
قال الشيخ حمد بن عبد الله الحمد : ( الصواب والصحيح أن المياه إنما تنقسم
إلى قسمين : مياه طاهرة يصح للمسلم أن يتطهر بها ومياه نجسة وأما أن يكون
هناك ماء يسمى ماءً وهو مع ذلك لا يطهر فهذا ليس بصحيح ) أهـ .
وقال وليد بن راشد السعيدان : ( اختلف العلماء في تقسيم المياه وهذا
التقسيم إنما باعتبار الوارد عليه فقط أما الماء باعتبار أصله فلا يقسم
إلى أقسام ذلك لأن الأصل فيه أنه طهور مطهر فالماء باعتبار أصله قسم واحد
لكن باعتبار الطارئ عليه لا يخلو إما أن يكون الطارئ نجساً أو طاهراً فإن
كان نجساً وغيره فهو الماء النجس وإن كان طاهراً وغير وصفه واسمه المطلق
فهو الطاهر لأنه يخرج حينئذ عن مسمى الماء أصلاً والذي أريد إثباته هنا هو
أن الماء باعتبار أصله قسم واحد وهو أنه طهور مطهر .
العلماء يبحثون في أقسامه باعتبار ما يطرأ عليه مما يخرجه عن أصله الأول
والراجح من تقسيمهم هو أن الماء قسمان طهور ونجس هذا هو ما دلت عليه
الأدلة ) أهـ .
القول الثاني : أنه ينقسم إلي ثلاثة أقسام ( طهور وطاهر ونجس ) وهو قول الجمهور .
أولاً : الماء الطهور :
الماء الطهور هو : ( كل ماء نزل من السماء أو نبع من الأرض وبقي على أصل
خلقته ) أي لم تتغير أحد أوصافه الثلاثة وهي "اللون والطعم والريح" بشيء
من الأشياء التي تسلب طهورية الماء .
وعرفه الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله بقوله : ( والماء الطهور هو
( الماء الباقي على خلقته حقيقة بحيث لم يتغير شيء من أوصافه أو حكماً
بحيث تغير بما لا يسلبه الطهورية ) فمثلاً : الماء الذي نخرجه من البئر
على طبيعته ساخناً لم يتغير .
وأيضاً : الماء النازل من السماء طهور لأنه باقٍ على خلقته هذان مثالان للباقي على خلقته حقيقة .
وقولنا : ( أو حكماً ) كالماء المتغير بغير ممازج أو المتغير بما يشق صون
الماء عنه فهذا طهور لكنه لم يبق على خلقته حقيقة وكذلك الماء المسخن فإنه
ليس على حقيقته لأنه سخن ومع ذلك فهو طهور لأنه باق على خلقته حكماً ) أهـ
وعبر الفقهاء عن هذا الماء بالطهور إلا أنهم اختلفوا في المراد بالطهور على قولين :
القول الأول : أن الطهور هو الطاهر المطهر وهو مذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة .
واستدلوا بما يلي :
أولاً : أن لفظة طهور جاءت في لسان الشرع للمطهر ومن هذا :
1- قول اللّه تعالى : { وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُوراً }
فقوله : ( طَهُوراً ) يراد به ما يتطهر به يفسر ذلك قوله تعالى {
وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ } فهذه
الآية مفسرة للمراد بالأولى .
2- وما ورد عن جابر بن عبداللّه رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال : ( أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر
وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ... ) رواه البخاري ومسلم .
فوجه الدلالة من هذا الحديث ظاهرة إذ لو كان المراد بالطهور الطاهر فقط لم
يكن فيه مزية لأنه طاهر في حق كل أحد والحديث إنما سيق لإثبات الخصوصية
فقد اختص الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته بالتطهر بالتراب .
3- وما رواه أنس مرفوعاً : ( جعلت لي كل أرض طيبة مسجداً وطهوراً ) .
فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن كل أرض طيبة جعلت له مسجداً
وطهوراً والطيبة الطاهرة فلو كان معنى طهوراً : طاهراً للزم تحصيل الحاصل
وتحصيل الحاصل بالنسبة له محال فتعين أن يكون المراد به المطهر لغيره .
4- وما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
سئل عن التوضؤ بماء البحر فقال : ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته ) رواه
أبوداود والترمذي .
وجه الدلالة : أنهم سألوا عن التطهر بماء البحر لا عن طهارته وأجاب النبي
صلى الله عليه وسلم بقوله هذا عن سؤالهم عن حكم التطهر بماء البحر ولولا
أنهم يفهمون من الطهور أنه المطهر لم يحصل الجواب .
ثانياً : أن العرب فرقت بين اسم الفاعل وصيغة المبالغة فقالت : قاعد لمن
وجد منه القُعود وقَعود : لمن يتكرر منه ذلك فينبغي أن يفرق بين الطهور
والطاهر من حيث التعدي واللزوم فالطهور من الأسماء المتعدية وهو الذي يطهر
غيره والطاهر من الأسماء اللازمة .
القول الثاني : إن الطهور هو الطاهر وهو المذهب عند الحنفية واختيار
الخرقي من الحنابلة وهو محكي عن الحسن البصري وسفيان وأبي بكر الأصم وابن
داود قول بعض أهل اللغة .
واحتجوا بما يلي :
أولاً : قول اللّه تعالى : { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } .
وجه الدلالة : أن هذه الآية في بيان نعيم أهل الجنة ومعلوم أن أهل الجنة
لا يحتاجون إلى التطهير من حدث ولا نجس فعلم أن المراد بالطهور الطاهر .
ثانياً : قول جرير في وصف النساء :
خليلي هل في نظرة بعد توبة أداوي بها قلبي علي فجور
إلى رجح الأكفال هيف خصورها عذاب الثنايا ريقهن طهور
وجه الدلالة : أنه وصف الريق بأنه طهور والريق لا يتطهر به وإنما مراده أنه طاهر .
ثالثاً : والطهور يفيد التطهير من طريق المعنى وهو أن هذه الصيغة للمبالغة
فإن في الشكور والغفور من المبالغة ما ليس في الغافر والشاكر فلا بد أن
يكون في الطهور معنى زائد ليس في الطاهر ولا تكون تلك المبالغة في طهارة
الماء إلا باعتبار التطهير لأن في نفس الطهارة كلتا الصفتين سواء فتكون
صفة التطهير له بهذا الطريق لا أن الطهور بمعنى المطهر .
وقد أجاب الجمهور عن أدلتهم :
1- أما قوله تعالى : { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا } .
فيجاب عنه بأن الله تعالى وصف الشراب بأعلى الصفات وهي التطهير .
2- وقول جرير أجابوا عنه بقولهم : إنه حجة لنا لأنه قصد تفضيلهن على سائر
النساء فوصف ريقهن بأنه مطهر يتطهر به لكمالهن وطيب ريقهن وامتيازه على
غيره ولا يصح حمله على ظاهره فإنه لا مزية لهن في ذلك فإن كل النساء ريقهن
طاهر بل البقر والغنم وكل حيوان غير الكلب والخنزير .
● أنواع الماء الطهور ( المطلق ) :
الماء الطهور يندرج تحته من الأنواع ما يأتي :
1 - ماء السماء أي النازل منها يعني ( ماء المطر وماء الثلج والبرد بعد
الذوبان ) لقول الله تعالى : ( وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ
مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ) وقوله تعالى ( وَأَنْزَلْنَا مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ) ولحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ( كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر في الصلاة سكت هنية قبل أن يقرأ
فقلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما
تقول قال أقول : اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق
والمغرب اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس اللهم
اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد ) رواه البخاري ومسلم .
2 - ماء البحار والأنهار لحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ( سأل رجل
النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنا
القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ بماء البحر فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم هو الطهور ماؤه الحل ميتته ) رواه أبوداود والترمذي
والنسائي وابن ماجة وغيرهم وصححه الشيخ الألباني رحمه الله .
وعنه رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( أرأيتم
لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء
قالوا لا يبقى من درنه شيء قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا ) رواه البخاري ومسلم واللفظ له .
3 - ماء الآبار والعيون والأودية لحديث عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه (
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بسجل من ماء زمزم فشرب منه وتوضأ )
رواه أحمد وصححه الشيخ الألباني رحمه الله .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم
أنتوضأ من بئر بضاعة وهي بئر يطرح فيها الحيض ولحم الكلاب والنتن فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الماء طهور لا ينجسه شيء ) رواه أبوداود
والترمذي والنسائي والبيهقي وأحمد وصححه الشيخ الألباني رحمه الله .
4 - الماء المتغير بطول المكث أو بسبب مقره أو بمخالطة ما لا ينفك عنه
غالباً كالطحلب وورق الشجر فإن اسم الماء المطلق يتناوله باتفاق العلماء .
وقد اختلف الفقهاء في استعمال بعض أنواع الماء المطلق على النحو التالي :
أولاً : ماء البحر :
اختلف الماء في ماء البحر على قولين :
القول الأول : ذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة إلى جواز
استعمال ماء البحر في الطهارة من الأحداث والأنجاس من غير كراهة وهذا هو
مذهب جمهور الصحابة والتابعين .
فروي عن أبي الطفيل قال : ( قال أبوبكر في البحر : « هو الطهور ماؤه الحل ميتته » .
وروي عن عكرمة أن عمر سئل عن ماء البحر فقال : « وأي ماء أطهر من ماء البحر » .
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : « من لم يطهره ماء البحر فلا طهره الله » .
وروي عن موسى بن سلمة عن ابن عباس أنه قال : « ماء البحر طهور » .
قال الترمذي رحمه الله : ( وهو قول أكثر الفقهاء من أصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم منهم أبوبكر وعمر وابن عباس لم يروا بأسا بماء البحر ... ) أهـ .
واستدلوا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم : « هو الطهور ماؤه , الحل
ميتته » ولأن مطلق اسم الماء يطلق على ماء البحر فيقع التطهر به .
وقال ابن المنذر رحمه الله : ( وبه قال عطاء وطاوس والحسن وهو قول مالك بن
أنس وأهل المدينة وسفيان الثوري وأهل الكوفة والأوزاعي وأهل الشام وبه قال
الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وبه نقول لظاهر نص الكتاب وهو قوله تعالى
: { فلم تجدوا ماء } النساء : 43 وماء البحر من المياه داخل في جملة قوله
: { فلم تجدوا ماء } النساء : 43 .
وللثابت عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « هو الطهور ماؤه الحل
ميتته » وللرواية التي رويناها عن أبي بكر وعمر وهو قول عوام أهل العلم )
أهـ .
القول الثاني :حكي عن عبدالله بن عمر وعبدالله بن عمرو أنهما قالا في
البحر : ( التيمم أعجب إلينا منه ) وحكاه الماوردي عن سعيد بن المسيب : أي
كانوا لا يرون جواز الوضوء به .
قال ابن المنذر رحمه الله : ( روينا عن ابن عمر أنه قال : في الوضوء من
ماء البحر التيمم أحب إلي منه . وروينا عن عبدالله بن عمرو بن العاص أنه
قال : إن تحت بحركم هذا نارا وتحت النار بحر وتحت البحر نار وتحت النار
بحر حتى عد سبعة أبحر وسبعة أنور لا يجزي منه الوضوء ولا الغسل من الجنابة
والتيمم أعجب إلي ) أهـ .
وقال النووي رحمه الله : ( وحكي عن عبداللّه بن عمر وعبداللّه بن عمرو بن
العاص وسعيد بن المسيب وابن عبدالبر كراهة التطهر به ) أهـ .
وقال ابن رشد رحمه الله : ( وأجمع العلماء على أن جميع أنواع المياه طاهرة
في نفسها مطهرة لغيرها إلا ماء البحر فإن فيه خلافاً في الصدر الأول شاذاً
وهم محجوجون بتناول اسم الماء المطلق له وبالأثر الذي خرجه مالك وهو قوله
عليه الصلاة والسلام في البحر : "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" وهو وإن كان
حديثا مختلفا في صحته فظاهر الشرع يعضده ) أهـ .
ثانياً - ماء الثلج :
لا خلاف بين الفقهاء في جواز التّطهر بماء الثلج إذا ذاب .
وإنّما الخلاف بينهم في استعماله قبل الإذابة على ثلاثة أقوال :
القول الأول : ذهب المالكية والحنابلة وهو المعتمد عند الحنفية إلى عدم
جواز التطهر بالثلج قبل الإذابة ما لم يتقاطر ويسل على العضو .
يقول صاحب الدر المختار : " يرفع الحدث مطلقاً بماء مطلق , وهو ما يتبادر
عند الإطلاق كماء سماء وأودية وعيون وآبار وبحار وثلج مذاب بحيث يتقاطر " .
ويقول صاحب الشرح الكبير : وهو - أي الماء المطلق - ما صدق عليه اسم ماء
بلا قيد وإن جمع من ندًى أو ذاب أي تميع بعد جموده كالثلج وهو ما ينزل
مائعاً ثم يجمد على الأرض .
ويقول صاحب المغني : الذّائب من الثّلج والبرد طهور , لأنّه ماء نزل من
السّماء , وفي دعاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « اللهم اغسل خطاياي
بالماء والثلج والبرد » .
فإن أخذ الثلج فمرره على أعضائه لم تحصل الطهارة به ولو ابتل به العضو لأن
الواجب الغسل وأقل ذلك أن يجري الماء على العضو إلّا أن يكون خفيفاً فيذوب
ويجري ماؤه على الأعضاء فيحصل به الغسل فيجزئه
القول الثّاني : ذهب أبو يوسف من الحنفية والأوزاعي إلى جواز التطهر به وإن لم يتقاطر .
يقول الطحطاوي : قوله " بحيث يتقاطر " هو المعتمد وعن أبي يوسف : يجوز وإن لم يتقاطر .
ويقول النووي : وحكى أصحابنا عن الأوزاعي جواز الوضوء به وإن لم يسل
ويجزيه في المغسول والممسوح وهذا ضعيف أو باطل إن صح عنه لأنّه لا يسمى
غسلاً ولا في معناه .
القول الثالث : فرق الشافعية بين سيل الثلج على العضو لشدة حرّ وحرارة الجسم ورخاوة الثلج وبين عدم سيله .
فإن سال على العضو صح الوضوء على الصحيح لحصول جريان الماء على العضو وقيل
: لا يصح لأنه لا يسمى غسلاً حكاه جماعة منهم الماوردي والدارمي وإن لم
يسل لم يصحّ بلا خلاف في المغسول ويصح مسح الممسوح منه وهو الرأس والخف
والجبيرة وهو المذهب عندهم .
ثالثاً - ماء زمزم :
اختلف الفقهاء في حكم استعمال ماء زمزم في الطهارة من الحدث أو إزالة النجس على ثلاثة أقوال :
القول الأول : ذهب الحنفية والشافعية وأحمد في رواية وابن شعبان من
المالكية إلى جواز استعمال ماء زمزم من غير كراهة في إزالة الأحداث أما في
إزالة الأنجاس فيكره تشريفاً له وإكراماً .
ودليلهم ما ثبت في المسند وصححه الشيخ أحمد شاكر عن علي بن أبي طالب رضي
الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( دعا بسجل من ماء زمزم فشرب
منه وتوضأ ) وقالوا : إن قول العباس هذا لم يثبت عنه بل هو ثابت عن أبيه
عبد المطلب ولو ثبت عن العباس فإنه لم يؤخذ بصريحه في التحريم ففي غيره
أولى وأيضاً فإن شرف الماء وبركته لا يوجب كراهة استعماله ؛ بدليل الماء
الذي نبع من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم ؛ ولأن ماء زمزم يدخل في مطلق
الماء .
القول الثّاني : ذهب المالكية إلى جواز استعمال ماء زمزم من غير كراهة
مطلقاً أي سواء أكان الاستعمال في الطهارة من الحدث أم في إزالة النجس .
القول الثّالث : ذهب أحمد في رواية إلى كراهة استعماله مطلقاً أي في إزالة
الحدث والنّجس لقول لقول العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه : « لا أحلها
لمغتسل يغتسل في المسجد وهي لشارب ومتوضّئٍ حل وبل » .
لكن بعض العلماء كره استعماله في إزالة النجاسة وبعضهم قال : هو خلاف الأولى وآخرون بالغوا فقالوا بالتحريم .
ولكن لا دليل على تخصيص ماء زمزم بشيء مما ذكر فهو ماء كسائر المياه إلا
أن له شرفاً لبركته التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم وهذا لا يوجب
تحريم استعماله في إزالة النجاسة ولا كراهته وإن كان الأولى عدم إزالة
النجاسة به مع وجود غيره .
قال ابن قدامة رحمه الله في المغني : ( ولا يكره الوضوء والغسل بماء زمزم
لأنه ماء طهور فأشبه سائر المياه وعنه يكره لقول العباس : ( لا أحلها
لمغتسل لكن للمحرم حل وبل ) ولأنه يزيل به مانعاً من الصلاة أشبه إزالة
النجاسة به والأول أولى وقول العباس لا يؤخذ بصريحه في التحريم ففي غيره
أولى وشرفه لا يوجب الكراهة لاستعماله كالماء الذي وضع فيه النبي صلى الله
عليه و سلم كفته أو اغتسل منه ) أهـ
وقال النووي رحمه الله في المنهاج : ( ولا يكره الطهر بماء زمزم ولكن الأولى عدم إزالة النجاسة به ) أهـ
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله عندما سُئل هل يجوز الاستنجاء بماء زمزم
الجواب : ماء زمزم قد دلت الأحاديث الصحيحة على أنه ماء شريف مبارك وقد
ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في زمزم : ( إنها
مباركة إنها طعام طعم ) وزاد في رواية عند أبي داود بسند جيد : ( وشفاء
سقم ) فهذا الحديث الصحيح يدل على فضل ماء زمزم وأنه طعام طعم وشفاء سقم
وأنه مبارك والسنة : الشرب منه كما شرب النبي صلى الله عليه وسلم منه
ويجوز الوضوء منه والاستنجاء وكذلك الغسل من الجنابة إذا دعت الحاجة إلى
ذلك .
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه نبع الماء من بين أصابعه ثم أخذ الناس
حاجتهم من هذا الماء ليشربوا ويتوضئوا وليغسلوا ثيابهم ، وليستنجوا كل هذا
واقع .
وماء زمزم إن لم يكن مثل الماء الذي نبع من بين أصابع النبي صلى الله عليه
وسلم لم يكن فوق ذلك فكلاهما ماء شريف فإذا جاز الوضوء والاغتسال
والاستنجاء وغسل الثياب من الماء الذي نبع من بين أصابعه صلى الله عليه
وسلم فهكذا يجوز من ماء زمزم وبكل حال فهو ماء طهور طيب يستحب الشرب منه
ولا حرج في الوضوء منه ولا حرج في غسل الثياب منه ولا حرج في الاستنجاء
إذا دعت الحاجة إلى ذلك كما تقدم وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال : ( ماء زمزم لما شرب له ) أخرجه أحمد وابن ماجة وفي سنده ضعف ولكن
يشهد له الحديث الصحيح المتقدم والحمد لله ) . أهـ
وقال الشيخ عبدالله الفقيه عندما سُئل ما حكم الاستنجاء بماء زمزم
: ( الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد :
فالاستنجاء بماء زمزم مجزئ بإجماع أهل العلم كما ذكر ذلك الماوردي وحكاه
عنه النووي في المجموع .
ولكن نص كثير من الفقهاء على كراهة استعماله في مواضع الامتهان كإزالة
النجاسة ويدخل في ذلك الاستنجاء، وهو مع ذلك مجزئ وعلة الكراهة أنه ماء
معظم مبارك قال ابن القيم : هو سيد المياه وأشرفها وأجلها قدراً وأحبها
إلى النفوس وأغلاها ثمناً وأنفسها عند الناس وهو هزمة جبريل وسقيا إسماعيل
.
وأما الوضوء والغسل به فالصحيح جوازه بلا كراهة؛ لما جاء في المسند وصححه
الشيخ أحمد شاكر عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : (
دعا بسجل من ماء زمزم فشرب منه وتوضأ والله أعلم ) . أهـ
وقال الشيخ محمد بن محمد المختار الشنقيطي عندما سُئل ما الحكم في استخدام ماء زمزم في إزالة النجاسة
الجواب : إزالة النجاسة بالمطعوم مشدد فيها وبالنسبة لماء زمزم وإن كان
أصله مشروباً لكنه لوجود احترامه شرعاً وإمكان إزالة النجاسة بالبديل عنه
وهو الماء المطلق شدد العلماء في ذلك وكان العباس رضي الله عنه صاحب
السقاية كما ثبت في الصحيح عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص له أن
يبيت في مكة من أجل السقاية يقول : ( لا أحلها يعني : زمزم لا أحلها
لمغتسل وهي لشارب حل وبل ) أي : لا أحل ماء زمزم لمغتسل أن يغتسل به وفي
القديم كان نزحه صعباً ولذلك كان الاغتسال به يحتاج إلى أن يأخذ منه دلواً
أو نحو ذلك فيضر بالناس التي تريد منه ولو شربة واحدة فكان يقول : ( لا
أحله لمغتسل وهو لشارب ) أي : لمن يريد أن يشربه ( حل وبِل ) قيل : ( حل )
حلال وبِل أي : ( بِلٌ ) لحرارة قلبه أو حرارة جسده من العطش وقيل : ( بِل
) : إنها للاتباع ولا يراد معناها كقولهم : حيص بيص وكقولهم : حياك وبياك
فإن بياك ليس لها معنى فقالوا : إن بِلّ بهذا المعنى والمقصود : أنهم
كانوا يكرهون الاغتسال بماء زمزم وهذه الكراهة لغسل ظاهر الجسد مع طهارته
فكيف بغسل النجاسة والمحفوظ من فتاوى أهل العلم رحمة الله عليهم أنهم
كانوا يشددون في هذا الأمر ولا يستحبون تطهير النجاسات به ) أهـ
رابعاً - الماء الآجن :
وهو الماء الذي تغير بطول مكثه في المكان من غير مخالطة شيء ويقرب منه الماء الآسن .
وذهب جمهور الفقهاء إلى جواز استعمال الماء الآجن من غير كراهة .
واستدلوا على ذلك بالنصوص المطلقة ولأنه لا يمكن الاحتراز منه فأشبه بما يتعذر صونه عنه .
ونقل عن ابن سيرين القول بكراهة استعمال الماء الآجن .
قال ابن المنذر رحمه الله : ( أجمع كل من يُحفظ قوله من أهل العلم على أن
الوضوء بالماء الآجن من غير نجاسة حلت فيه جائز غير ابن سيرين فإنه كره
ذلك وقول الجمهور أولى فإنه يُروى أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من
بئر كأن ماءها نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ ) أهـ .
وقال ابن قدامة رحمه الله : ( الماء الآجن وهو الذي يتغير بطول مكثه في
المكان من غير مخالطة شيء يغيره باق على إطلاقه في قول أكثر أهل العلم .
قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ قوله من أهل العلم على الوضوء بالماء
الآجن من غير نجاسة حلت فيه جائز غير ابن سيرين فإنه كره ذلك وقول الجمهور
أولى فإنه يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من بئر كأن ماءه
نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ - أي ماء نقع فيه حناء - ولأنه تغير من غير مخالطة )
أهـ .
وقال ابن رشد رحمه الله : ( وأجمعوا على أن كل ما يغير الماء مما لا ينفك
عنه غالباً أنه لا يسلبه صفة الطهارة والتطهير إلا خلافاً شاذاً روي في
الماء الآجن عن ابن سيرين ... ) أهـ .
قال بن مفلح رحمه الله : ( الماء الآجن الذي تغير بطول إقامته في مقره باق
على إطلاقه لأنه عليه السلام توضأ بماء آجن ولأنه تغير عن غير مخالطة أشبه
المتغير بالمجاورة وحكاه ابن المنذر إجماع من يحفظ قوله من أهل العلم سوى
ابن سيرين فإنه كره ذلك ) أهـ .
وقال النووي رحمه الله : ( واما المتغير بالمكث فنقل ابن المنذر الاتفاق
علي أنه لا كراهة فيه إلا ابن سيرين فكرهه : ودليلنا النصوص المطلقة ولأنه
لا يمكن الاحتراز منه فأشبه المتغير بما يتعذر صونه عنه ) أهـ .
● أخي الحبيب :
● أكتفي بهذا القدر وللحديث بقية في الجزء الثاني إن شاء الله .
● وأسأل الله عز وجل أن يكون هذا البيان شافياً كافياً في توضيح المراد وأسأله سبحانه أن يرزقنا التوفيق والصواب في القول والعمل .
● وما كان من صواب فمن الله وما كان من خطأ أو زلل فمنى ومن الشيطان والله
ورسوله منه بريئان والله الموفق وصلي اللهم علي نبينا محمد وعلي آله
وأصحابه أجمعين .
أخوكم
أبومعاذ / عبدرب الصالحين أبوضيف العتمونى
وشهرته / عبدربه العتموني
ج . م . ع / محافظة سوهاج / مركز طما / قرية العتامنة
01002889832 / 002