قال
رحمه الله: ((من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله
عليه وسلم كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام فهو كافر)). وذلك لتضمنه تكذيب قول الله تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً
فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ
سَبِيلِهِ) [100].
وأخرج أحمد وأبو داود والطيالسي والدارمي وغيرهم عن ابن مسعود رضي الله
عنه؛ قال "خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًّا، ثم قال: "هذا سبيل
الله" ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله، ثم قال: "هذه سبل متفرقة، على كل
سبيل منها شيطان يدعو إليه"، ثم قرأ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً
فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ
سَبِيلِهِ) [101]. وأخرجه الحاكم وقال: "صحيح الإسناد".
فمن رغب الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، أو ظن الاستغناء عنها؛ فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه.
وقد بوب الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في "فضل الإسلام" باباً
عظيماً، فقال: "باب وجوب الاستغناء بمتابعة الكتاب عن كل ما سواه".
ولا شك أن الكتاب يأمرنا بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعدم الخروج
عن طاعته، بل إن الخروج عن طاعته من الأسباب الموجبة للنار؛ كما في "مسند
أحمد" و"صحيح البخاري" عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "كل أمتي يدخلون الجنة؛ إلا من أبى". قالوا: ومن يأبى يا
رسول الله؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى".
ثم ساق الشيخ رحمه الله قوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ... الآية) [102].
روى النسائي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه رأى في يد عمر بن
الخطاب رضي الله عنه ورقة من التوراة، فقال: أمتهوكون يا ابن الخطاب؟! لقد
جئتكم بها بيضاء نقية، ولو كان موسى حيًّا، واتبعتموه، وتركتموني، لضللتم".
وفي رواية: "ولو كان موسى حيًّا، ما وسعه إلا اتباعي". فقال عمر: رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبيًّا.
وهذا الحديث نص على أنه لا يسع أحداً الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم والأدلة على هذا كثيرة.
ولما كان الصحابة رضي الله عنهم أعلم الناس بالله، وأقوى الناس إيماناً؛ ما
كانوا يعرفون غير اتباعه واحترامه وتوقيره واتباع النور الذي أنزل إليه،
وما ذاك إلا لأن الله اصطفاهم لصحبة نبيه؛ فقد أخرج الإمام أحمد والبزار
وغيرهما بسند حسن عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ قال: "إن الله نظر في
قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه
لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب
العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه فما رأى المسلمون حسناً؛ فهو
عند الله حسن، وما رأوا سيئاً؛ فهو عند الله سيئ".
وافترض الله على جميع الناس طاعته، فمنهم من أطاع، ومنهم من عصى.
وانقسمت الأمة إلى قسمين: أ) أمة إجابة، وهم الذين أطاعوه واتبعوا النور الذي معه.
ب) وأمة دعوة، وهم الذين استكبروا عن طاعته ومتابعته.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعد كلام سبق [103]: "ومن هؤلاء من
يظن أن الاستمساك بالشريعة أمراً ونهياً إنما يجب عليه ما لم يحصل له من
المعرفة أو الحال، فإذا حصل له؛ لم يجب عليه حينئذ الاستمساك بالشريعة
النبوية، بل له حينئذ أن يمشي مع الحقيقة الكونية القدرية، أو يفعل بمقتضى
ذوقه ووجده وكشفه ورأيه؛ من غير اعتصام بالكتاب والسنة، وهؤلاء منهم من
يعاقب بسلب حاله حتى يصير منقوصاً عاجزاً محروماً، ومنهم من يعاقب بسلب
الطاعة حتى يصير فاسقاً، ومنهم من يعاقب بسلب الإيمان حتى يصير مرتداً
منافقاً أو كافراً معلناً، وهؤلاء كثيرون جدًّا، وكثير من هؤلاء يحتج بقصة
موسى والخضر".
وقال رحمه الله بعد هذا الكلام بورقة: "وأما احتجاجهم بقصة موسى والخضر، فيحتجون بها على وجهين:
أحدهما: أن يقولوا: إن الخضر كان مشاهداً الإرادة الربانية الشاملة
والمشيئة الإلهية العامة - وهي الحقيقة الكونية - فلذلك سقط عنه الملام
فيما خالف فيه الأمر والنهي الشرعي، وهو من عظيم الجهل والضلال، بل من عظيم
النفاق والكفر؛ فإن مضمون هذا الكلام: أن من آمن بالقدر، وشهد أن الله رب ك
شيء؛ لم يكن عليه أمر ولا نهي وهذا كفر بجميع كتب الله ورسوله وما جاؤوا
به من الأمر والنهي.. إلخ.
وأما الوجه الثاني: فإن من هؤلاء من يظن أن من الأولياء من يسوغ له الخروج
عن الشريعة النبوية كما ساغ للخضر الخروج عن متابعة موسى، وأنه قد يكون
للولي في المكاشفة والمخاطبة ما يستغني به عن متابعة الرسول في عموم أحواله
أو بعضها، وكثير منهم يفضل الولي في زعمه - إما مطلقاً وإما من بعض الوجوه
- على النبي؛ زاعمين أن في قصة الخضر حجة لهم.
وكل هذه المقالات من أعظم الجهالات والضلالات، بل من أعظم أنواع النفاق
والإلحاد والكفر، فإنه قد عُلم بالاضطرار من دين الإسلام أن رسالة محمد بن
عبد الله صلى الله عليه وسلم لجميع الناس؛ عربهم وعجمهم، وملوكهم وزهادهم؛
وعلمائهم وعامتهم، وأنها باقية دائمة إلى يوم القيامة، بل عامة الثقلين
الجن والإنس، وأنه ليس لأحد من الخلائق الخروج عن متابعته وطاعته وملازمته
ما يشرعه لأمته من الدين، وما سنه لهم من فعل المأمورات وترك المحظورات، بل
لو كان الأنبياء المتقدمون قبله أحياء؛ لوجب عليهم متابعته ومطاوعته".
إلى أن قال رحمه الله: "بل قد ثبت بالأحاديث الصحيحة: أن المسيح عيسى ابن
مريم: إذا نزل من السماء؛ فإنه يكون متبعاً لشريعة محمد بن عبد الله صلى
الله عليه وسلم.
فإذا كان صلى الله عليه وسلم يجب اتباعه ونصره على من يدركه من الأنبياء؛ فكيف بمن دونهم؟!
بل مما يُعلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز لمن بلغته دعوته أن
يتبع شريعة رسول غيره؛ كموسى وعيسى؛ فإذا لم يجز الخروج عن شريعته إلى
شريعة رسول فكيف بالخروج عنه والرسل..".
إلى أن قال: "ومما يبين الغلط الذي وقع لهم في الاحتجاج بقصة موسى والخضر
على مخالفة الشريعة: أن موسى عليه السلام لم يكن مبعوثاً إلى الخضر، ولا
أوجب الله على الخضر متابعته وطاعته، بل قد ثبت في "الصحيحين" أن الخضر قال
له: يا موسى! إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم
من علم الله علمكه الله لا أعلمه"، وذلك أن دعوة موسى كانت خاصة.
وقد ثبت في الصحاح من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال فيما
فضله الله به على الأنبياء؛ قال: "كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى
الناس عامة".
فدعوة محمد صلى الله عليه وسلم شاملة لجميع العباد، ليس لأحد الخروج عن
متابعته وطاعته، ولا استغناء عن رسالته، كما ساغ للخضر الخروج عن متابعة
موسى وطاعته؛ مستغنياً عنه بما علمه الله، وليس لأحد ممن أدركه الإسلام أن
يقول لمحمد: إنني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، ومن سوغ هذا،
أو اعتقد أن أحداً من الخلق الزهاد والعباد أو غيرهم له الخروج عن دعوة
محمد صلى الله عليه وسلم ومتابعته؛ فهو كافر باتفاق المسلمين، ودلائل هذا
في الكتاب والسنة أكثر من أن تذكر هنا.
وقصة الخضر ليس فيها خروج عن الشريعة، ولهذا؛ لما بين الخضر لموسى الأسباب
التي فعل لأجلها ما فعل؛ وافقه موسى، ولم يختلفا حينئذ، ولو كان ما فعله
الخضر مخالفاً لشريعة موسى، لما وافقه.." اه المقصود من كلامه رحمه الله،
وفيه البيان الشافي في هذه المسألة العظيمة.
وبهذا يتبن أنه لا يجوز لأحد أن يدعي الخروج عن شريعة محمد، كما يدعيه غلاة
الصوفية، ويفسرون قوله تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ
الْيَقِينُ ) [104]؛ أي: العلم والمعرفة، ويجوزون لمن حصل عنده علم ومعرفة
الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، ويسقطون عنه التكاليف، وهذا كفر
وخروج عن الإسلام باتفاق العلماء.
وما أحسن ما قاله العلامة ابن القيم في "نونيته":
<table align="center" border="0" cellspacing="0"><tr>
<td class="poem" align="right" width="300">فالكفر ليس سوى العناد ورد ما </td>
<td align="center" valign="bottom">
</td>
<td class="poem" align="left" valign="bottom" width="300"> جاء الرسول به لقول فلان
</td>
</tr>
<tr>
<td class="poem" align="right" width="300">فانظر لعلك هكذا دون التي </td>
<td align="center" valign="bottom">
</td>
<td class="poem" align="left" valign="bottom" width="300"> قد قالها فتبوء بالخسران
</td>
</tr>
</table>
فإذا كان رد ما جاء به الرسول كفراً، فكيف بالخروج عن شريعته بالكلية؟
فالله المستعان.
[100] الأنعام: 153.
[101] الأنعام: 153.
[102] النحل: 89.
[103] "الفتاوى" (11/418 –التصوف).
[104] الحجر: 99.